{ رَمَضَانَ } مأخوذ من رمض الصائم يرمض : إذا احترق جوفه من شدة العطش ، والرمضاء ممدود : شدّة الحرّ ، ومنه الحديث الثابت في الصحيح : «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال » أي : أحرقت الرمضاء أجوافها . قال الجوهري : وشهر رمضان يجمع على رمضانات ، وأرمضاء يقال : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام الحرّ ، فسمي بذلك ، وقيل : إنما سمي رمضان ؛ لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة . وقال الماوردي : إن اسمه في الجاهلية ناتق ، وأنشد المفضل :
وفي ناتِقٍ أجْلَت لَدى حَوْمَةِ الوَغَا *** وولَّتْ على الأدبار فُرسانُ خَثْعَما
وإنما سموه بذلك ؛ لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم ، و { شهر } مرتفع في قراءة الجماعة على أنه مبتدأ خبره : { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : المفروض عليكم صومه شهر رمضان ، ويجوز أن يكون بدلاً من الصيام المذكور في قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } . وقرأ مجاهد ، وشهر بن حوشب بنصب الشهر ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو ، وهو منتصب بتقدير : الزموا أو صوموا . قال الكسائي ، والفراء : إنه منصوب بتقدير فعل { كتب عليكم الصيام } { وأن تصوموا } وأنكر ذلك النحاس ، وقال : إنه منصوب على الإغراء . وقال الأخفش : إنه نصب على الظرف ، ومنع الصرف للألف والنون الزائدتين .
قوله : { أُنزِلَ فِيهِ القرآن } قيل : أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم كان جبريل ينزل به نجماً نجماً . وقيل : أنزل فيه أوّله ، وقيل : أنزل في شأنه القرآن . وهذه الآية أعم من قوله تعالى : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] . وقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } [ الدخان : 3 ] يعني : ليلة القدر . والقرآن اسم لكلام الله تعالى ، وهو بمعنى المقروء كالمشروب سمي شراباً ، والمكتوب سمي كتاباً ، وقيل : هو مصدر قرأ يقرأ ، ومنه قول الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به *** يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي : قراءة ، ومنه قوله تعالى : { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] أي : قراءة الفجر . وقوله : { هُدىً للنَّاسِ } منتصب على الحال ، أي : هادياً لهم . وقوله : { وبينات منَ الهدى } من عطف الخاص على العام ، إظهاراً لشرف المعطوف بإفراده بالذكر ؛ لأن القرآن يشمل محكمه ، ومتشابهه ، والبينات تختص بالحكم منه . والفرقان : ما فرق بين الحق والباطل : أي : فصل . قوله : { مَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } أي : حضر ، ولم يكن في سفر بل كان مقيماً ، والشهر منتصب على أنه ظرف ، ولا يصح أن يكون مفعولاً به . قال جماعة من السلف ، والخلف : إن من أدركه شهر رمضان مقيماً غير مسافر لزمه صيامه ، سافر بعد ذلك ، أو أقام استدلالاً بهذه الآية . وقال الجمهور : إنه إذا سافر أفطر ، لأن معنى الآية : إن حضر الشهر من أوّله إلى آخره لا إذا حضر بعضه ، وسافر ، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره ، وهذا هو الحق ، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة .
وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فيفطر . وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قد تقدّم تفسيره .
وقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } فيه أن هذا مقصد من مقاصد الربّ سبحانه ، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين ، ومثله قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرشد إلى التيسير ، وينهى عن التعسير كقوله صلى الله عليه وسلم : «يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا » وهو في الصحيح . واليسر السهل الذي لا عسر فيه . وقوله : { وَلِتُكْمِلُوا العدة } الظاهر أنه معطوف على قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } أي : يريد بكم اليسر ، ويريد إكمالكم للعدّة ، وتكبيركم ، وقيل : إنه متعلق بمحذوف تقديره : رخص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة ، وشرع لكم الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة . وقد ذهب إلى الأوّل البصريون قالوا : والتقدير يريد ؛ لأن تكملوا العدّة ، ومثله قول كثير بن صخر :
أريدُ لأنسى ذِكرَها فَكَأنَّما *** تَمَثَّل ليِ لَيْلا بِكُلِ سَبِيل
وذهب الكوفيون إلى الثاني ، وقيل : الواو مقحمة ، وقيل : إن هذه اللام لام الأمر ، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها . وقال في الكشاف : إن قوله : { وَأَحْصُوا العدة } علة للأمر بمراعاة العدّة { وَلِتُكَبّرُوا } علة ما علم من كيفية القضاء ، والخروج عن عهدة الفطر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علة الترخيص ، والتيسير ، والمراد بالتكبير هنا : هو قول القائل : «الله أكبر » . قال الجمهور ومعناه : الحضّ على التكبير في آخر رمضان . وقد وقع الخلاف في وقته ، فروى عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ، وقيل : إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة ، وقيل : إلى خروج الإمام ، وقيل : هو التكبير يوم الفطر . قال مالك : هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : يكبر في الأضحى ، ولا يكبر في الفطر . وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قد تقدّم تفسيره .
وقد أخرج أبو حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عديّ ، والبيهقي في سننه ، عن أبي هريرة مرفوعاً ، وموقوفاً : «لا تقولوا رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا شهر رمضان » وقد ثبت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » وثبت عنه أنه قال : «من قام رمضان إيماناً ، واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » وثبت عنه أنه قال : " شهرا عيد لا ينقصان : رمضان ، وذو الحجة " وقال : " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة " وهذا كله في الصحيح . وثبت ، عنه في أحاديث كثيرة غير هذه أنه كان يقول : " رمضان " بدون ذكر الشهر . وأخرج ابن مردويه والأصبهاني في الترغيب : عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي رمضان ؛ لأن رمضان يرمض الذنوب " وأخرجا أيضاً ، عن عائشة مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر نحوه . وقد ورد في فضل رمضان أحاديث كثيرة ، وأخرج أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان ، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه عن جابر مثله ، لكنه قال : " وأنزل الزبور الاثني عشر " وزاد : " وأنزل التوراة لست خلون من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان " وأخرج محمد بن نصر عن عائشة نحو قول جابر ، إلا أنها لم تذكر نزول القرآن .
وأخرج ابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء ، والصفات عن مقسمٍ ؛ قال : سأل عطيةُ بنُ الأسود ابنَ عباس فقال : إنه قد وقع في قلبي الشكّ في قول الله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } . وقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] وقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } [ الدخان : 3 ] فقال ابن عباس : إنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان ، وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام . وأخرج محمد بن نصر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ؛ قال : نزل القرآن جملة لأربعة وعشرين من رمضان ، فوضع في بيت العزّة في السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلاً .
وأخرج ابن جرير ، عنه أنه قال : «ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي في رمضان أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور » . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : { هُدىً للناس } قال : يهتدون به { وبينات منَ الهدى } قال : فيه الحلال ، والحرام ، والحدود . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَن شَهِدَ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } قال : هو إهلاله بالدار . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عليّ قال : من أدرك رمضان ، وهو مقيم ، ثم سافر ، فقد لزمه الصوم ؛ لأن الله يقول : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . وأخرج سعيد بن منصور ، عن ابن عمر نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } قال : اليسر الافطار في السفر ، والعسر : الصوم في السفر .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العدة } قال : عدّة شهر رمضان . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : أنه قال : عدة ما أفطر المريض في السفر . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم ، فأكملوا العدّة ثلاثين يوماً » وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : حقّ على الصائمين إذا نظروا إلى شهر شوّال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم ؛ لأن الله يقول : { وَلِتُكْمِلُوا العدة وَلِتُكَبّرُوا الله على مَا هَدَاكُمْ } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، عن ابن مسعود أنه كان يكبر : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس ، أنه كان يكبر : الله أكبر كبيرا ، الله أكبر كبيراً ، الله أكبر ، ولله الحمد وأجلّ ، الله أكبر على ما هدانا .