السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

وقوله تعالى :

{ كيف } تكرار للاستبعاد بثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوماً أي : كيف يكون لهم عهد ثابت { وإن } أي : والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة ، فهم إن { يظهروا عليكم } أي : يعلو أمرهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق { لا يرقبوا } أي : لا يراعوا { فيكم } أي : في أذاكم بكل جليل وحقير { إلا } أي : قرابة محققة قال حسان :

لعمرك إن إلّك من قريش *** كإلِّ السقب من رأل النعام

السقب : ولد الناقة ، والرأل : ولد النعامة ، والخطاب في لعمرك لأبي سفيان ، أي : لا قرابة بينك وبين قريش كما لا قرابة بين ولد الناقة وولد النعامة . وقيل : إلا إلهاً ، وقيل : جبريل { ولا ذمة } أي : عهداً بل يؤذوكم ما استطاعوا وقوله تعالى : { يرضونكم بأفواههم } أي : بكلامهم كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد { وتأبى قلوبهم } أي : عن الوفاء به لمخالفة ما فيها من الأضغان { وأكثرهم فاسقون } أي : راسخو الأقدام في الفسق .

فإن قيل : الموصوفون بهذه الصفة كفار ، والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم . وأيضاً الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله : وأكثرهم فائدة ؟ أجيب : بأنّ الكافر قد يكون عدلاً في دينه ، فلا ينقض العهد ، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه فينقضه ، فالمراد بالفسق هنا نقض العهد ، وكان في المشركين من وفى بعهده ، فلهذا قال : وأكثرهم أي : إنّ هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهد أكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم . وقال ابن عباس : لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال : { وأكثرهم فاسقون } حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام .