قوله تعالى : { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : هم أهل فارس . وقال الحسن : فارس والروم ، وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف . وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين . وقال الزهري ، ومقاتل ، وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب . قال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم هم . وقال ابن جريج : دعاهم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس . وقال أبو هريرة : لم يأت تأويل هذه الآية بعد . { تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً } أي : الجنة ، { وإن تتولوا } تعرضوا ، { كما توليتم من قبل } عام الحديبية ، { يعذبكم عذاباً أليماً } وهو النار ،
ثم فتح - سبحانه - أمام هؤلاء المخلفين من الأعراب باب التوبة ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الجهاد معه ، فإن صدقوا أفلحوا ، وإن أعرضوا خسروا فقال : { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المخلفين من الأعراب عن الخروج معك ، ستدعون فى المستقبل إلى القتال معى لقوم أصحاب قوة وشدة فى الحرب ، فيكون بينكم وبينهم أمران لا ثالث لهما : إما قتالكم لهم ، وإما الإِسلام منهم .
" فأو " فى قوله { أَوْ يُسْلِمُونَ } للتنويع والحصر . وجملة { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } مستأنفة للتعليل ، كما فى قوله : سيدعوك الأمير للقائه يكرمك أو يخزى عدوك .
وقد اختلف المفسرون فى المراد بهؤلاء القوم أولى البأس الشديد ، فمنهم من قال : فارس والروم ، ومنهم من قال : بنو حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب .
والذى عليه المحققون من العلماء أن المقصود بهم : هوزان وثقيف الذين التفى بهم المسلمون فى غزوة حنين بعد فتح مكة .
وذلك لأن عددا كبيرا من تلك القبائل المتخلفة قد اشتركت فى تلك الغزوة ، حتى لقد بلغ عدد المسلمين فيها ما يقرب من اثنى عشر ألفا ، ولأن أهل هوزان وثقيف قد كانوا يجيدون الرماية والكر والفر ، فاستطاعوا فى أول المعركة - بعد أن اغتر المسلمون بقوتهم - أن يفرقوا بعض صفوف المسلمين ، ثم تجمع المسلمون بعد ذلك وانتصر عليهم ، ثم كانت النتيجة أن انتهت تلك الغزوة بإسلام هوزان وثقيف . كما هو معروف فى كتب السيرة .
ولقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان بين المسلمين وبين هوزان وثقيف من قتال فى قوله - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقد رجح فضيلة شيخنا الدكتور أحمد السيد الكومى أن يكون المقصود بالقوم أولى البأس الشديد هوزان وثقيف ، فقال ما ملخصه : وتكاد تنفق كتب السيرة على أن الجيش الذى ذهب لفتح مكة ، ثم ذهب بعد ذلك إلى غزوة هوزان وثقيف يوم حنين ، كان يضم بين جوانحه العدد الكثير من قبائل أسلم وأشجع وجهينة وغفار ومزينة .
وإذن فالأمر المحقق أن القبائل المتخلفة يوم الحديبية ، ساهمت فى الجهاد بقسط وافر يوم . فتح مكة ، ويوم حنين .
وقد أقام المسلمون بمكة بعد أن فتحوها - بدون قتال يذكر - خمسة عشر يوما . . ثم ذهبوا لقتال هوزان وثقيف . . . وكانوا رماة مهرة ذوى مهارة حربية ، وراية بفنون القتال فهمزموا المسلمين فى أول الأمر ، ثم هزمهم المسلمون .
ومن كل ذلك يرجح الحكم بأن هؤلاء القوم هم هوزان ، وأن كثيرا من المخلفين أسلم إسلاما خالصا ، وحسنت توبته . . .
وقوله - سبحانه - : { فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } بيان للثواب العظيم الذى أعده - سبحانه - للطائفين ، وللعذاب الأليم الذى توعد به الفاسقين .
أى : فإن تطعيوا - أيها المخالفون - رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يؤتكم الله من فضله أجرا حسنا ، وإن تتولوا وتعرضوا عن الطاعة ، كما أعرضتم من قبل فى صلح الحديبية عن طاعته ، يعذبكم - سبحانه - عذابا أليما .
ثم أمر الله نبيه أن يخبرهم أنهم سيبتلون بالدعوة إلى جهاد قوم أشداء ، يقاتلونهم على الإسلام ، فإذا نجحوا في هذا الابتلاء كان لهم الأجر ، وإن هم ظلوا على معصيتهم وتخلفهم فذلك هو الامتحان الأخير :
( قل للمخلفين من الأعراب : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ، تقاتلونهم أو يسلمون ، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ) .
وتختلف الأقوال كذلك في من هم القوم أولو البأس الشديد . وهل كانوا على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أم على عهود خلفائه . والأقرب أن يكون ذلك في حياة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليمحص الله إيمان هؤلاء الأعراب من حول المدينة .
والمهم أن نلحظ طريقة التربية القرآنية ، وطريقة علاج النفوس والقلوب . بالتوجيهات القرآنية ، والابتلاءات الواقعية . وهذا كله ظاهر في كشف نفوسهم لهم وللمؤمنين ، وفي توجيههم إلى الحقائق والقيم وقواعد السلوك الإيماني القويم .
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم ، الذين هم أولو بأس شديد ، على أقوال :
أحدها : أنهم هوازن . رواه شعبة عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة{[26846]} ، أو جميعا - ورواه هُشيم عن أبي بشر ، عنهما . وبه يقول قتادة في رواية عنه .
الثالث : بنو حنيفة ، قاله جويبر . ورواه محمد بن إسحاق ، عن الزهري . وروي مثله عن سعيد وعكرمة .
الرابع : هم أهل فارس . رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه يقول عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة - في إحدى الروايات عنه .
وقال كعب الأحبار : هم الروم . وعن ابن أبي ليلى ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة : هم فارس والروم . وعن مجاهد : هم أهل الأوثان . وعنه أيضا : هم رجال أولو بأس شديد ، ولم يعين فرقة . وبه يقول ابن جريج ، وهو اختيار ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القواريري ، عن مَعْمَر{[26847]} ، عن الزهري ، في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : لم يأت أولئك بعد .
وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي خالد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : هم البارزون .
قال : وحدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ، ذلف الآنف ، كأن وجوههم المجانّ المطرقة " . قال سفيان : هم الترك {[26848]} .
قال ابن أبي عمر : وجدت في مكان{[26849]} آخر : ابن أبي خالد عن أبيه قال : نزل علينا أبو هريرة ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقاتلون قومًا نعالهم الشَّعْر " قال : هم البارزون ، يعني الأكراد{[26850]} .
وقوله : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } يعني : يشرع لكم جهادهم وقتالهم ، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم ، ولكم النصرة عليهم ، أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار .
ثم قال : { فَإِنْ تُطِيعُوا } أي : تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه ، { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ } يعني : زمن الحديبية ، حيث دعيتم{[26851]} فتخلفتم ، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
{ قل للمخلفين من الأعراب } كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذم وإشعارا بشناعة التخلف . { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } بني حنيفة أو غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو المشركين فإنه قال : { تقاتلونهم أو يسلمون } أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا غير كما دل عليه قراءة " أو يسلموا " ، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم أو يعطي الجزية . وهو يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه إذا لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف وهوازن فإن ذلك كان في عهد النبوة . وقيل فارس والروم ومعنى { يسلمون } ينقادون ليتناول تقبلهم الجزية . { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا } هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة . { وإن تتولوا كما توليتم من قبل } عن الحديبية . { يعذبكم عذابا أليما } لتضاعف جرمكم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قُلْ "يا محمد "للْمُخَلّفِينَ مِنَ الأْعْرَابِ" عن المسير معك، "سَتُدْعَوْنَ" إلَى قتال "قَوْمٍ أُولي بَأْسٍط في القتال "شَدِيدٍ". واختلف أهل التأويل في هؤلاء الذين أخبر الله عزّ وجلّ عنهم أن هؤلاء المخلفين من الأعراب يُدْعَوْن إلى قتالهم؛
وقال آخرون: هم هَوازن بحُنين...
وقال آخرون: بل هم بنو حنيفة...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال، ونجدة في الحروب، ولم يوضع لنا الدليل من خبر ولا عقل على أن المعنيّ بذلك هوازن، ولا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم، ولا أعيان بأعيانهم، وجائز أن يكون عنى بذلك بعض هذه الأجناس، وجائز أن يكون عُنِي بهم غيرهم، ولا قول فيه أصحّ من أن يُقال كما قال الله جلّ ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد. وقوله: "تُقاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلِمُونَ" يقول تعالى ذكره للمخلّفين من الأعراب: تقاتلون هؤلاء الذين تُدعون إلى قتالهم، أو يسلمون من غير حرب ولا قتال.
وقوله: "فإنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُم اللّهُ أجْرا حَسَنا" يقول تعالى ذكره فإن تطيعوا الله في إجابتكم إياه إذا دعاكم إلى قتال هؤلاء القوم الأولي البأس الشديد، فتجيبوا إلى قتالهم والجهاد مع المؤمنين "يُؤْتِكُم اللّهُ أجْرا حَسَنا" يقول: يعطكم الله على إجابتكم إياه إلى حربهم الجنة، وهي الأجر الحسن، "وَإنْ تَتَوَلّوْا كمَا تَوَلّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ" يقول: وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته وتخالفوا أمره، فتتركوا قتال الأولي البأس الشديد إذا دُعيتم إلى قتالهم "كمَا تَوَلّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ" يقول: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، من قبل أن تُدعَوا إلى قتال أولي البأس الشديد "يُعَذّبْكُمُ" اللّهُ "عَذَابا ألِيما" يعني: وجيعا، وذلك عذاب النار على عصيانكم إياه، وترككم جهادهم وقتالهم مع المؤمنين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {تقاتلونهم أو يُسلمون} من قرأها بالألف فيكون تأويله: تقاتلونهم حتى يُسلموا. وقوله تعالى: {فإن تطيعوا يُؤتكم الله أجرا حسنا} أي إن تطيعوا ما دُعيتم إلى الجهاد {يُؤتكم الله أجرا} ذكر أنه يؤتيهم أجرا حسنا لأن توبتهم تكون في ما كان كفرهم. وكان نفاقهم إنما ظهر بتخلّفهم عن الجهاد. فعلى ذلك تكون توبتهم في تحقيق الجهاد.
وقوله تعالى: {وإن تتولّوا} في ما دُعيتم إليه {كما تولّيتم من قبل} من الحديبيّة وغيره {يعذّبكم عذابا أليما}...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"تقاتلونهم أو يسلمون " هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهو معطوف على " تقاتلونهم " أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تختلف الأقوال كذلك في من هم القوم أولو البأس الشديد. وهل كانوا على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أم على عهود خلفائه. والأقرب أن يكون ذلك في حياة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليمحص الله إيمان هؤلاء الأعراب من حول المدينة. والمهم أن نلحظ طريقة التربية القرآنية، وطريقة علاج النفوس والقلوب. بالتوجيهات القرآنية، والابتلاءات الواقعية. وهذا كله ظاهر في كشف نفوسهم لهم وللمؤمنين، وفي توجيههم إلى الحقائق والقيم وقواعد السلوك الإيماني القويم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال إلى طمأنة المخلفين بأنهم سينالون مغانم في غزوات آتية ليعلموا أن حرمانهم من الخروج إلى خيبر مع جيش الإسلام ليس لانسلاخ الإسلام عنهم ولكنه لِحكمة نوط المسبّبات بأسبابها على طريقة حكمة الشريعة فهو حرمان خاص بوقعة معينة كما تقدم آنفاً، وأنهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين كما تُدعى طوائف المسلمين، فذِكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرة بعد الحزن ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جراء الحرمان. وفي هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التخلف عن الحديبية وكل ذلك دال على أنهم لم ينسلخوا عن الإيمان، ألا ترى أن الله لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة في قوله: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تَخْرجُوا معي أبداً ولن تقاتلوا معِي عدوّاً إنكم رضِيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [التوبة: 83].
وكرر وصف من {الأعراب} هنا ليظهر أن هذه المقالة قصد بها الذين نزل فيهم قوله: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا} [الفتح: 11] فلا يتوهم السامعون أن المعنى بالمخلفين كل من يقع منه التخلف.
وأسند {تدعون} إلى المجهول لأنّ الغرض الأمر بامتثال الدّاعي وهو وليّ أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله {ومن يطع الله ورسوله} [الفتح: 17] ودعوة خلفاء الرّسول صلى الله عليه وسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله: (ومن أطاع أميري فقد أطاعني).
وعدي فعل {ستدعون} بحرف {إلى} لإفادة أنها مضمنة معنى المشي، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف {إلى} وبين تعديته باللام...
والقوم أولو البأس الشديد يتعين أنهم قوم من العرب لأن قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا، وإنما يكون هذا حُكماً في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية...
و {أو} للترديد بين الأمرين والتنويع في حالة تُدعون، أي تدعون إلى قتالهم وإسلامهم، وذلك يستلزم الإمعان في مقاتلتهم والاستمرار فيها ما لم يسلموا، فبذلك كان {أو يسلمون} حالاً معطوفاً على جملة {تقاتلونهم} وهو حال من ضمير {تدعون}.
وقوله: {وإن تتولوا كما توليتُم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً} تَعبير بالتوالي الذي مضى، وتحذير من ارتكاب مثله في مثل هذه الدعوة بأنه تَوَلَّ يوقع في الإثم لأنه تولَ عن دعوة إلى واجب وهو القتال للجهاد. فالتشبيه في قوله: {كما توليتم من قبل} تشبيه في مطلق التولّي لقصد التشويه وليس تشبيهاً فيما يترتب على ذلك التولي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلّمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولّوا كما تولّيتم من قبل يعذّبكم عذاباً أليماً). فمتى ما ندمتم عن أعمالكم وسيرتكم السابقة ورفعتم اليد عن عبادة الدنيا وطلب الراحة، فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تُسهموا فيها مرّةً أخرى، وإلاّ فإنّ اجتناب الميادين الصعبة، والمساهمة في الغنائم وميادين الراحة غير مقبول بأي وجه ودليل على نفاقكم أو ضعف إيمانكم وجبنكم. الطريف هنا أنّ القرآن كرر التعبير بالمخلّفين في آياته، وبدلاً من الاستفادة من الضمير فقد عوّل على الاسم الظاهر. وهذا التعبير خاصةً جاء بصيغة اسم المفعول «المخلَّفين» أي المتروكين وراء الظهر، وهو إشارة إلى أنّ المسلمين المؤمنين حين كانوا يشاهدون ضعف هؤلاء وتذرعهم بالحيل كانوا يخلّفونهم وراء ظهورهم ولا يعتنون أو يكترثون بكلامهم! ويسرعون إلى ميادين الجهاد!. ولكنّ من هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم ب «أولي بأس شديد» في الآية وأي جماعة هم؟! هناك كلام بين المفسّرين.. وجملة (تقاتلونهم أو يسلمون) تدلُّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب، لأنّ أهل الكتاب لا يُجبرون على قبول الإسلام، بل يُخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمّة. وإنّما الذين لا يُقبل منهم إلاّ الإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام ديناً ويرى انّه لابدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها... وهنا ملاحظة جديرة بالتأمّل وهي أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يَعِدُهم بالقول أنّهم سيغنمون في الحروب والمعارك المقبلة، لأنّ الهدف من الجهاد ليس كسب الغنائم بل المعوّل عليه هو ثواب الله العظيم وهو عادةً إنّما يكون في الدار الآخرة! وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أنّ الآية (83: من سورة التوبة تردّ ردّاً قاطعاً على هؤلاء المخلّفين فتقول: (فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً إنّكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا مع الخالفين). في حين أنّ الآية محل البحث تدعوهم إلى الجهاد والقتال في ميدان صعب (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد). فما وجه ذلك؟ ولكن مع الالتفات إلى الآية (83) في سورة التوبة تتعلق بالمخلّفين في معركة تبوك الذين قطع النّبي الأمل منهم، أمّا الآية محل البحث فتتحدّث عن المخلّفين عن الحديبيّة، وما يزال النّبي يأمل فيهم المشاركة، فيتّضح الجواب على هذا الإشكال!...