اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَۖ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنٗاۖ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا} (16)

قوله تعالى : { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ } لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام لهم لن تتبعونا ، ولن تخرجوا معي أبداً كان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم ، فإنهم لم يبقوا على ذلك ، ولم يكونوا من الذين مَرَدُوا على النفاق بل منهم من حسن حاله فجعل لقبول توبتهم{[51719]} علامة ( وهو أنهم{[51720]} يدعون إلى قوم أولي بأس شديد ، ويطيعون بخلاف حال ثَعْلَبَةَ ، حيث امتنع من أداء الزكاة ، ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم واستمر عليه الحال ، ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أن الله تعالى بين أنهم يدعون : فإن أطاعوا أعطوا الأجر الحسن .

والفرق بين حال هؤلاء وبين حال ثعلبة من وجهين :

أحدهما : أن ثعلبة يجوز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة ) وحل الأعراب تغيرت ، فإن بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق من المنافقين على النفاق أحدٌ .

الثاني : أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير ، والْجَمِّ الغفير ، أمسّ ؛ لأنه لولا البيان لأفضى الأمر إلى قيام الفتنة بين فِرَق الْمُسْلِمِينَ{[51721]} .

( «فصل »{[51722]}

قال ابن عباس ومجاهد : المراد بقوله { قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ } : هم أصحاب فارس . وقال كعب : الروم وقال الحسن : فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف . وقال قتادة : هوازن وغطفان قوم حنين . وقال الزهري ومقاتل وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب . وقال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم . وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد ){[51723]} .

قوله : { أَوْ يُسْلِمُونَ } العامة على رفعه بإثبات النون عطفاً على «تُقَاتِلُونَهُمْ » أو على الاستئناف أي أو هُمْ يُسْلِمُونَ{[51724]} . وقرأ أبيّ وزيدُ بن عليٍّ بحذف النون نصباً بحذفها{[51725]} .

والنصب بإضمار «أن » عند جمهور البصريين{[51726]} ، وب «أو » نفسها عند الجَرْمي والكِسَائيِّ{[51727]} ، ويكون قد عطف مصدراً مؤولاً على مصدر متوهم كأنه قيل : يكون قتالٌ أو إسلامٌ . ومثله في النصب قول امرئ القيس :

4491 فَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا *** نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا{[51728]}

وقال أبو البقاء : أو بمعنى{[51729]} إلاَّ أَنْ ، أو حَتَّى{[51730]} .

( «فصل »{[51731]}

معنى قوله : تقاتلونهم أو يسلمون إشارة إلى أن أحدهما يقع ؛ لأن «أو » تبين المتغايرين وتُنْبِئ عن الحصر ، يقال : العدد زوجٌ أو فردٌ ، ولهذا لا يصح قوله القائل : هذا{[51732]} زيدٌ أو ابن{[51733]} عمرو ؛ إذا كان زيد ابن عمرو ؛ إذا علم هذا فقول القائل : أُلاَزِمُكَ{[51734]} أَوْ تَقضينِي حَقِّي معناه أن الزمان انحصر في قسمين : قسم يكون فيه الملازمة ، وقسم يكون فيه قضاءُ الحق فيكون قوله : «أُلاَزِمُكَ أو تقضيني » ، كقوله : ألازمك إلى أن تقضيني ، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء ){[51735]} .

قوله : { فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً } يعني الجنة { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } تُعْرِضُوا { كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } عام الحديبية { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وهو النار ،


[51719]:في ب توبته. عائدا على لفظ من.
[51720]:ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.
[51721]:وانظر الرازي 28/91 و92.
[51722]:سقط هذا الفصل كله من نسخة ب.
[51723]:ذكر هذه الأوجه والآراء مفصلة العلامة القرطبي في الجامع 16/272 والعلامة أبو حيان في البحر 8/94.
[51724]:ذكر هذه الأوجه العكبري في التبيان 1166 وذكر وجها ثالثا ولذلك قلت: الأوجه، وهو الحالية وانظر المغني لابن هشام 480.
[51725]:البحر المحيط 8/94 والكشاف 3/546.
[51726]:ويكون من العطف على المعنى وهو ما يسمى بالتوهم ولكن تأدبا مع قرآن الله نقول: العطف على المعنى أي ليكن قتال أو إسلام كما قرره أعلى، كأنه توهم أن "أن" مضمرة.
[51727]:وأصحابهما إلى أن الفعل انتصب بأو نفسها وهناك مذاهب أخرى للفراء والأخفش وغيرهما ذكرها السيوطي في الهمع 2/10.
[51728]:من بحر الطويل له، والشاهد في "فنعذرا" حيث نصب المضارع بعد "أو" على تقدير "أن" عند البصرة وبأو نفسها عند الجرمي والكسائي والتقدير: محاولة أو موت، وقد تقدم.
[51729]:الأصح كما في التبيان: إلى أن وكلاهما صحيحان ولكني أقارن النسخ بأبي البقاء.
[51730]:وانظر التبيان لأبي البقاء 1166.
[51731]:ما بين القوسين كله أيضا سقط من ب.
[51732]:في الرازي المصدر السابق: "هو".
[51733]:زيادة من النسخ عن الرازي.
[51734]:المشهور: لألزمنك كما في الرازي والمغني وغيرهما.
[51735]:بالمعنى من تفسير الإمام 28/93.