لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَۖ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنٗاۖ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا} (16)

قوله عز وجل : { قل للمخلفين من الأعراب } لما قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم : قل لن تتبعونا ، وكان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة ، وكان فيهم من ترجى توبته وخيره بخلاف الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه ، فجعل الله عز وجل لقبول توبتهم علامة ، وهي أنهم يدعون إلى قوم أولى بأس شديد ، فإن أطاعوا ، كانوا من المؤمنين ويؤتيهم الله أجراً حسناً وهو الجنة ، وإن تولوا وأعرضوا عما دعوا إليه ، كانوا من المنافقين ويعذبهم عذاباً أليماً . واختلفوا في المشار إليهم بقوله { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } من هم فقال ابن عباس ومجاهد : هم أهل فارس . وقال كعب : هم الروم . وقال الحسن : هم فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف . وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين . وقال الزهري وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب . وقال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم . وقال ابن جريج : دعاهم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس . وقال أبو هريرة : لم يأت تأويل هذه الآية بعد ، وأقوى هذه الأقوال ، قول من قال إنهم هوازن وثقيف ، لأن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبعدها قول من قال إنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب أما الدليل على صحة القول الأول فهو أن العرب كان قد ظهر أمرهم في آخر الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا مؤمن تقي طاهر أو كافر مجاهر . وأما المنافقون ، فكان قد علم حالهم لامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم ، وكان الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرب من خالفه من الكفار . وكانت هوازن وثقيف من أشد العرب بأساً وكذلك غطفان فاستنفر النبي صلى الله عليه وسلم العرب لغزوة حنين وبني المصطلق ، فصح بهذا البيان أن الداعي هو النبي صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : هذا ممتنع لوجهين : أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لن تتبعونا ، وقال : لن تخرجوا معي أبداً ، فكيف كانوا يتبعونه مع هذا النهي ؟ الوجه الثاني : قوله { أولي بأس شديد } ، ولم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم حرب مع قوم أولي بأس شديد ، لأن الرعب كان قد دخل قلوب العرب كافة فنقول : الجواب عن الوجه الأول من وجهين : أحدهما : أن يكون قوله : قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبداً مقيد بقيد وهو أن يكون تقديره : قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبداً ما دمتم على ما أنتم عليه من النفاق والمخالفة وهذا القيد لا بد منه لأن من أسلم وحسن إسلامه وجب عليه الجهاد ولا يجوز منعه من الخروج إلى الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم . الوجه الثاني : في الجواب عن الوجه الأول أن المراد من قوله لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبداً يعني في غزوة خيبر لأنها كانت مخصوصة بمن شهد بيعة الرضوان بالحديبية دون غيرهم . ثم نقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يدعهم إلى الجهاد معه أو منعهم من الخروج إلى الجهاد معهما لامتنع أبو بكر وعمر من الإذن لهم في الخروج إلى الجهاد معهما كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أخذها وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق له حرب مع قوم أولي بأس شديد فغير مسلم لأن الحرب كانت باقية مع قريش وغيرهم من العرب وهم أولو بأس شديد فثبت بهذا البيان أن الداعي للمخلفين هو النبي صلى الله عليه وسلم وأما قول من قال إن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وإن عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم فظاهر في الدلالة وفيه دليل على صحة خلافتهما لأن الله تعالى وعد على طاعتهما الجنة وعلى مخالفتهما النار .

وقوله تعالى : { تقاتلونهم أو يسلمون } فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما الإسلام أو القتل { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً } يعني الجنة { وإن تتولوا } يعني تعرضوا عن الجهاد { كما توليتم من قبل } يعني عام الحديبية { يعذبكم عذاباً أليماً } يعني النار ولما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة والأعذار كيف حالنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم .