قوله تعالى : { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } ، وكان اسمهما أصرم وصريم ، { وكان تحته كنز لهما } ، اختلفوا في ذلك الكنز ، اختلفوا في ذلك الكنز : روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان ذهباً وفضه . وقال عكرمة : كان مالاً . وعن سعيد بن جبير : كان الكنز صحفاً فيها علم . وعن ابن عباس : أنه قال كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن الموت كيف يفرح ؟ عجباً لمن أيقن بالحساب كيف يغفل : عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ؟ عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب ؟ عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! لا إله إلا الله محمد رسول الله . وفي الجانب الآخر مكتوب : أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وهذا قول أكثر المفسرين . وروي أيضاً ذلك مرفوعاً . قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم ، وهذا اللوح كان جامعاً لهما . { وكان أبوهما صالحاً } ، قيل : كان اسمه كاشح وكان من الأتقياء . قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبويهما . وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء . قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده ، وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله ، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم . قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي . قوله عز وجل : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } أي : يبلغا ويعقلا . وقيل : أن يدركا شدتهما وقوتهما . وقيل : ثمان عشرة سنة . { ويستخرجا } حينئذ { كنزهما رحمة } نعمة { من ربك } . { وما فعلته عن أمري } أي باختياري ورأيي ، بل فعلته بأمر الله وإلهامه ، { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } أي لم تطق عليه صبراً ، واستطاع واسطاع بمعنى واحد . روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به . واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم . وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة ، وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة . وكان الخضر على مقدمته ، فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكراً لله عز وجل ، وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : أرأيتكم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده .
ثم ختم - سبحانه - القصة ، ببيان ما قاله الخضر لموسى فى تأويل الحادثة الثالثة فقال - تعالى - : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }
أى : { وأما الجدار } الذى أتعبت نفسى فى إقامته ، ولم يعجبك هذا منى .
{ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ } مات أبوهما وهما صغيران ، وهذان الغلامان يسكنان فى تلك المدينة ، التى عبر عنها القرآن بالقرية سابقا فى قوله : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } قالوا : ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا ، لإِظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين ، وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح ، .
وكان تحته أى تحت هذا الجدار : { كنز لهما } أى : مال مدفون من ذهب وفضة . . ولعل أباهما هو الذى دفنه لهما .
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } أى : رجلا من أصحاب الصلاح والتقوى ، فكان ذلك منه سببا فى رعاية ولديه ، وحفظ مالهما .
{ فأراد ربك } ومالك أمرك ؛ ومدبر شئونك ، والذى يجب عليك أن تستسلم وتنقاد لإِرادته .
{ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا } أى : كمال رشدهما ، وتمام نموهما وقوتهما .
ويستخرجا كنزهما من تحت هذا الجدار وهما قادران على حمايته ، ولولا أنى أقمته لانقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه وعلى حسن التصرف فيه .
{ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أى : وما أراده ربك - يا موسى - بهذين الغلامين ، هو الرحمة التى ليس بعدها رحمة ، والحكمة التى ليس بعدها حكمة .
ثم ينفض الخضر يده من أن يكون قد تصرف بغير أمر ربه فيقول : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } .
أى : وما فعلت ما فعلته عن اجتهاد منى ، أو عن رأيى الشخصى ، وإنما فعلت ما فعلت بأمر ربى ومالك أمرى ، وذلك الذى ذكرته لك من تأويل تلك الأحداث هو الذى لم تستطع عليه صبرا ، ولم تطق السكوت عليه ، لأنك لم يطلعك الله - تعالى - على خفايا تلك الأمور وبواطنها . . كما أطلعنى .
وحذفت التاء من { تسطع } تخفيفا . يقال : استطاع فلان هذا الشئ واستطاعه بمعنى أطاقه وقدر عليه .
وبذلك انكشف المستور لموسى عليه السلام - وظهر ما كان خافيا عليه .
هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لآيات تلك القصة جملة من الأحاديث ، منها ما رواه الشيخان ، ومنها ما رواه غيرهما ، ونكتفى هنا بذكر حديث واحد .
قال - رحمه الله - قال البخارى : حدثنا الحميدى ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرنى سعيد بن جبير قال . قلت لابن عباس : إن نوفا البكالى يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى نبى بنى إسرائيل .
قال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن موسى قام خطيبا فى بنى إسرائيل ، فسئل أى الناس أعلم ؟ فقال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه . فأوحى الله إليه : إن عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك . فقال موسى : يا رب ، وكيف لى به ؟
قال : تأخذ معك حوتا ، تجعله بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم " .
فأخذ حوتا ، فجعله فى مكتل ، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون . حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت فى المكتل ، فخرج منه فسقط فى البحر ، واتخذ سبيله فى البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جِرْبَةَ الماء ، فصار عليه مثل الطاق .
فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت .
فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، فلما كان الغد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذى أمره الله به .
قال له فتاه : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } قال : فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا .
فقال موسى : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } قال : فرجعا يقصان أثرهما ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى - أى مغطى - بثوب ، - فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام .
قال : أنا موسى : قال : موسى نبى إسرائيل قال : نعم ، أتيتك لتعلمنى مما علمت رشدا ، قال : إنك لن تستطيع معى صبرا .
يا موسى : إنى على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه .
قال موسى : ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا . قال الخضر فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا .
فانطلقا يمشيان ، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول - أى بغير أجر - فلما ركبا فى السفينة ، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم .
فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها ، لتغرق أهلها ، لقد جئت شيئاً إمرا .
قال له الخضر : ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا . قال : لا تؤاخدنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " كانت الأولى من موسى نسيانا " ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة . فنقر فى البحر نقرة . فقال له الخضر : ما علمى وعلمك فى علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر .
ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله - فقال له موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا .
وقال : وهذ أشد من الأولى . قال : { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي }
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان قد صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما " .
وقد أخذ العلماء من هذه القصة أحكاما وآدابا من أهمها ما يأتى :
1- أن الإِنسان مهما أوتى من العلم ، فعليه أن يطلب المزيد ، وأن لا يعجب بعلمه ، فالله - تعالى - يقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } وطلب من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتضرع إليه بطلب الزيادة من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } 2- أن الرحلة فى طلب العلم من صفات العقلاء . فموسى - عليه السلام - وهو من أولى العزم من الرسل ، تجشم المشاق والمتاعب لكى يلتقى بالرجل الصالح ؛ لينتفع بعلمه ، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات بدليل قوله - تعالى - حكاية عنه : { لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } قال القرطبى عند تفسيره لهذه الآية : فى هذا من الفقه رحلة العالم فى طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم . وذلك كان دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون لطلب العلم إلى الحظ الراجح : وحصلوا على السعى الناجح ، فرسخت لهم فى العلوم أقدام . وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام .
قال البخارى : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى طلب حديث .
3- جواز إخبار الإِنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية ، كالجوع والعطش والتعب والنسيان فقد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ورد عليه فتاه بقوله : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ . . } وفى هذا الرد - أيضا - من الأدب ما فيه ، فقد نسب سبب النسيان إلى الشيطان ، وإن كان الكل بقضاء الله - تعالى - وقدره .
4- أن العلم على قسمين : علم مكتسب يدركه الإِنسان باجتهاده وتحصيله . . بعد عون الله تعالى - له . وعلم لدنى يهبه الله - سبحانه - لمن يشاء من عباده فقد قال - تعالى - فى شأن الخضر { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أى : علما خاصا أطلعه الله عليه يشمل بعض الأمور الغيبية .
5- أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم ، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها ، حتى يحصل على ما عنده من علم بسرور وارتياح .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وتأمل ما حكاه الله عن موسى فى قوله للخضر : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }
فقد أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، فكأنه يقول له : هل تأذن لى فى ذلك أو لا ، مع إقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذى لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه . . .
6- أنه لا بأس على العالم ، إذا اعتذر للمتعلم عن تعليمه ، لأن المتعلم لا يطيق ذلك ، لجهله بالأسباب التى حملت العالم على فعل تلك الأمور التى ظاهرها يخالف الحق والعدل والمنطق العقلى ، وأن معرفة الأسباب تعين على الصبر .
فقد قال الخضر لموسى : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فقد جعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر .
7- إن من علامات الإِيمان القوى ، أن يقدم الإِنسان المشيئة عند الإِقدام على الأعمال ، وأن العزم على فعل الشئ ليس بمنزلة فعله ، فقد قال موسى للخضر : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } ومع ذلك فعندما رأى منه أفعالا يخالف ظاهرها الحق والصلاح ، لم يصبر .
وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أمورا معينة قبل أن يبدأ فى تعليمه .
فقد قال الخضر لموسى : { إِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } 8- أنه يجوز دفع الضرر الأكبر بارتكاب الضرر الأصغر ، فإن خرق السفينة فيه ضرر ولكنه أقل من أخذ الملك لها غصبا ، وإن قتل الغلام شر ، ولكنه أقل من الشر الذى سيترتب على بقائه . وهو إرهاقه لأبويه ، وحملهما على الكفر .
كما يجوز للإِنسان أن يعمل عملا فى ملك غيره بدون إذنه بشرط أن يكون هذا العمل فيه مصلحة لذلك الغير كأن يرى حريقا فى دار إنسان فيقدم على إطفائه بدون إذنه . ويدفع ضرر الحريق بضرر أقل منه ، فقد خرق الخضر السفينة ، لكى تبقى لأصحابها المساكين .
9- أن التأنى فى الأحكام . والتثبت من الأمور ، ومحاولة معرفة العلل والأسباب . . . كل ذلك يؤدى إلى صحة الحكم ، وإلى سلامة القول والعمل .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب " .
10- أن من دأب العقلاء الصالحين . استعمال الأدب مع الله - تعالى - فى التعبير ، فالخضر قد أضاف خرقه للسفينة إلى نفسه فقال : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا . . } وأضاف الخير الذى فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله فقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } وشبيه بهذا ما حكاه الله - تعالى - عن صالحى الجن فى قولهم : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } 11- قال القرطبى : قوله - تعالى - { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أى : قرب أن يسقط . وهذا مجاز وتوسع .
وقد فسره فى الحديث بقوله " مائل " فكان فيه دليل على وجود المجاز فى القرآن ، وهو مذهب الجمهور .
وجميع الأفعال التى حقها أن تكون للحى الناطق إذا أسندت إلى جماد أو بهيمة ، فإنما هى استعارة .
أى : لو كان مكانها إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل ، وهذا فى كلام العرب وأشعارهم كثير ، كقول الأعشى :
أتنهون ولا يَنْهَى ذوى شطَط . . . كالطّعن يذهب فيه الزيتُ والفُتُل
والشطط : الجور والظلم ، يقول : لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن العميق الذى يغيب فيه الفتل - فأضاف النهى إلى الطعن .
وذهب قوم إلى منع المجاز فى القرآن فإن كلام الله عز وجل - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حمله على الحقيقة أولى بذى الفضل والدين ، لأنه يقص الحق كما أخبر الله - تعالى - فى كتابه . . .
وقد صرح صاحب أضواء البيان أنه لا مجاز فى القرآن فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } هذه الآية من أكبر الأدلة التى يستدل بها القائلون : بأن المجاز فى القرآن ، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هى مجاز .
وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من أن تكون إرادة الجدار حقيقة ، لأن الله - تعالى - يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق ، كما صرح - تعالى - بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه فى قوله - سبحانه - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها - سبحانه - ونحن لا نعلمها .
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة " وما ثبت فى صحيح البخارى من حنين الجذع الذى كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم حزنا لفراقه .
فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجزع ، كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه . . .
12- أن صلاح الأباء ينفع الأبناء . بدليل قوله - تعالى - : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ فى ذريته وتشمل بركة عبادته ما ينفعهم فى الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة فى الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء فى القرآن ووردت السنة به .
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما .
13- أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يتبين له الأسباب التى حملته على ذلك ، فأنت ترى أن الخضر قد قال لموسى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } أى : قبل مفارقتى لك سأخبرك عن الأسباب التى حملتنى على فعل ما فعلت مما لم تستطع معه صبرا .
( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري . . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . .
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية - وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما - كان يخبى ء تحته كنزا ، ويغيب وراءه مالا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ) . .
فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى .
وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار .
وهكذا ترتبط - في سياق السورة - قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار . . .
انتهى الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر
مبدواً بقوله تعالى : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . . . )
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة ؛ لأنه قال أولا { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } [ الكهف : 77 ] وقال هاهنا : { فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } كما قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] ، { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يعني : مكة والطائف .
ومعنى الآية : أن هذا الجدار{[18369]} إنما أصلحه{[18370]} لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما .
قال عكرمة ، وقتادة ، وغير واحد : كان تحته مال مدفون لهما . وهذا ظاهر السياق من الآية ، وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله .
وقال العوفي عن ابن عباس : كان تحته كنز علم . وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال مجاهد : صحف فيها علم ، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك ، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا بشر بن المنذر ، حدثنا الحارث بن عبد الله الْيَحْصَبيّ عن عياش{[18371]} بن عباس القتباني{[18372]} عن ابن حُجَيرة{[18373]} ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، [ رفعه ]{[18374]} قال : " إن الكنز الذي ذكر{[18375]} الله في كتابه : لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب{[18376]} ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضَحِك{[18377]} ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " {[18378]} .
بشر بن المنذر هذا يقال له : قاضي المصيصة . قال الحافظ أبو جعفر العقيلي : في حديثه وهم{[18379]} .
وقد روي في هذا آثار عن السلف ، فقال ابن جرير في تفسيره : حدثني يعقوب ، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة{[18380]} حدثنا سلمة{[18381]} ، عن نعيم العنبري - وكان من جلساء الحسن - قال : سمعت الحسن - يعني البصري - يقول في قوله : { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ؟ وعجبت لمن يوقن{[18382]} بالموت كيف يفرح ؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش{[18383]} عن عُمَر{[18384]} مولى غُفْرَة{[18385]} قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف : { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال : كان لوحًا من ذهب مُصْمَت مكتوبا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبٌ لمن عرف النار{[18386]} ثم ضحك ! عجبٌ{[18387]} لمن أيقن بالقدر ثم نصب ! عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن ! أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، حدثنا هَنَّادَة بنت مالك الشيبانية قالت : سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى{[18388]} { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال : سطران ونصف لم يتم الثالث : عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن{[18389]} بالحساب كيف يغفل ؟ وعجبت للموقن{[18390]} بالموت كيف يفرح ؟ وقد قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] قالت : وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء ، وكان نساجًا .
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ، وورد به الحديث المتقدم وإن صح ، لا ينافي قول عكرمة : أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحًا من ذهب ، وفيه مال جزيل ، أكثر ما زادوا أنه كان مودعًا فيه علم{[18391]} ، وهو حكم ومواعظ ، والله أعلم .
وقوله : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته ، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت السنة به{[18392]} . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر لهما صلاح ، وتقدم أنه كان الأب السابع . [ فالله أعلم ]{[18393]}
وقوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا } : هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى ؛ لأن بلوغهما الحلم{[18394]} لا يقدر عليه إلا الله ؛ وقال في الغلام : { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ } وقال في السفينة : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } ، فالله أعلم .
وقوله : { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي : هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة ، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ، ووالدي الغلام ، وولدي الرجل الصالح ، { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } لكني أمرت به ووقفت عليه ، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر ، عليه السلام ، مع ما تقدم من{[18395]} قوله : { فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } .
وقال آخرون : كان رسولا . وقيل بل كان ملكًا . نقله الماوردي في تفسيره .
وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيًا . بل كان وليًا . فالله أعلم .
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بَلْيَا بن مَلْكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، عليه السلام{[18396]}
قالوا : وكان يكنى أبا العباس ، ويلقب بالخضر ، وكان من أبناء الملوك ، ذكره النووي في تهذيب الأسماء ، وحكى هو وغيره في كونه باقيًا إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك حكايات وآثارًا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث . ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها أحاديث{[18397]} التعزية وإسناده ضعيف .
ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك ، واحتجوا بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " {[18398]} ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ولا حضر عنده ، ولا قاتل معه . ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ]{[18399]} وأصحابه ؛ لأنه عليه السلام{[18400]} كان مبعوثًا إلى جميع الثقلين : الجنّ والإنس ، وقد قال : " لو كان موسى وعيسى حَيَّيْن ما{[18401]} وسعهما إلا اتباعي " {[18402]} وأخبر قبل موته بقليل : أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تَطْرفُ ، إلى غير ذلك من الدلائل .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ في الخَضر قال ]{[18403]} إنما سمي " خضرًا " ؛ لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تحته [ تهتز ]{[18404]} خضراء " {[18405]} .
ورواه أيضًا عن عبد الرزاق . وقد ثبت أيضًا في صحيح البخاري ، عن همام ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما سمي الخضِر ؛ لأنه جلس على فَرْوَة ، فإذا هي تهتز [ من خلفه ]{[18406]} خضراء " {[18407]}
والمراد بالفروة هاهنا{[18408]} الحشيش اليابس ، وهو الهشيم من النبات ، قاله عبد الرزاق . وقيل : المراد بذلك وجه الأرض .
وقوله : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } أي : هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا ، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء ، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال : { [ مَا لَمْ ] تَسْطِعْ }{[18409]} وقبل ذلك كان الإشكال قويًا ثقيلا فقال : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } فقابل الأثقل بالأثقل ، والأخف بالأخف ، كما قال تعالى : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } وهو الصعود إلى أعلاه ، { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } [ الكهف : 97 ] ، وهو أشق من ذلك ، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى والله أعلم .
فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك ؟
فالجواب : أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما ، وفتى موسى معه تبع ، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون ، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى ، عليهما السلام . وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة{[18410]} ، حدثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه ؟ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال : شرب الفتى من الماء [ فخلد ، فأخذه ]{[18411]} العالم ، فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر ، فإنها تموج به إلى يوم القيامة ؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب{[18412]}
أما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده ، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً ، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة . وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين .
وقوله : { رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري } تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها .
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال { وما فعلته عن أمري } علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي ، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى . وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول : وفعلته عن أمر ربّي ، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ .
وانتصب { رحْمَةً } على المفعول لأجله فينازعه كل من ( أردتُ ) ، و ( أردنَا ) ، و ( أراد ربّك ) .
وجملة { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله { أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين } ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه .
و { تَسْطِعْ } مضارع ( اسطاع ) بمعنى ( استطاع ) . حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء ، والمخالفةُ بينه وبين قوله { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه . وابتدىء بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر { تَسْتَطِع } يحصل من تكريره ثقل .
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله { سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً } تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر .
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة .
فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً ، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه .
وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، وسموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية » ، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين ، والثامن والستين بعد المائتين ، والرابع والستين بعد ثلاثمائة ، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة ، وأطال في ذلك ، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة . v وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم . وقد تعرض لها النسفي في « عقائده » ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط .
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي ، لقوله { وما فعلته عن أمري } ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم .