وبعد هذا الأمر من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتهديد الكافرين ، وجه - سبحانه - أمرا آخر له - صلى الله عليه وسلم - طلب منه فيه ، مواصلة دعوة المؤمنين إلى الاستمرار فى التزود من العمل الصالح فقال - تعالى - : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } .
قال الجمل : " قوله { قُل لِّعِبَادِيَ . . . إلخ } مفعول قل محذوف يدل عليه جوابه ، أى : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا - وقوله - يقيموا وينفقوا مجزومان فى جواب الأمر ، أى : إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا . . يقيموا وينفقوا .
ويجوز أن يكون قوله " يقيموا وينفقوا " مجزومين بلام الأمر المقدرة .
أى : ليقيموا الصلاة ولينفقوا . . . .
والمراد بإقامة الصلاة : المواظبة على أدائها فى أوقاتها المحددة لها ، مع استيفائها لأركانها وسننها وآدابها وخشوعها ، ومع إخلاص النية عند أدائها الله - تعالى - .
والمراد بالإِنفاق : ما يشمل جميع وجوه الإِنفاق الواجبة والمستحبة .
والمراد بقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } ما يتنول عموم الأحوال فى الحرص على بذل المال فى وجوهه المشروعة .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المخلصين ، الذين آمنوا إيمانا حقا ، قل لهم : ليستزيدوا من المواظبة على أداء الصلاة ، وعلى الإِنفاق مما رزقناهم فى جميع الأحوال ، بأن يجعلوا نفقتهم فى السر إذا كانت آداب الدين وتعاليمه تقتضى ذلك ، وأن يجعلوها فى العلن إذا كانت المنفعة فى ذلك .
والإِضافة فى قوله { لعبادى } للتشريف والتكريم لهؤلاء العباد المخلصين .
ولم تعطف هذه الآية الكريمة على ما قبلها وهو قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } للإِيذان بتباين حال الفريقين ، واختلاف شأنهما .
ومفعول { ينفقوا } محذوف والتقدير ينفقوا شيئا مما رزقناهم .
وعبر - سبحانه - بمن المفيدة للتبعيض فى قوله { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } للاشعار بأنهم قوم عقلاء يبتعدون فى إنفاقهم عن الإِسراف والتبذير ، عملا بقوله - تعالى - : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
وهذا التعبير - أيضا - يشعر بأن هذا المال الذى بين أيدى عباده - سبحانه - ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه ، ونعمة أنعم بها عليهم ، فعليهم أن يقابلوا أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر ، بأن ينفقوا جزءا منها فى وجوه الخير .
وقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } منصوبان على الحال أى : مسرين ومعلنين ، أو على المصدر أى : إنفاق سر وإنفاق علانية .
وقدم - سبحانه - إنفاق السر على العلانية للتنبيه على أنه أولى الأمرين فى معظم الأحوال لبعده عن خواطر الرياء ، ولأنه استر للمتصدق عليه .
وقوله - سبحانه - { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } مؤكد لمضمون ما قبله من الأمر بإقامة الصلاة وبالإِنفاق فى وجوه الخير بدون تردد أو إبطاء .
ولفظ " خلال " مصدر خاللت بمعنى صاحبت وصادقت ، أو جمع خليل بمعنى صديق ، أو جمع خلة بمعنى الصداقة كقلة وقلال .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - بأن من الواجب عليهم أن يكثروا ويداوموا على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق مما رزقهم - سبحانه - ، من قبل أن يفاجئهم يوم القيامة ، ذلك اليوم الذى لا تقبل فيه المعاوضات ، ولا تنفع فيه شفاعة الصديق لصديقه ، وإنما الذى يقبل وينفع فى هذا اليوم هو العمل الصالح الذى قدمه المسلم فى دنياه .
فالجملة الكريمة تفيد حضا آخر على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق عن طريق التذكير للناس بهذا اليوم الذى تنتهى فيه الأعمال ، ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم ، ولا تعويض ما فقدوه من طاعات .
كما تفيد أن المواظبة على أداء هاتين الشعيرتين ، من أعظم القربات التى يتقرب بها المسلم إلى خالقه - سبحانه - والتى تكون سببا فى رفع الدرجات يوم القيامة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون }
ودعهم وانصرف عنهم إلى ( عبادي الذين آمنوا ) . انصرف عنهم إلى موعظة الذين تجدي فيهم الموعظة . الذين يتقبلون نعمة الله ولا يردونها ، ولا يستبدلون بها الكفر . انصرف إليهم تعلمهم كيف يشكرون النعمة بالعبادة والطاعة والبر بعباد الله :
( قل لعبادي الذين آمنوا : يقيموا الصلاة ، وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) . .
قل لعبادي الذين آمنوا : يشكروا ربهم بإقامة الصلاة . فالصلاة أخص مظاهر الشكر لله . وينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق سرا وعلانية . سرا حيث تصان كرامة الآخذين ومروءة المعطين ، فلا يكون الإنفاق تفاخرا وتظاهرا ومباهاة . وعلانية حيث تعلن الطاعة بالإنفاق وتؤدى الفريضة ، وتكون القدوة الطيبة في المجتمع . وهذا وذلك متروك لحساسية الضمير المؤمن وتقديره للأحوال .
قل لهم : ينفقوا ليربو رصيدهم المدخر من قبل أن يأتي يوم لا تنمو فيه الأموال بتجارة ، ولا تنفع كذلك فيه صداقة ؛ إنما ينفع المدخر من الأعمال :
{ قل لعبادي الذين آمنوا } خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية ، ومفعول { قل } محذوف يدل عليه جوابه : أي قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا . { يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم } فيكون إيذانا بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ، ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في قوله :
محمد تفد نفسك كل نفسٍ *** إذا ما خفت من أمرٍ تبالاَ
لدلالة قل عليه . وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا مقامين مقامهما ، وهو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما بين الشرك وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا . { سرّاً وعلانية } منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية ، أو على الحال أي ذوي سر وعلانية ، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية ، والأحب إعلان الواجب وإخفاء المتطوع به . { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره أو يفدي به نفسه . { ولا خلال } ولا مخالة فيشفع لك خليل ، أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما على النفي العام .
«العباد » جمع عبد ، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد{[7079]} . وقوله : { يقيموا } قالت فرقة من النحويين : جزمه بإضمار لام الأمر على حد قول الشاعر : [ الوافر ]
محمد تفد نفسك كل نفس{[7080]} . . . أنشده سيبويه - إلا أنه قال : إن هذا لا يجوز إلا في شعر . وقالت فرقة : أبو علي وغيره - هو فعل مضارع بني لما كان في معنى فعل الأمر ، لأن المراد : أقيموا ، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك : يا زيد لما شبه بقبل وبعد{[7081]} ، وقال سيبويه : هو جواب شرط مقدر يتضمنه صدر الآية ، تقديره : إن تقل لهم أقيموا يقيموا .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله : { قل } ، وذلك أن يجعل { قل } في هذه الآية بمعنى : بلغ وأد الشيعة يقيموا الصلاة{[7082]} ، وهذا كله على أن المقول هو : الأمر بالإقامة والإنفاق . وقيل إن المقول هو : الآية التي بعد ، أعني قوله : { الله الذي خلق السماوات } .
و «السر » : صدقة التنقل ، و «العلانية » المفروضة - وهذا هو مقتضى الأحاديث - وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاة الأموال مجملاً ، وكذلك فسر الصلاة بأنها الخمس - وهذا منه - عندي - تقريب للمخاطب .
و { خلال } مصدر من خلل : إذا واد وصافى ، ومنه الخلة والخليل وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى . . . ولست بمقلي الخلال ولا قال{[7083]}
وقال الأخفش : «الخلال » جمع خلة .
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر : «لا بيع ولا خلال » بالرفع على إلغاء «لا » وقرأ أبو عمرو والحسن وابن كثير : «ولا بيعَ ولا خلالَ » بالنصب على التبرية ، وقد تقدم هذا . والمراد بهذا اليوم يوم القيامة .
استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله ، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة . فلما ابتدىء بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثُنّي بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها .
ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء : { وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة إلى أن قال وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [ سورة الإسراء : 50 ، 52 ] .
ولما كانوا متحلين بالكمال صِيغَ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان ، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك ، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين .
ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة من ذلك ، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد ، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة ( افعل ) فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبساً به ، فأصل يقيموا الصلاة } ليقيموا ، فحذفت لام الأمر تخفيفاً .
وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده ، كما في هذه الآية وفي قوله { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } في سورة الإسراء ( 52 ) ، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا ، فحكي بالمعنى .
وعندي : أن منه قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون في سورة الحجر ( 3 ) ، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل . فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد ، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة . وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل { قل } ، كما في « مغني اللبيب » ووافقه ابن مالك في « شرح الكافية » . وقال بعضهم : جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب { قل } على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده . والتقدير : قل لعبادي أقيموا يقيموا وَأنفقوا ينفقوا . وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية ، وفاتهم نحو آية { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا .
وزيادة { مما رزقناهم } للتذكير بالنعمة تحريضاً على الإنفاق ليكون شكراً للنعمة .
و { سراً وعلانية } حالان من ضمير { ينفقوا } ، وهما مصدران . وقد تقدم عند قوله تعالى : { سراً وعلانية } في سورة البقرة ( 274 ) . والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية ، أو أن الإنفاق سراً يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة ، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل ، فبين الله للناس أن الإنفاق بِرّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال ، وإنما الأعمال بالنيات .
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم } [ سورة التوبة : 79 ] الآية .
وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به ، ومن العلانية الإنفاق الواجب .
وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء ، ولأن فيه استبقاءً لبعض حياء المتصدق عليه .
وقوله : { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } الخ متعلق بفعل { يقيموا الصلوات وينفقوا } ، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق . وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلاً للاستزادة منهما ، إذ لا بيع يومئذٍ فيشترى الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب . فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع .
ونظيره قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } في سورة البقرة ( 254 ) .
وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها ، بقرينة المقام ، وليس المراد نفي الخلة ، أي الصحبة والمودّة لأن المودّة ثابتة بين المتقين ، قال تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ سورة الزخرف : 67 ] . وقد كني بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة .
وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو قبل } لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة .
وقرأ الجمهور { لا بيع } بالرفع . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بالبناء على الفتح . وهما وجهان في نفي النكرة بحرف { لا } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل لعبادي الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم} من الأموال، {سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه}، يعني لا فداء، {ولا خلال}، يعنى ولا خلة، لأن الرجل إذا نزل به ما يكره في الدنيا قبل موته، قبل منه الفداء، أو يشفع له خليله، والخليل: المحب، وليس في الآخرة من ذلك شيء، وإنما هي أعمالهم يثابون عليها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد "لِعبادِيَ الّذِينَ آمَنُوا "بك وصدّقوا أن ما جئتهم به من عندي "يُقيمُوا الصّلاةَ" يقول: قل لهم: فليقيموا الصلوات الخمس المفروضة عليهم بحدودها، ولينفقوا مما رزقناهم فخوّلناهم من فضلنا "سرّا وعلانية"، فليؤدّوا ما أوجبت عليهم من الحقوق فيها سرّا وإعلانا.
"مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ" يقول: لا يقبل فيه فدية وعوض من نفس وجب عليها عقاب الله بما كان منها من معصية ربها في الدنيا، فيقبل منها الفدية، وتترك فلا تعاقب، فسمى الله جلّ ثناؤه الفدية عوضا، إذ كان أخذ عوض من معتاض منه.
"وَلا خِلالٌ" يقول: وليس هناك مُخالّة خليل، فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالته، بل هنالك العدل والقسط...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {من قبل يوم لا بيع فيه ولا خلال} {يوم لا بيع فيه} أي يوم لا يقدر أحد أن يبيع نفسه من ربه (وفي الدنيا يقدر أن يبيع نفسه من ربه) كقوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} (البقرة: 207) وقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: 111)... ويحتمل {يوم لا بيع فيه ولا خلال} أي لا ينفعه بيع نفسه منه في ذلك اليوم، وإن باع كقوله تعالى {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل} (الأنعام: 158)...
{ولا خلال} هو مصدر خاللت، وهو من الخِلة والصداقة. ثم يحتمل وجهين:
أحدهما: أي لا تنفعهم الخلة التي كانت بينهم في الدنيا مما ليست لله فهي تصير عداوة في الآخرة كقوله: {الأخلاء يومئذ...} الآية (الزخرف: 67) أخبر أن الأخلاء الذين كانوا يخالون في الدنيا للدنيا فهم الأعداء إلا الخلة التي كانت لله فهي تنفع أهلها...
والثاني: أي يكون لهم شفعاء وأخلاء، ولكن لا يشفعون كقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28) أو يشفعون لهم، لكن لا تقبل شفاعتهم كقوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر: 38)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المعنى بادروا بأفعال الخير من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأفعال الخير "قبل أن "يأتيكم يوم القيامة الذي لا بيع فيه ولا شراء، والمراد -ههنا – ولا فداء تفدون بها نفوسكم من عذاب الله "ولا خلال" أي ولا مخالة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جعل الله راحةَ العبدِ -اليومَ- بكمالها في الصلاة؛ فإنَّها محلُّ المناجاة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"أَرِحَنا يا بلال بالصلاة" والصلاة استفتاح باب الرزق، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَواةِ واصْطَبِرْ عَليْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً} [طه:132]. وفي الصلاة يبث العبد أسرارَه...
{وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُم}: أمرهم بإنفاق اللسان على ذكره، وإنفاق البَدَنِ على طاعته، والوقت على شكره، والقلب على عرفانه، والروح على حبه، والسِّرّ على مشاهدته.. ولا يكلِّف الله نَفْساً إلا ما آتاها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: علام انتصب {سِرّا وَعَلاَنِيَةً}؟ قلت: على الحال، أي: ذوي سرّ وعلانية، بمعنى: مسرين ومعلنين. أو على الظرف، أي وقتي سر وعلانية. أو على المصدر، أي: إنفاق سر وإنفاق علانية، [و] المعنى: إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب. والخلال: المخالة.
فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} قلت: من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيراً منها. وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله تعالى: {وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تَجْزِى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} [الليل: 19-20] فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله.
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال، وفيه... أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله. أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة. وأما المال فيجب صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى. فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة، وهي الإيمان والصلاة والزكاة... واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال}... فكأنه تعالى يقول: أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى آمرًا العباد بطاعته والقيام بحقه، والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات، والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب. والمراد بإقامتها هو: المحافظة على وقتها وحدودها، وركوعها وخشوعها وسجودها. وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر، أي: في الخفية، والعلانية وهي: الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر كفرهم وضلالهم عن السبيل وما أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن يقول لهم، وكان ذلك محركاً لنفس السامع إلى الوقوف على ما يقال لمن خلع الأنداد وكان أوثق عرى السبيل بعد الإيمان وأعمها الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، والنفقة الشاملة لوجوه البر، أمره تعالى أن يندب أولياءه إلى الإقبال إلى ما أعرض عنه أعداؤه، والإعراض عما أقبلوا بالتمتع عليه من ذلك، فقال {قل لعبادي} فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبيباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم فقال: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف. ولما كان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن قول، فهو جالٍ لصدأ القلوب، وموجب لتهذيب النفوس، قال جازماً: {يقيموا الصلاة} التي هي زكاة القوة وصلة العبد بربه {وينفقوا} وخفف عنهم بقوله: {مما رزقناهم} أي بعظمتنا، فهو لنا دونهم، من أنواع النفقات المقيمة لشرائعه من الصدقات وغيرها، إتقاناً لما بينهم وبينه من الأسباب لينقذوا أنفسهم من النار، واقتصر على هاتين الخلتين لأنه لم يكن فرض في مكة غيرهما مع ما تقدم من فضلهما وعمومهما، ولعله سيق سياق الشرط تنبيهاً لهم على أن مجرد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقوى الأسباب فيجب عليهم ألا يتخلفوا عنه أصلاً؛ ثم أشار إلى المداومة على هاتين الخصلتين بقوله: {سراً وعلانية}... ثم رهب من تهاون في خدمته من اليوم الذي كان الإعراض عنه سبب الضلال، فقال مشيراً بالجار إلى قصر مدة أعمالهم: {من قبل أن يأتي يوم} أي عظيم جداً ليس هو كشيء من الأيام التي تعرفونها {لا بيع فيه} لأسير بفداء {ولا خلال} أي مخالات وموادات يكون عنها شفاعة أو نصر... وذلك إشارة إلى أنه لا يكون شيء منهما سبباً لخلاص هالك...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
فالجملة، أعني: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِي يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال}، لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، ويمكن أن يكون فيها أيضاً تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة؛ وذلك لأن تركها كثيراً ما يكون سبب الاشتغال بالبيع، ورعاية حقوق الأخلاء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قل لعبادي المؤمنين آمرا لهم بما فيه غاية صلاحهم وأن ينتهزوا الفرصة، قبل أن لا يمكنهم ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ودعهم وانصرف عنهم إلى (عبادي الذين آمنوا). انصرف عنهم إلى موعظة الذين تجدي فيهم الموعظة. الذين يتقبلون نعمة الله ولا يردونها، ولا يستبدلون بها الكفر. انصرف إليهم تعلمهم كيف يشكرون النعمة بالعبادة والطاعة والبر بعباد الله... قل لعبادي الذين آمنوا: يشكروا ربهم بإقامة الصلاة. فالصلاة أخص مظاهر الشكر لله. وينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق سرا وعلانية. سرا حيث تصان كرامة الآخذين ومروءة المعطين، فلا يكون الإنفاق تفاخرا وتظاهرا ومباهاة. وعلانية حيث تعلن الطاعة بالإنفاق وتؤدى الفريضة، وتكون القدوة الطيبة في المجتمع. وهذا وذلك متروك لحساسية الضمير المؤمن وتقديره للأحوال. قل لهم: ينفقوا ليربو رصيدهم المدخر من قبل أن يأتي يوم لا تنمو فيه الأموال بتجارة، ولا تنفع كذلك فيه صداقة؛ إنما ينفع المدخر من الأعمال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كانوا متحلين بالكمال صِيغَ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين. ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة من ذلك، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة (افعل) فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبساً به، فأصل يقيموا الصلاة} ليقيموا، فحذفت لام الأمر تخفيفاً...
و {سراً وعلانية}... المقصود [به] تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية، أو أن الإنفاق سراً يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل، فبين الله للناس أن الإنفاق بِرّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال، وإنما الأعمال بالنيات...
وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء، ولأن فيه استبقاءً لبعض حياء المتصدق عليه...
{من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه}... قد كني بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة. وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو قبل} لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(عبادي) للإشارة إلى أنهم قاموا بحق العبودية، فلم يشركوا مع الله أحدا، وأخلصوا الذات، وأعطوا ما هو على العبد أن يؤذيه...
وفي قوله تعالى: {من قبل أن يأتي...} إشارة إلى أن الإنفاق لوجه الله تعالى هو ذكر لله تعالى، فليس من التجارة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
إشارة إلى ما يجب على المؤمنين من حقوق لله وحقوق للعباد، فحق الله يتجلى في حقه الأول وهو إقامة الصلاة، وحق العباد يتجلى في حقهم الأول وهو الإنفاق على المحتاجين منهم، فرضا ونفلا، سرا وعلنا، بالإضافة إلى ما يلزم للأهل والأقرباء، وذوي الأرحام الفقراء. وقوله تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} إشارة إلى وجوب مبادرة المؤمنين بأداء ما عليهم من الحقوق لله ولعباده، دون تأخير ولا إمهال ولا إهمال، حذرا من أن يفاجئهم الموت قبل أن يقوموا بها، فلا يمكنهم أن يتداركوها يوم القيامة...
هو أمر صادر من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن المؤمنين في انتظار هذا الأمر ليُنفّذوه فورا، ذلك أن المؤمن يحب أن ينفّذ كل أمر يأتيه من الله. وما دمت قد أبلغتهم يا محمد هذا الأمر فسيُنفّذونه على الفور؛ وقد جاء قوله (يقيموا) محذوفا منه لام الأمر، تأكيدا على أنهم سيصعدون لتنفيذ الأمر فور سماعه. وعادة نجد أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في جَمهرة آيات القرآن تأتيان متتابعتين مع بعضهما؛ لأن إقامة الصلاة تتطلب حركة، تتطلب طاقة وتأخذ وقودا، والوقود يتطلب حركة ويأخذ زمنا، والزكاة تعني أن تُخرج بعضا من ثمرة الزمن، وبعضا من أثر الحركة في الوقت. ونجد الكسالى عن الصلاة يقولون: إن العمل يأخذ كل الوقت والواحد منا يحاول أن يجمع الصلوات إلى آخر النهار، ويؤدّيها جميعها قضاء. وهم لا يلتفتون إلى أن كل فرض حين يُؤدَّى في ميعاده لن يأخذ الوقت الذي يتصورون أنه وقت كبير. وظاهر الأمر أن الصلاة تُقلّل من ثمرة العمل، لكن الحقيقة أنها تعطي شحنة وطاقة تحفِز النفس على المزيد من إتقان العمل؛ وكيف يُقبل المصلي على العمل بنفس راضية؛ ذلك أنه بالصلاة قد وقف في حضرة من خلقه، ومن رزقه، ومن كفله. ولذلك يخرج منها هادئا مُطمئنا مُنتبها راضيا، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال). والصلاة في كل فرض؛ لن تأخذ أكثر من ربع الساعة بالوضوء، وإذا نسبت وقت الصلوات كلها إلى وقت العمل ستجد أنها تأخذ نسبة بسيطة وتعطي بأكثر مما أخذت. وكذلك الزكاة قد تأخذ منك بعضا من ثمرة الوقت لتعطيه إلى غير القادر، ولكنها تمنحك أمانا اجتماعيا فوق ما تتخيّل. ولذلك تجد الصلاة مرتبطة بالزكاة في آيات القرآن ببعضهما، وإقامة الصلاة هي جِماع القيم كلها؛ وإيتاء الزكاة جِماع قيام الحركات العضلية كلها. وتعالج الصلاة شيئا، وتعالج الزكاة شيئا آخر؛ وكلاهما تُصلح مكونات ماهية الإنسان؛ الروح ومقوماتها والجسد ومقوماته...
ويأمرنا الحق سبحانه في هذه الآية الكريمة بأن ننفق سرا وعلانية، وهكذا يشيع الحق الإنفاق في أمرين متقابلين؛ فالإنفاق سرًّا كي لا يقع الإنسان فريسة المُباهاة؛ والإنفاق عَلناً كي يعطي غيره من القادرين أُسوة حسنة، ولكي تمنع الآخرين من أن يتحدثوا عنك بلهجة فيها الحسد والغيرة مما أفاء الله عليك من خير...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ} الذين يريدون النجاة في الدنيا والآخرة، ويبحثون عن أفضل السبل المؤدّية إليها، {يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} لأنها معراج روح المؤمن إلى الله، والناهية له عن الفحشاء والمنكر، والمنفتحة به على كل الآفاق الروحية التي تسمو به في رحاب الله وتحرّك فيه كل عوامل الخير في الحياة، {وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} بما يمثله الإنفاق من روحية عطاء تنفتح على مشاكل البائسين والمحرومين وآلامهم بكل إيجابية المسؤولية، وتتلمّس المواقع الصعبة لتواجهها بكل ما يمكن أن يخفف من صعوبتها ويدفعها إلى طريق الحل، دون فرقٍ بين حالة الإسرار التي قد تفرضها الحاجة إلى حفظ كرامة هؤلاء البائسين الذين يريدون للناس أن يكتشفوا واقع الحاجة في حياتهم، وبين حالة الإعلان التي قد تفرضها الحاجة إلى تشجيع الآخرين على الخير، بتشكيل القدوة الحسنة لهم. وهكذا يعيش المؤمن في الإنفاق، معنى العبادة العملية من موقع التقرب إلى الله، والاتجار معه الذي لا ينتفع العباد بشيء كما ينتفعون به، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ} وهو يوم القيامة الذي يستطيع أيّ إنسان أن يكتسب فيه شيئاً لم يكتسبه من قبل، لأنه يوم مواجهة الإنسان لنتائج المسؤولية، لا يوم التحرك في خطّها، لذا لا يستطيع أن يعتمد في النجاة على أي علاقة صداقةٍ وقرابةٍ أقامها، لأنه اليوم الذي لا يغني فيه أحد عن أحد، وإن كانت خلّة المؤمنين لا تنقطع، بل تمتد إلى يوم القيامة، ولكن امتداد الخلّة شيء، والانتفاع بها يوم القيامة للنجاة من العذاب شيءٌ آخر.