معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

ثم بين الله تعالى أيام الصيام فقال : { شهر رمضان } . رفعه على معنى هو شهر رمضان ، وقال الكسائي : كتب عليكم شهر رمضان ، وسمي الشهر " شهر " لشهرته ، وأما رمضان فقد قال مجاهد : هو اسم من أسماء الله تعالى ، يقال شهر رمضان كما يقال شهر الله ، والصحيح أنه اسم للشهر سمي به من الرمضاء وهي الحجارة المحماة ، وهم كانوا يصومونه في الحر الشديد فكانت ترمض فيه الحجارة في الحرارة .

قوله تعالى : { الذي أنزل فيه القرآن } . سمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور ، والآي والحروف وجمع فيه القصص ، والأمر والنهي والوعد والوعيد . وأصل القرء الجمع ، وقد يحذف الهمز منه فيقال : قريت الماء في الحوض إذا جمعته ، وقرأ ابن كثير : القرآن بفتح الراء غير مهموز ، وكذلك كان يقرأ الشافعي ويقول ليس هو من القراءة ، ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل .

وروي عن مقسم عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله عز وجل ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) وقد نزل في سائر الشهور ؟ وقال عز وجل : ( وقرآناً فرقناه ) فقال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة فذلك قوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) .

قال داود بن أبي هند : قلت للشعبي : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) أما كان ينزل في سائر الشهور ؟ قال : بلى ، ولكن جبريل كان يعارض محمداً صلى الله عليه وسلم في رمضان ما نزل إليه فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وينسيه ما يشاء .

وروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في ثلاث ليال مضين من رمضان ، ويروى في أول ليلة من رمضان وأنزلت توراة موسى عليه السلام في ست ليال مضين من رمضان ، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان ، وأنزل الزبور على داود في ثمان عشرة مضت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في الرابعة والعشرين من شهر رمضان لست بقين بعدها " .

قوله تعالى : { هدى للناس } . من الضلالة ، وهدى في محل نصب على القطع ، لأن القرآن معرفة " وهدى " نكرة . أي دلالات واضحات من الحلال والحرام والحدود والأحكام .

قوله تعالى : { والفرقان } . أي الفارق بين الحق والباطل .

قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . أي فمن كان مقيما في الحضر فأدركه الشهر . واختلف أهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر .

وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يجوز له الفطر ، وبه قال عبيدة السلماني لقوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أي الشهر كله ، وذهب أكثر الصحابة والفقهاء إلى أنه إذا أنشأ السفر في شهر رمضان جاز له أن يفطر ، ومعنى الآية : فمن شهد منكم الشهر كله فليصمه أي الشهر كله ، ومن لم يشهد منكم الشهر كله فليصم ما شهد منه .

والدليل عليه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو منصور عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر ، وأفطر الناس معه ، فكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } . أباح الفطر لعذر المرض والسفر ، وأعاد هذا الكلام ليعلم أن هذا الحكم ثابت في الناسخ ثبوته في المنسوخ ، واختلفوا في المرض الذي يبيح الفطر ، فذهب أهل الظاهر إلى أن ما يطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر ، وهو قول ابن سيرين . قال طريف بن تمام العطاردي : دخلت على محمد بن سيرين في رمضان ، وهو يأكل فقال : إنه وجعت أصبعي هذه ، وقال الحسن وإبراهيم النخعي : هو المرض الذي تجوز معه الصلاة قاعداً . وذهب الأكثرون إلى أنه مرض يخاف معه من الصوم زيادة علة غير محتملة ، وفي الجملة أنه إذا أجهده الصوم أفطر ، وإن لم يجهده فهو كالصحيح . وأما السفر ، فالفطر فيه مباح والصوم جائز عند عامة أهل العلم ، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي ابن الحسين أنهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر ومن صام فعليه القضاء ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس من البر الصوم في السفر " وذلك عند الآخرين في حق من يجهده الصوم فالأولى له أن يفطر ، والدليل عليه ما أخبرنا به عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد ابن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أخبرنا شعبة أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال : سمعت محمد بن عمرو بن الحسبن بن علي عن جابر بن عبد الله قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ، ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا صائم ، فقال : ليس من البر الصوم في السفر " . والدليل على جواز الصوم ما حدثنا الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو نعيم الإسفرايني أخبرنا أبو عوانة أخبرنا أبو أمية أخبرنا عبد الله القواريري أخبرنا حماد بن زيد أخبرنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " . واختلفوا في أفضل الأمرين ، فقالت طائفة : الفطر في السفر أفضل من الصوم ، روي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب سعيد بن المسيب والشعبي ، وذهب قوم إلى أن الصوم أفضل وروي ذلك عن معاذ بن جبل وأنس وبه قال إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ، وقالت طائفة : أفضل الأمرين أيسرهما عليه ، لقوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وهو قول مجاهد ، و قتادة وعمر بن عبد العزيز ، ومن أصبح مقيماً صائماً ثم سافر في أثناء النهار لا يجوز له أن يفطر ذلك اليوم عند أكثر أهل العلم ، وقالت طائفة : له أن يفطر ، وهو قول الشعبي وبه قال أحمد ، أما المسافر إذا أصبح صائماً فيجوز له أن يفطر بالاتفاق ، والدليل عليه ما أخبر عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد العزيز ابن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان ، فصام حتى بلغ كراع الغميم ، وصام الناس معه ، فقيل له يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون ، فأفطر بعض الناس وصام بعضهم ، فبلغه أن ناساً صاموا ، فقال : أولئك العصاة " . واختلفوا في السفر الذي يبيح الفطر ، فقال قوم : مسيرة يوم ، وذهب جماعة إلى مسيرة يومين ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، وذهب جماعة إلى مسيرة ثلاثة أيام ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .

قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر } . بإباحة الفطر في المرض والسفر .

قوله تعالى : { ولا يريد بكم العسر } . قرأ أبو جعفر : العسر واليسر ونحوهما بضم السين ، وقرأ الآخرون بالسكون . وقال الشعبي : ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله عز وجل .

قوله تعالى : { ولتكملوا العدة } . قرأ أبو بكر بتشديد الميم وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهو الاختيار لقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) والواو في قوله تعالى : ( ولتكملوا ) واو النسق ، واللام لام كي ، تقديره : " ويريد لكي تكملوا العدة " ، أي لتكملوا عدة أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم ، وقال عطاء : ولتكملوا العدة : أي عدد أيام الشهر .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقدموا الشهر بصوم يوم ولا يومين ، إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا " .

قوله تعالى : { ولتكبروا الله } . ولتعظموا الله .

قوله تعالى : { على ما هداكم } . أرشدكم إلى ما رضي به من صوم شهر رمضان ، وخصكم به دون سائر أهل الملل . قال ابن عباس : هو تكبيرات ليلة الفطر .

وروى الشافعي وعن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتكبير ، وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجاً فذكره التلبية .

قوله تعالى : { ولعلكم تشكرون } . الله على نعمه ، وقد وردت أخبار في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسني المروزي أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد بن قريش بن سليمان أخبرنا علي ابن عبد العزيز المكي أخبرنا أبو القاسم بن سلام حدثني إسماعيل بن جعفر عن أبي سهل نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل رمضان صفدت الشياطين ، وفتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار " .

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن الجراح أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا أبو كريب محمد بن العلاء أخبرنا أبو بكر محمد ابن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " .

أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر بن أحمد الكوفاني الهروي بها أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد النجيبي المصري بها المعروف بأبي النجاش قيل له أخبركم أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد المقبري البصري بمكة المعروف بابن الأعرابي أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني أخبرنا سفيان ابن عيينة عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار حدثنا الحسين ين أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الصفار ، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي إسحاق العنزي أخبرنا علي بن حجر بن إياس السعدي ، أخبرنا يوسف بن زياد عن علي بن زيد ابن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال : يا أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم ، وفي رواية قد أطلكم بالطاء ، أطل : أشرف ، شهر عظيم ، شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، شهر جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله تطوعاً ، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فيه فريضة كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، أي المساهمة ، وشهر يزاد فيه الرزق ومن فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء ، قالوا : يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء ، ومن أشبع صائماً سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ، فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم ، وخصلتين لا غنى بكم عنهما ، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه ، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة ، وتعوذون به من النار " .

أخبرنا الإمام أبوعلي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي ، أخبرنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع الصائم طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، والخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم الجنة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ، ولا يفسق ، فإنه سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن مطرف ، حدثني أبو حازم عن سهل ابن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون " . أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر بن أحمد بن الحارث أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن راشد بن سعد عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام : أي رب إني منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : رب إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } كلام مستأنف لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتب علينا الصوم فيها وأنها أيام شهر رمضان الذي يستحق كل مدح وثناء لتشرفه بنزول الكتب السماوية فيه .

قال الإِمام ابن كثير : يمدح - تعالى - شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم ، فقد ورد في الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإِلهية تنزل فيه على الأنبياء . فعن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإِنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " .

و { الشَّهْرَ } مأخوذ من الشهرة ، يقال : شهر الشيء يشهر شهرة وشهراً إذا ظهر بحيث لا يتعذر علمه على أحد ، ومنه يقال : شهرت السيف إذا سللته قال بعضهم : وسمى الهلال شهراً لشهرته وبيانه ، وبه سمى الشهر شهراً .

و { رَمَضَانَ } اسم لهذا الشهر الذي فرض علينا صيامه ، وهو مأخوذ - كما قال القرطبي - من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش ، والرمضاء : شدة الحر ، ومنه الحديث : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " - أي صلاة الضحى - قيل : إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك . وقيل إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة " .

وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ } خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي شهر رمضان أي : الأيام المعدودات ، وقوله : { الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } صفة للشهر .

ويجوز أن يكون قوله { شَهْرُ } مبتدأ وخبره الموصول بعده ، أو خبره قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وصح وجود الفاء في الخبر لكون المبتدأ موصوفاً بالموصول الذي هو شبه بالشرط . وقرئ بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف . أي : صوموا شهر رمضان .

و " القرآن " هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته .

والمراد بإنزال القرآن في شهر رمضان ابتداء إنزاله فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر . بدليل قوله - تعالى - { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } أي بدأنا إنزال القرآن في هذه الليلة المباركة ، إذ من المعروف أن القرآن استمر نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ثلاثة وعشرين سنة .

وقيل المراد بذلك ، أنزل في فضله القرآن ، قالوا : ومثله أن يقال : أنزل الله في أبي بكر الصديق كذا آية ، يريدون أنزل في فضله .

وقيل المراد أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها .

قال الآلوسي : وقوله - تعالى - : { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل . أي : أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير ، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل باشتماله على المعارف الإِلهية والأحكام العملية ، كما يشعر بذلك جعله بينات منها ، فهو هاد بواسطة أمرين ، مختص وغير مختص ، فالهدى ليس مكرراً ، وقيل : مكرر تنويهاً وتعظيماً لأمره وتأكيداً لمعنى الهداية كما تقول : علام نحرير " .

وقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يصح أن يكون شهد بمعنى حضر . كما يقال : فلان شهد بدراً ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : حضرها ، فيكون المعنى : فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيما وليس عنده ما يمنعه من الصو كمرض ونحوه ، فليصمه ؛ لأن صيامه ركن من أركان الدين ، وعليه يكون لفظ " الشهر " مصنوب على الظرفية .

ويصح أن يكون شهد بمعنى علم كقوله - تعالى - { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيكون المعنى : فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه .

وعليه يكون لفظ " الشهر " منصوب على أنه مفعول به بتقدير المضاف المحذوف و { مَن } موصولة أو شرطية وهو الأظهر و { مِنكُمُ } في محل نصب على الحال من الضمير في شهد فيتعلق بمحذوف أي : كائنا منكم . والضمير في " منكم " يعود على الذين آمنوا ، أي كل من حضر منكم الشهر فليصمه و ( أل ) في الشهر للعهد .

وأعيد ذكر الرخصة في قوله - تعالى - ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أنه قد صار متحتماً بحيث لا تتناوله الرخصة بوجه من الوجوه أو تتناوله ولكنها مفضولة ، وفي ذلك عناية بأمر الرخصة وأنها محبوبة له - تعالى - .

وقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } بيان الحكمة الرخصة .

أي : شرع لكم - سبحانه - الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة . ولا يريد بكم العسر والمشقة . قال - تعالى - : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن : " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " .

وقوله - تعالى - : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } معطوف على قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } إذ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } إلى قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .

والمعنى : شرع لكم - سبحانه - ما شرع من أحكام الصيام ، ورخص لكم الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولأنه يريد منكم أن تكملوا عدة الشهر بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته ، ومن لم يستطع منكم أداء الصوم في هذا الشهر لعذر فعليه قضاء ما فاته منه في أيام أخر ويريد منكم أن تكبروه - سبحانه - أي تحدوه وتعظموه ، فهو وحده الذي هداكم إلى تلك الأحكام النافعة التي في صلاحكم وسعادتكم ويريد منكم أن تشكروه بأن تواظبوا على الثناء عليه ، وعلى استعمال نعمه فما خلقت له فهو - سبحانه - الرءوف الرحيم بعباده ، إذ شرع لهم فيه اليسر لا ما فيه العسر .

وقد دلت الآية الكريمة على الأمر بالتكبير إذ جعلته مما يريده الله - تعالى - ولهذا جاءت السنة باستحباب التحميد والتسبيح والتكبير بعد الصلوات المكتوبات ، وفي عيدى الفطر والأضحى يكون تكبير الله - تعالى - هو مظهرهما الأعظم .

وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أكمل بيان وأحكمه فضل الصوم ، وحمة مشروعيته ومظاهر رحمة الله بعباده في هذه الفريضة ، وقد ذكرت أن المسلم له بشأن هذه الفريضة حلاة من حالات ثلاث :

الحالة الأولى : إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يرجى الشفاء منه ، أو مسافراً تتوفر فيه شروط الفطر ، فله أن يفطر وأن يقضي بعد رمضان الأيام التي أفطرها بدليل قوله - تعالى - : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .

الحالة الثانية : إذا كان المسلم في شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يرجى شفاؤه ، والصوم فيه مشقة عليه ، أو كان شيخاً كبيراً أو امرأة عجوزاً ولا يستطيعان الصوم ، فقد أباح الشارع لهؤلاء أن يفطروا وأن يطعموا عن كل يوم مسكيناً ، لأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها ، ولا ينتظر أن يكون المبتلى بعذر منها بعد رمضان خيراً منه في رمضان ، لذا أوجب الشارع على هؤلاء الفدية دون القضاء ، بدليل قوله - تعالى - { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ويحرم عليه أن يفطر ، وإن أفطر لغير عذر شرعي كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، ففي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه - أي لم يجزه - صوم الدهر كله وإن صامه " .

أي : لو حصل منه صوم طول حياته فلن يدرك ثواب ما ضيع بسبب فطره بغير عذر شرعي .

والأحاديث في الترغيب في صوم شهر رمضان ، وفي الترهيب من الفطر فيه كثيرة متنوعة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

178

وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم . . إنها صوم رمضان : الشهر الذي أنزل فيه القرآن - إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان ، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان - والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، فأنشأها هذه النشأة ، وبدلها من خوفها أمنا ، ومكن لها في الأرض ، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ، ولم تكن من قبل شيئا . وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء . فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن :

( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .

وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم - فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا :

( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) . .

أي من حضر منكم الشهر غير مسافر . أو من رأى منكم هلال الشهر . والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان .

ولما كان هذا نصا عاما فقد عاد ليستثني منه من كان مريضا أو على سفر :

( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .

وتحبيب ثالث في أداء الفريضة ، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء :

( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . .

وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها . فهي ميسرة لا عسر فيها . وهي توحي للقلب الذي يتذوقها ، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها ؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء . مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين .

وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر ، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر ، فلا يضيع عليه أجرها :

( ولتكملوا العدة ) .

والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر :

( ولتكبروا الله على ما هداكم . ولعلكم تشكرون ) . .

فهذه غاية من غايات الفريضة . . أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم . وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة . وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية ، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها . وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا . ليكبروا الله على هذه الهداية وليشكروه على هذه النعمة . ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة . كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام : ( لعلكم تتقون ) . .

وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس . وتتجلى الغاية التربوية منه ، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه ، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .

قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمْران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة - يعني ابن الأسقع - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من رمضان{[3186]} وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " {[3187]} .

وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل {[3188]} لثنتَي عشرة [ ليلة ]{[3189]} خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مَردُويه .

أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل - فنزل كل منها{[3190]} على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] . وقال : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعدُ مفرّقًا{[3191]} بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السّدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع{[3192]} في قلبي الشك من قول الله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وقد{[3193]} أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل {[3194]} على مواقع النجوم ترتيلا{[3195]} في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه .

وفي رواية سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس .

وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33 ] .

[ قال فخر الدين : ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله : { الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي : في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا ]{[3196]} .

وقوله : { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيِّنَاتٍ } أي : ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقًا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .

وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال : إلا " شهر رمضان " ولا يقال : " رمضان " ؛ قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، وسعيد - هو المقْبُري - عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان .

قال{[3197]} ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت .

قلت : أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [ في ]{[3198]} المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي{[3199]} - وهو جدير بالإنكار - فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : " باب يقال{[3200]} رمضان " {[3201]} وساق أحاديث في ذلك منها : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " ونحو ذلك .

وقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر - أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه - أن يصوم لا محالة . ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه . ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه : ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه ، أو يؤذيه{[3202]} أو كان على سفر أي في حال سفر - فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي : إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم .

وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية :

إحداها : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى ، عن جماعة من الصحابة والتابعين . وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم . فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار{[3203]} حتى بلغ الكَديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر . أخرجه صاحبا الصحيح{[3204]} .

الثانية : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحَتْم ؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان . قال : " فَمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائمُ على المفطر ، ولا المفطر على الصائم{[3205]} " . فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم {[3206]} الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [ قال ]{[3207]} خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في شهر رمضان ]{[3208]} في حَرٍّ شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [ من شدة الحر ]{[3209]} وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة{[3210]} .

الثالثة : قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل ، أخذا بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : " من أفطر فحَسَن ، ومن صام فلا جناح عليه " {[3211]} . وقال في حديث آخر :

" عليكم برخصة الله التي رخص لكم " {[3212]} وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة : أن حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟ فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . وهو في الصحيحين{[3213]} . وقيل : إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " . أخرجاه{[3214]} . فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة{[3215]} .

الرابعة : القضاء ، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يجب التتابع ؛ لأن القضاء يحكي الأداء . والثاني : لا يجب التتابع ، بل إن شاء فَرّق ، وإن شاء تابع . وهذا قول جُمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل{[3216]} ؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر . ولهذا قال تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قال الإمام أحمد :

حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن{[3217]} هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " {[3218]} .

وقال أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عُرْوة الفُقَيْمي ، حدثني أبي عُرْوَة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رَجلا{[3219]} يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله في يسر " ثلاثًا يقولها{[3220]} .

ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن عاصم بن هلال ، به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التيّاح ، سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يسروا ، ولا تعسروا ، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا " . أخرجاه في الصحيحين{[3221]} . وفي الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " . وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بالحنيفيَّة السمحة " {[3222]} .

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن مِحْجَن بن الأدرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره{[3223]} ساعة ، فقال : " أتراه يصلي صادقًا ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُسْمِعْه فَتُهلِكَه " . وقال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر ، ولم يرد بهم العُسْر " {[3224]} .

ومعنى قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي : إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض{[3225]} والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم .

وقوله : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [ البقرة : 200 ] وقال : [ { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } ] {[3226]} [ النساء : 103 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 ، 40 ] ؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .

وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ؛ لظاهر الأمر في قوله { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة - رحمه الله - أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم .

وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .


[3186]:في"أ" بعدها: "وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان".
[3187]:المسند (4/107).
[3188]:في جـ: "نزلت"، وفي أ: "نزل".
[3189]:زيادة من أ.
[3190]:في جـ: "منهما".
[3191]:في و: "متفرقا".
[3192]:في و: "أوقع".
[3193]:في جـ: "وهذا".
[3194]:في جـ: "ثم نزل".
[3195]:في أ: "رسلا".
[3196]:زيادة من جـ، أ.
[3197]:في جـ: "قال لي".
[3198]:زيادة من جـ.
[3199]:الكامل لابن عدي (7/53).
[3200]:في جـ: "باب بأن يقال".
[3201]:الترجمة في الصحيح (4/112): "باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعا".
[3202]:في جـ: "أو يمتد به".
[3203]:في أ، و: "فصام".
[3204]:صحيح البخاري برقم (1948، 4279) وصحيح مسلم برقم (1113).
[3205]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1118) من حديث أنس رضي الله عنه.
[3206]:في أ: "عليهم في الصيام".
[3207]:زيادة من و.
[3208]:زيادة من جـ، أ، و.
[3209]:زيادة من جـ، أ، و.
[3210]:صحيح البخاري برقم (1945) وصحيح مسلم برقم (1122).
[3211]:هذا لفظ حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في صحيح مسلم برقم (1121).
[3212]:هذا لفظ حديث جابر وسيأتي.
[3213]:صحيح البخاري برقم (1943) وصحيح مسلم برقم (1121).
[3214]:صحيح البخاري برقم (1946) وصحيح مسلم برقم (1121).
[3215]:المسند (2/71).
[3216]:في جـ: "تثبت الأدلة".
[3217]:في أ، و: "حدثنا أبو".
[3218]:المسند (3/479).
[3219]:في أ، و: "فخرج رجل".
[3220]:المسند (5/69).
[3221]:صحيح البخاري برقم (69) وصحيح مسلم برقم(1734).
[3222]:صحيح البخاري برقم (4341، 4342) وصحيح مسلم برقم (1733).
[3223]:في أ، و: "ببصره".
[3224]:ورواه أحمد في المسند (5/32) من طريق حماد عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق عن محجن نحوه.
[3225]:في أ: "للمريض".
[3226]:زيادة من جـ.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]. 72- القعنبي: قال مالك في الذي يرى الهلال في رمضان وحده: إنه يصومه لأنه لا ينبغي له أن يفطر، وهو يعلم أن ذلك من رمضان، ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر لأن الناس يتهمون أن يفطر من ليس منهم مأمونا ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم قد رأينا الهلال، ومن رأى هلال شوال نهارا فلا يفطر، وليتم صيام يومه فإنما هو هلال الليلة التي تأتي.

قال مالك في صيام الناس يوم الفطر وهم يظنون أنه من رمضان، فجاءهم ثبت: أن هلال رمضان قد رئي قبل أن يصوموا بيوم، وأن يومهم ذلك أحد وثلاثون يوما، وأنهم يفطرون من ذلك اليوم، أية ساعة جاءهم الخبر غير أنهم لا يصلون صلاة العيد، إن كان ذلك جاءهم بعد زوال الشمس...

قوله تعالى: {ومن كان مريضا} [البقرة: 185]. 73- يحيى: سمعت مالكا يقول: الأمر الذي سمعت من أهل العلم، أن المريض إذا أصابه المرض الذي يشق عليه الصيام معه، ويتبعه، ويبلغ ذلك منه. فإن له أن يفطر وكذلك المريض إذا اشتد عليه القيام في الصلاة، وبلغ منه ما الله أعلم بعذر ذلك من العبد، ومن ذلك ما لا تبلغ صفته، فإذا بلغ ذلك، صلى وهو جالس ودين الله يسر،

وقد أرخص الله للمسافر، في الفطر في السفر. وهو أقوى على الصيام من المريض. قال الله تعالى في كتابه: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}. فهذا أحب ما سمعت إلي وهو الأمر المجتمع عليه...

قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185]. 75- يحيى: قال مالك: وأحب إلي أن يكون، ما سمى الله في القرآن، يصام متتابعا. قال مالك فيمن فرق قضاء رمضان فليس عليه إعادة وذلك مجزي عنه وأحب ذلك إلي أن يتابعه...

قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]. 76- القرطبي: قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

الشهر فيما قيل أصله من الشهرة، يقال منه: قد شهر فلان سيفه إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه، يشهره شهرا، وكذلك شهر الشهر إذا طلع هلاله، وأشهرنا نحن إذا دخلنا في الشهر. وأما رمضان فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الحرّ الذي كان يكون فيه حتى تَرْمَضُ فيه الفصال، كما يقال للشهر الذي يحجّ فيه ذو الحجة، والذي يرتبع فيه ربيع الأول وربيع الآخر...

وأما قوله: {الّذي أُنْزلَ فيهِ القُرآنُ} فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه...

{هُدىً للنّاسِ}: رشادا للناس إلى سبيل الحقّ وقصد المنهج...

{وَبَيّناتٍ}: وواضحات من الهدى، يعني من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه...

{والفُرْقَان}: والفصل بين الحق والباطل...

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: فمن شهده عاقلاً بالغا مكلفا فليصمه.

{ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر}: ومن كان مريضا أو على سفر في الشهر فأفطر فعليه صيام عدّة الأيام التي أفطرها من أيام أخر غير أيام شهر رمضان...

والصواب من القول في ذلك عندنا، أن المرض الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدا غير محتمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدّة من أيام أخر، وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر، فإن لم يكن مأذونا له في الإفطار فقد كلف عسرا ومنع يسرا، وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله: {يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ.} وأما من كان الصوم غير جاهده، فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم، فعليه أداء فرضه...

{فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر}: أيام معدودة سوى هذه الأيام.

فإن كان ذلك تأويله، فما قولك فيمن كان مريضا أو على سفر فصام الشهر وهو ممن له الإفطار، أيجزيه ذلك من صيام عدّة من أيام أخر، أو غير مجزيه ذلك؟ وفرض صوم عدة من أيام أخر ثابت عليه بهيئته وإن صام الشهر كله، وهل لمن كان مريضا أو على سفر صيام شهر رمضان، أم ذلك محظور عليه، وغير جائز له صومه، والواجب عليه الإفطار فيه حتى يقيم هذا ويبرأ هذا؟

قيل: قد اختلف أهل العلم في كل ذلك...

فقال بعضهم: الإفطار في المرض عزمة من الله واجبة، وليس بترخيص...

وقال آخرون: إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره رخصها لعباده، والفرض الصوم، فمن صام فرضه أدّى، ومن أفطر فبرخصة الله له أفطر، قالوا: وإن صام في سفر فلا قضاء عليه إذا أقام...

وهذا القول عندنا أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن مريضا لو صام شهر رمضان وهو ممن له الإفطار لمرضه أن صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلوما بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره، لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للمريض وأمر به من القضاء.

ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحته ذلك بغيرها، وذلك قول الله تعالى ذكره: {يُريدُ الله بِكُم اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُم العُسْرَ} ولا عسر أعظم من أن يلزم من صامه في سفره عدة من أيام أخر، وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدّاه. فإن ظنّ ذو غباوة أن الذي صامه لم يكن فرضه الواجب، فإن في قول الله تعالى ذكره: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ}، {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فيهِ القُرآنُ} ما ينبئ أن المكتوب صومه من الشهور على كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقيما، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله: {يا أيّها الّذين آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ} {شَهْرُ رَمَضَانَ}، وأن قوله:

{ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر} معناه: ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر برخصة الله فعليه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه. ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذا سئل عن الصوم في السفر: «إن شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»، الكفاية الكافية عن الاستدلال على صحة ما قلنا في ذلك بغيره...

{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ.}: يريد الله بكم أيها المؤمنون بترخيصه لكم في حال مرضكم وسفركم في الإفطار، وقضاء عدّة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد أقامتكم وبعد برئكم من مرضكم، التخفيف عليكم والتسهيل عليكم، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال.

{وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}: ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم، فيكفلكم صوم الشهر في هذه الأحوال، مع علمه شدة ذلك عليكم وثقل حمله عليكم لو حملكم صومه...

{وَلِتُكْمِلُوا العِدّة}: عدّة ما أفطرتم من أيام أخر أوجبت عليكم قضاء عدّة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم...

{وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ}: ولتعظموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثل الذي كتب عليكم فيه، فضلوا عنه بإضلال الله إياهم، وخصكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتب الله عليكم من صومه، وتشكروه على ذلك بالعبادة له. والذكر الذي خصهم الله على تعظيمه به التكبير يوم الفطر...

{وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرونَ.}: ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق وتيسير ما لو شاء عسر عليكم.

و «لعل» في هذا الموضع بمعنى «كي»، ولذلك عطف به على قوله: {وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

تكبير الله هو تعظيمه، وذلك يكون بثلاثة معانٍ: عقد الضمير، والقول، والعمل؛

فعقد الضمير؛ هو اعتقادُ توحيد الله تعالى، وعدله وصحةُ المعرفة به وزوالُ الشكوك.

وأما القولُ؛ فالإقرارُ بصفاته العُلَى وأسمائه الحسنى وسائر ما مدح به نفسه.

وأما العملُ؛ فعبادتهُ بما يعْبَدُ به من الأعمال بالجوارح كالصلاة وسائر المفروضات، وكلّ ذلك غير مقبول إلاّ بعد تقدمة الاعتقاد له بالقلب على الحدّ الذي وصفنا، وأن يتحرَّى بجميع ذلك موافقة أمر الله.

وإذا كان تكبير الله تعالى ينقسم إلى هذه المعاني التي ذكرنا، وقد علمنا لا محالة أن اعتقاد التوحيد والإيمان بالله ورسله شرطٌ في سائر القُرَب، وذلك غير مختص بشيء من الطاعات دون غيرها، ومعلوم أيضاً أن سائر المفروضات التي يتعلق وجوبها بأسباب أُخَر؛ غير مبنية على صيام رمضان، ثبت أن التعظيم المذكور في هذه الآية ينبغي أن يكون متعلقاً بإكمال عِدَّة رمضان، وأولى الأشياء به إظهارُ لفظ التكبير، ثم جائزٌ أن يكون تكبيراً يفعله الإنسان في نفسه عند رؤية هلال شوال، وجائزٌ أن يكون المراد ما تأوّله كثير من السلف على أنه التكبير المفعول في الخروج إلى المصلَّى، وجائزٌ أن يريد به تكبيرات صلاة العيد؛ كلّ ذلك يحتمله اللفظ، ولا دلالة فيه على بعض دون بعض، فأيُّها فعل فقد قَضَى عهدة الآية وفعل مقتضاها،

ولا دلالة في اللفظ على وجوبه، لأن قوله تعالى {ولتكبروا الله} لا يقتضي الوجوب، إذ جائز أن يتناول ذلك النّفْل، ألا ترى أنا نكبر الله أو نعظمه بما نظهره من التكبير نفلاً؟ ولا خلاف بين الفقهاء أن إظهار التكبير ليس بواجب، ومن كبر فإنما فعله استحباباً، ومع ذلك فإنه متى فعل أدْنى ما يسمَّى تكبيراً فقد وافق مقتضى الآية. إلا أن ما روي من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف من الصدر الأول والتابعين في تكبيرهم يوم الفطر في طريق المصلَّى، يدلّ على أنه مراد الآية، فالأظهر من ذلك أنّ فِعْلَهُ مندوبٌ إليه ومستحبٌّ لا حَتْماً واجباً.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{ولتكبروا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ} لدينه ووفقكم ورزقكم شهر رمضان مخففّاً عليكم وخصّكم به دون سائر أهل الملل...

وقال أكثر العلماء: أراد به التكبير ليلة الفطر...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وفي إنزاله قولان: أحدهما: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر منه، ثم أنزله على نبيه صلى الله والثاني: أنه بمعنى أنزل القرآن في فرض صيامه، وهو قول مجاهد...

{وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرْ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وإنما أعاد ذكر الفطر بالمرض والسفر مع قرب ذكره من قبل، لأنه في حكم تلك الآية منسوخاً، فأعاد ذكره، لِئَلاَّ يصير بالمنسوخ مقروناً، وتقديره فمن كان مريضاً أو على سفر في شهر رمضان فأفطر، فعليه عدة ما أفطر منه، أن يقضيه من بعده...

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

{فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فعم تعالى الأسفار كلها ولم يخص سفرا من سفر. وهذه آية محكمة بإجماع من أهل الإسلام لا منسوخة ولا مخصوصة...

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، يريد –والله أعلم- من علم منكم بدخول الشهر، والعلم في ذلك ينقسم قسمين: أحدهما ضروري، والآخر غلبة الظن،

فالضروري: أن يرى الإنسان الهلال بعينه – في جماعة كان أو وحده، أو يستفيض الخبر عنده حتى يبلغ إلى حد يوجب العلم، أو يتم شعبان ثلاثين يوما، فهذا كله يقين يعلم ضرورة، ولا يمكن للمرء أن يشكك في ذلك نفسه.

وأما غلبة الظن: فأن يشهد بذلك شاهدان عدلان؛ وهذا معنى قول الله –عز وجل-: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. (ت: 14/340). 50- مالك... عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان، فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين).

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{شهر رمضان}؛ شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب. شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة، شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة. شهر النجاة، شهر المناجاة...

قوله جلّ ذكره: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}. أراد بك اليسر (وأنت تظن) أنه أراد بك العسر. ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه (أقامه) بطلب اليسر؛ ولو لم يُرِدْ به اليسر لَمَا جعله راغباً في اليسر...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الرمضان: مصدر رمض إذا احترق -من الرمضاء- فأضيف إليه الشهر وجعل علماً.

فإن قلت: لم سمي {شَهْرُ رَمَضَانَ}؟ قلت: الصوم فيه عبادة قديمة، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ومقاساة شدّته، كما سموه ناتقاً لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم إضجاراً بشدته عليهم. وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ.

ومعنى: {أُنزِلَ فِيهِ القرآن} ابتدئ فيه إنزاله. وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل: أنزل جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض نجوما. وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} كما تقول: أنزل في عمر كذا، وفي عليّ كذا. وعن النبي عليه السلام:

" نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين مضين".

{هُدًى لّلنَّاسِ وبينات} نصب على الحال، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحقّ والباطل.

فإن قلت: ما معنى قوله: {وبينات مِّنَ الهدى} بعد قوله {هُدًى لّلنَّاسِ}؟ قلت: ذكر أوّلاً أنه هدى، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال.

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: فمن كان شاهداً، أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر، فليصم فيه ولا يفطر.

{يُرِيدُ الله}: أن ييسر عليكم ولا يعسر، وقد نفى عنكم الحرج في الدين، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، و من جملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض.

{وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله: {لتكلموا} علة الأمر بمراعاة العدّة {وَلِتُكَبّرُواْ} علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. وإنما عدّى فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. ومعنى {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وإرادة أن تشكروا وقرئ: «ولتكملوا» بالتشديد.

فإن قلت: ما المراد بالتكبير؟ قلت: تعظيم الله والثناء عليه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قال مجاهد والضحاك بن مزاحم:"اليسر": الفطر في السفر. و {العسر}: الصوم في السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين نص على أن «دين الله يسر».

و {هداكم}: قيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد.

و {لعلكم تشكرون}: ترجِّ في حق البشر، أي على نعمة الله في الهدى...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان هذا خطاب إرقاء مدحه سبحانه وتعالى بإنزال الذكر فيه جملة إلى بيت العزة وابتدئ من إنزاله إلى الأرض.

قال الحرالي: وأظهر فيه وجه القصد في الصوم وحكمته الغيبية التي لم تجر في الكتب الأول الكتابي فقال: {الذي أنزل فيه القرآن} فأشعر أن في الصوم حسن تلق لمعناه ويسراً لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء، وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح -انتهى. وفي مدحه بإنزاله فيه مدح للقرآن به من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ليوقف على حقيقة ما أتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة من أنه {لا ريب فيه} [البقرة: 2] و أنه {هدى} البقرة: 2] على وجه أعم من ذلك الأول فقال سبحانه وتعالى:

{هدى للناس}...

قال الحرالي: اليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم. وقال: فيه إعلام برفق الله بالأجسام التي يسر عليها بالفطر، وفي باطن هذا الظاهر إشعار لأهل القوة بأن اليسر في صومهم وأن العسر في فطر المفطر، ليجري الظاهر على حكمته في الظهور ويجري الباطن على حكمته في البطون،... فلذلك والله سبحانه وتعالى أعلم "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في رمضان في السفر ويأمر بالفطر "وكان أهل القوة من العلماء يصومون ولا ينكرون الفطر- انتهى...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان} هذه الآية مستأنفة لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتبت علينا وأنها أيام شهر رمضان، وأن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذين أنزل فيه القرآن، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمان، ببعثة محمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، بالرسالة العامة للأنام، الدائمة إلى آخر الزمان، فالمراد بإنزال القرآن فيه بدؤه وأوله...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم.. إنها صوم رمضان: الشهر الذي أنزل فيه القرآن -إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان- والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمنا، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئا. وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء. فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن...

وتحبيب ثالث في أداء الفريضة، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء:

(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)..

وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها. فهي ميسرة لا عسر فيها. وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء. مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.

وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها:

(ولتكملوا العدة).

والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر:

(ولتكبروا الله على ما هداكم. ولعلكم تشكرون)..

فهذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم. وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة. وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها. وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا. ليكبروا الله على هذه الهداية وليشكروه على هذه النعمة. ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة. كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام: (لعلكم تتقون)..

وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس. وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى {الذي أنزل فيه} أنزل في مثله؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فَبَيْن فرض الصيام والشهرِ الذي أنزل فيه القرآن حقيقةً عدةُ سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر...

وقوله: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة} قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله: {فمن كان منكم مريضاً} [البقرة: 184] أنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] الخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله {شهر رمضان} الآية وصار الصوم واجباً على التعيين خيف أن يظُنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحاً ببقاء تلك الرخصة، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله: {ومن كان مريضاً} لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

نحن نملك لغة عربية دقيقة، وعندنا فرق بين {أنزل} و {نزّل} و {نزَل} ولذلك فكلمة (نزَل) تأتي للكتاب، وتأتي للنازل بالكتاب، يقول تعالى: {نزَل به الروح الأمين 193} (سورة الشعراء). ويقول سبحانه: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزَل} (من الآية 105 سورة الإسراء). وكان بعض من المشركين قد تساءلوا؛ لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة؟.

وانظر إلى الدقة في الهيئة التي أراد الله بها نزول القرآن فقد قال الحق: {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً 22} (سورة الفرقان). وعندما نتأمل قول الحق: (كذلك) فهي تعني أنه سبحانه أنزل القرآن على الهيئة التي نزل بها لزوماً لتثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولو نزل مرة واحدة لكان تكليفاً واحداً، وأحداث الدعوة شتى وكل لحظة تحتاج إلى تثبيت فحين يأتي الحدث ينزل نجم قرآني فيعطي به الحق تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم...

[و] انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قوله: {ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}. إن العبادة التي نفهم أن فيها مشقة هي الصيام وبعد ذلك تكبرون الله؛ لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقه عليه مثل الصوم ويتحمله، وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقاً يستحق أن يشكر الله الذي كلفه بالصوم ووفقه إلى أدائه؛ لأن معنى {ولتكبّروا الله} يعني أن تقول: (الله أكبر) وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات، فتقول: الله أكبر من كل ذلك، الله أكبر؛ لأنه حين يمنعني يعطيني، وسبحانه يعطي حتى في المنع؛ فأنت تأخذ مقومات حياة ويعطيك في رمضان ما هو أكثر من مقوّمات الحياة والإشراقات التي تتجلى لك، وتذوق حلاوة التكليف وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه أعطاك نعمة أكثر منها...

وبعد ذلك فالنسق القرآني ليس نسقاً من صنع البشر، فنحن نجد أن نسق البشر يقسم الكتاب أبواباً وفصولاً ومواد كلها مع بعضها، ويفصل كل باب بفصوله ومواده، وبعد ذلك ينتقل لباب آخر، لكن الله لا يريد الدين أبواباً، وإنما يريد الدين وحدة متكاتفة في بناء ذلك الإنسان، فيأتي بعد قوله: {ولتكبّروا الله} ب

(ولعلكم تشكرون) ومعنى ذلك أنكم سترون ما يجعلكم تنطقون ب (الله أكبر)؛ لأن الله أسدى إليكم جميلاً، وساعة يوجد الصفاء بين (العابد) وهو الإنسان و

(المعبود) وهو الرب، ويثق العابد بأن المعبود لم يكلفه إلا بما يعود عليه بالخير، هنا يحسن العبد ظنه بربه، فيلجأ إليه في كل شيء، ويسأله عن كل شيء، ولذلك جاء هنا قول الحق: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون 186}...