قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : فيه قراءتان ، المشهورةُ الرفعُ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، وفي خبرهِ حينئذٍ قولان ، الأولُ : أنه قولُه { الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملةَ مَنْبَهَةً على فَضْلِه ومَنْزِلَتِه ، يعني أنَّ هذا الشهر الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هو الذي فُرِضَ عليكم صومُهُ ، والقولُ الثاني : أنه قولُه : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وتكونُ الفاءُ زائدةً وذلك على رأي الأخفشِ ، وليست هذه الفاء لا تزاد في الخبرِ لشبهِ المبتدأِ بالشرطِ ، وإن كان بعضُهم زَعَم أنَّها مثلُ قولِهِ : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] وليس كذلك ، لأنَّ قولِهِ : { الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ } يُتَوَهَّم فيه عمومٌ بخلاف شهر رمضان . فإنْ قيل : أين الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين المبتدأِ ؟ قيل : تكرارُ المبتدأِ بلفظِه كقوله :
لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الإِعراب - أعني كون " شهر رمضان " مبتدأ - على قولِنا : إن الأيامَ المعدوداتِ هي غيرُ رمضان ، أمَّا إذا قُلْنا إنها نفسُ رمضان ففيه الوجهان الباقيان .
أحدُهما : أن يكون خَبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، فقدَّرَهُ الفراء : ذلكم شهرُ رمضانَ ، وقدَّره الأخفش : المكتوبُ شهرُ ، والثاني : أن يكونَ بدلاً مِنْ قَوْلِهِ " الصيام " أي : كُتِبَ عليكم شهرُ رمضانَ ، وهذا الوجهُ وإن كان ذهب إليه الكسائي بعيدٌ جداً لوجهين ، أحدُهما : كثرةُ الفصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه . والثاني : أنه لا يكونُ إذ ذاك إلا مِنْ بدلِ الإِشمالِ وهو عكسُ بدلِ الاشتمالِ ، لأنَّ بدلَ الاشتمال غالباً بالمصادرِ كقوله : { عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ }
[ البقرة : 217 ] ، وقول الأعشى :
لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه *** تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصدرِ . ويمكن أن يوجَّهَ قولُه بأنَّ الكلامَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُهُ : صيامُ شهر رمضان ، وحينئذٍ يكونُ من بابِ [ بدلِ ] الشيءِ من الشيءِ وهما لعينٍ واحدة . ويجوزُ أن يكونَ الرفعُ على البدلِ من قوله " أياماً معدوداتٍ " في قراءةِ مَنْ رَفَع " أياماً " ، وهي قراءة عبدِ الله وفيه بُعْدٌ .
وأَمَّا غيرُ المشهورِ فبالنصب ، وفيه أوجهٌ ، أجودُها ، النصبُ بإضمار فعلٍ أي : صُوموا شهرَ رمضانَ . الثاني - وذَكَره الأخفشُ والرُمَّاني - : أن يكونَ بدلاً من قولِهِ " أياماً معدوداتٍ " ، وهذا يُقَوِّي كونَ الأيام المعدودات هي رمضانَ ، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ . الثالثَ : نَصْبٌ على الإِغراء ذكره أبو عبيدة والحوفي . الرابع : أَنْ ينتصِبَ بقولِهِ : " وَأَنْ تصوموا " حكاه ابن عطية ، وجَوَّزَهُ الزمخشري ، وغَلَّطَهما الشيخُ : " بأنَه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصولِ وصلِتهِ بأجنبي ، لأنَّ الخبرَ وهو " خيرٌ " أجنبي من الموصولِ ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِهِ ، و " شهر " على رأيهم من تمامِ صلة " أَنْ " فامتنع ما قالوه .
وليس لقائلٍ أن يقول : يتخرَّجُ ذلك على الخلافِ في الظرفِ وحَرفِ الجر فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم لأنَّ الظاهرَ من نصبِهِ هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ " . الخامسُ : أنه منصوبٌ ب " تَعْملون " على حَذْفِ مضافٍ ، تقديرُهُ : تعلمونَ شرفَ شهرِ رمضان فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقَامَهُ في الإِعرابِ .
وأَدْغم أبو عمر راء " شهر " في راء " رمضان " ، ولا يُلْتفت إلى من استضعفها من حيثُ إنَّه جَمَعَ بين ساكنين على غيرِ حَدَّيْهِما ، وقولُ ابن عطية : " وذلك لا تقتضيه الأصولُ " غيرُ مقبولٍ منه ، فإنَّه إذا صَحَّ النقلُ لا يُعارَضُ بالقياس .
والشهرُ لأهلِ اللغة فيه قولان ، أشهرهُما : أنه اسمٌ لمدةِ الزمانِ التي يكونُ مَبْدَؤُها الهلال خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ ، سُمِّي بذلك لِشُهْرَتِهِ في حاجةِ الناسِ إليه من المعلوماتِ . والثاني - قاله الزجاج - أنه اسمٌ للهلالِ نفسه . قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والشهرُ مثلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
سُمِّي بذلك لبيانِهِ ، قال ذو الرُّمَّة :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَرى الشهرَ قبلَ الناسِ وهو نَحِيلُ
يقولون : رَأَيْتُ الشهرَ أي : هلاله ، ثم أُطْلِقَ على الزمانِ لطلوعِهِ فيه ، ويقال : أَشْهَرْنا أي : أتى علينا شهرٌ . قال الفراء : " لم أَسْمَعْ فعلاً إلاَّ هذا " قال الثعلبي : " يُقال شَهَرَ الهِلالُ إذا طَلَعَ " . ويُجْمَعُ في القلةِ على أَشْهُر/ وفي الكثرةِ على شُهور . وهما مَقِيسان .
ورمضانُ علمٌ لهذا الشهر المخصوصِ وهو علمُ جنسٍ ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ ، أحدُهما : أنَّه وافق مجيئه في الرَّمْضَاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّي بذلك ، كربيع لموافقتِه الربيعَ ، وجُمادى لموافقتِه جمود الماء ، وقيل : لأنه يَرْمَضُ الذنوبَ أي : يَحْرِقُها بمعنى يَمْحُوها . وقيل : لأنَّ القلوبَ تَحْتَرق فيه من الموعظة . وقيل : من رَمَضْتُ النَّصْلَ دَقَقْتُه بين حجرينِ ليَرِقَّ يقال : نَصْلٌ رَميض ومَرْموض . وكان اسمه في الجاهليةِ ناتِقاً . أنشد المفضَّل :
وفي ناتِقٍ أَجْلَتْ لدى حَوْمةِ الوَغى *** وولَّتْ على الأدبارِ فُرْسانُ خَثْعَمَا
وقال الزمشخري : " الرَّمَضانُ مصدرُ رَمِضَ إذا احترَق من الرَّمْضاء " قال الشيخ : " وَيَحْتَاج في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صحةِ نقلٍ ، فإن فَعَلاناً ليس مصدرَ فَعِل اللازم ، بل إِنْ جاءَ منه شيءٌ كان شاذَّاً " . وقيل : هو مشتقٌّ من الرَّمَضِيّ وهو مَطَرٌ يأتي قبلَ الخريفِ يُطَهِّر الأرضَ من الغبار فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذنوب .
والقرآنُ في الأصلِ مصدرُ " قَرَأْتُ " ، ثم صارَ عَلَماً لِما بين الدَّفَّتْينِ ويَدُلُّ على كونِه مصدراً في الأصلِ قولُ حَسَّان في عثمانَ رضي الله عنهما :
ضَحُّوا بأَشْمَطَ عنوانُ السجودِ به *** يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقُرْآنا
وهو مِنْ قَرَأَ بالهمزِ أي : جَمَعَ ، لأنه يَجْمَعُ السورَ والآيات والحِكَمَ والمواعِظَ والجمهورُ على همزه ، وقرأ ابنُ كثير من غيرِ همزٍ .
واختُلِفَ في تخريج قراءته على وَجْهَيْن أَظهرُهما : أنه من باب النقلِ ، كما يَنْقُل ورش حركةَ الهمزة إلى الساكنِ قبلَها ثم يَحْذِفُها في نحوِ :
{ قَدْ أَفْلَحَ } [ المؤمنون : 1 ] وهو وإنْ لم يكنْ أصلُه النقلَ ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرةِ الدَّوْر وجمعاً بين اللغتين .
والثاني : أنه مشتقٌّ عنده مِنْ قَرَنْتُ بين الشيئين ، فيكونُ وزنُهُ على هذا : فُعالاً ، وعلى الأول . فُعْلاناً ، وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السورِ والآياتِ والحِكَمْ والمواعِظِ .
وأما قولُ مَنْ قال إنَّه مشتقٌّ مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ أي جَمَعْتُه فغلطٌ ، لأنَّهما مادتان متغايرتان . و " القرآنُ " مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله ، ومعنى { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } : أنَّ القرآن نَزَلَ فيه فهو ظرفٌ لإِنزالِه : قيل في الرابع والعشرين منه ، وقيل : أُنْزِلَ في شأنِه وفضلِه ، كقولك " أُنِزِلَ في فلانٍ قرآنٌ " .
قوله : { هُدًى } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن ، والعاملُ فيه " أُنْزِلَ " وهُدَىً ومصدرٌ ، فإمَّا أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا هدى أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : هادياً ، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً .
قوله : { لِّلنَّاسِ } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ ب " هُدَىً " على قولِنا بأنه وَقَعَ مَوْقِعَ " هادٍ " ، أي : هادياً للناس . والثاني : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للنكرةِ قبلَه ، ويكونُ محلُّه النصبَ على الصفةِ ، ولا يجوزُ أَنْ يكون " هُدَىً " خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : " هو هدى " لأنه عُطِفَ عليه منصوبٌ صريحٌ وهو : " بَيِّنات " ، و " بَيِّنات " عطفٌ على الحالِ فهي حالٌ أيضاً ، وكِلا الحالَيْنِ لازمةٌ ، فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ ، وهذا من باب عطف الخاص على العامَّ ، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة .
قوله : { مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌُ لقوله : " هدىً وبَيِّناتٍ " فمحلُّه النصبُ ، ويتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : إنَّ كَوْنَ القرآنِ هدىً وبّيِّناتٍ " هو من جملةِ هُدَى الله وبَيِّناتِه ؛ وعَبَّر عن البيناتِ بالفرقان ولم يأتِ " من الهُدى والبينات " فيطابقْ العجزُ الصدر لأنَّه فيه مزيدٌ معنىً لازم للبينات وهو كونُه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ ، ومتى كان الشيءُ جليَّاً واضحاً حَصَل به الفرقُ ، ولأنَّ في لفظِ الفرقانِ تواخيّ الفواصِلِ قبله ، فلذلك عَبَّر عن البينات بالفرقان . وقال بعضُهم : " المرادُ بالهُدى الأولِ أصولُ الدياناتِ وبالثاني فروعُها " . وقال ابنُ عطية : " اللامُ في الهُدى للعهدِ ، والمرادُ الأولُ " يعني أنه تقدَّم نكرةٌ ، ثم أُعيد لفظُها معرفاً بأل ، وما كان كذلك كانَ الثاني فيه هو الأولَ نحو قولِه : { إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 15-16 ] ، ومِنْ هنا قال ابن عباس : " لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " وضابطُ هذا أَنْ يَحُلَّ محلَّ الثاني ضميرُ النكرةِ الأولى ، ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه لكان كلاماً صحيحاً " .
قال الشيخ : " وما قاله ابنُ عطية لا يتأتَّى هنا ، لأنه ذَكَرَ هو والمُعْرِبُون أنَّ " هدى " منصوبٌ على الحالَ ، والحالُ وَصْفٌ في ذي الحال ، وعَطَفَ عليه " وَبيِّنات " فلا يَخْلو قولُه " من الهدى " - والمرادُ به الهدى الأولُ - من أن يكونَ صفةً لقولِه " هُدَىً " أو لقولِهِ " وبيناتٍ " أَوْ لهما ، أو متعلِّقاً بلفظ " بينات " . لا جائزٌ أن يكونَ صفةً ل " هدى " لأنه مِنْ حيثُ هو وَصْفٌ لزم أن يكونَ بعضاً ، ومن حيث هو الأولُ لَزِم أن يكونَ إياه ، والشيء الواحدُ لا يكونُ بعضاً كُلاًّ بالنسبةِ لماهِيَّته ، ولا جائزٌ أَنْ يكونَ صفةً لبيناتٍ فقط لأنَّ " وبينات " معطوفٌ على " هُدَى " و " هُدَى " حالٌ ، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ ، والحالانِ وصفٌ في ذي الحال ، فمِنْ حيثُ كونُهما حالَيْن تَخَصَّص بهما ذو الحال إذ هما وَصْفان ، ومِنْ حيثُ وُصِفَتْ " بَيِّنات " بقوله : " مِنَ الهدى " خَصَصْناها به/ فتوقَّفَ تخصيصُ القرآن على قوله : " هُدَىً وَبَيَّنات " معاً ، ومن حيثُ جَعَلْتَ " مِنَ الهدى " صفةً لبيِّنات وتَوَقَّفَ تخصيصُ " بيِّنات " على " هُدَى " فَلَزِمَ من ذلك تخصيصُ الشيءِ بنفسِه وهو مُحالٌ . ولا جائزٌ أَنْ يَكونَ صفةً لهما لأنه يَفْسُدُ من الوجهينِ المذكورينِ مِنْ كونِه وَصَفَ الهدى فقط ، أو بينات فقط .
ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بلفِظِ " بينات " لأنَّ المتعلَّقَ قَيْدٌ في المتعلَّقِ به ، فهو كالوصفِ فيمتنع من حيثُ يمتنعُ الوصفُ ، وأيضاً فلو جَعَلْتَ هنا مكانَ الهدى ضميراً فقلْتَ : منه ، أي : من ذلك الهُدى لم يَصِحَّ ، فلذلك اخْتَرْنا أن يكونَ الهُدى والفرقانُ عامَّيْنِ حتى يكونَ هُدَى وبينات بعضاً منهما " .
قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } " مَنْ " فيها الوجهانِ : أعني كونَها موصولةً أو شرطيةً ، وهو الأظهرُ . و " منكم " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في " شَهِدَ " ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي :كائناً منكم . وقال أبو البقاء : " منكم " حالٌ من الفاعلِ ، وهي متعلقةٌ ب " شِهِدَ " . قال الشيخ : " فَناقَضَ ، لأنَّ جَعْلَهَا حالاً يوجِبُ أَن يكونَ عاملُها محذوفاً ، وجَعْلَها متعلقةً بشَهِدَ يوجِبُ ألاَّ تكونَ حالاً " . ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن اعتراضِ الشيخ عليه بأنَّ مرادَه التعلُّق المعنوي ، فإنَّ كائناً الذي هو عاملٌ في قولِه " منكم " هو متعلِّقٌ بشَهِدَ ، وهو الحالُ حقيقةً .
وفي نَصْبِ " الشهر " قولان ، أحدُهما : أنَّه منصوبٌ على الظرف ، والمرادُ بشَهِدَ : حَضَر ويكونُ مفعولُ " شَهِدَ " محذوفاً تقديرُه : فَمَنْ شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلدَ في الشهرِ .
والثاني : أنه منصوبٌ على المفعولِ به ، وهو على حَذْفِ مضافٍ . ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف : فالصحيحُ أنَّ تقديره " دخول الشهر " . وقال بعضُهم : هلال الشهر ، وهذا ضعيفٌ لوجهين ، أحدهما : أنك لا تقول : شَهِدْتُ الهلالَ ، إنما تقول : شاهَدْتُ الهِلالَ .
والثاني : أنه كان يَلْزَمُ الصومَ كلُّ مَنْ شَهِدَ الهلالَ ، وليس كذلك . وقال الزمخشري : " الشهرَ منصوبٌ على الظرف ، وكذلك الهاءُ في " فَلْيَصُمْه " ، ولا يكونُ مفعولاً به كقولك : شَهِدْتُ الجمعة ، لأنَّ المقيمَ والمسافِرَ كِلاهُما شاهِدَان للشهرِ " وفي قوله : " الهاء منصوبةٌ على الظرفِ " فيه نظرٌ لا يَخْفَى ، لأنَّ الفعلَ لا يتعدَّى لضميرِ الظَرْفِ إلا ب " في " ، اللهم إلاَّ أَنْ يُتَوَسَّع فيه ، فَيُنْصَبَ نَصْبَ المفعولِ به ، وهو قد نَصَّ على أَنَّ نَصْبَ الهاءِ أيضاً على الظرفِ .
والفاءُ في قولِه : " فَلْيَصُمْهُ " : إمَّا جوبُ الشرطِ ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حَسَبِ ما تقدَّم في " مَنْ " ، واللامُ لامُ الأمرِ . وقرأ الجمهورُ بسكونِها وإنْ كان أصلُها الكسرَ ، وإنما سكَّنوها تشبيهاً لها مع الواوِ والفاءِ ب " كَتِف " ، إجراءً للمنفصِلِ مُجْرَى المتصلِ . وقرأ السلمي وأبو حَيْوة وغَيرُهُما بالأصل ، أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن . وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه الفراء ، وقَيَّد بعضُهم هذا عن الفراء ، فقال : " مِنَ العرب مَنْ يفتحُ هذه اللام لفتحةِ الياء بعدها " ، قال : " فلا يكونُ على هذا الفتحُ إنِ انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ نحو : لِيُنْذِرُ ، ولِتُكْرِمْ أنتَ خالداً " .
والألفُ واللامُ في قولِه { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } للعهدِ إذ لو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ : فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به .
قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا } [ البقرة : 26 ] . و " أراد " يتعدى في الغالبِ إلى الأجْرام بالياء وإلى المصادرِ بنفسِه كالآيةِ الكريمةِ ، وقد يَنعكِسُ الأمرُ ، قال الشاعر :
أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ *** عَراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ
والباءُ في " بكم " قالَ أبو البقاء : " للإِلصاقِ ، أي : يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ وهو من مجازِ الكلامِ ، أي : يريدُ اللهُ بفِطْركم في حالِ العُذْرِ اليسرَ . وفي قولِه : { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } تأكيدٌ ، لأنَّ قبلَه { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } وهو كافٍ عنه . وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب وابن هرمز : " اليُسُر والعُسُر " بضمّ السين ، واختلف النحاةُ : هل الضَمُّ أصلٌ والسكونُ تخفيفٌ ، أو الأصلُ السكونُ والضمُّ للإِتباعِ ؟ الأولُ أظهرُ لأنه المعهودُ في كلامِهم .
قوله : { وَلِتُكْمِلُواْ } في هذه اللام ثلاثةُ أقوالٍِ ، أحدُها : أنها زائدةٌ في المفعولِ به كالتي في قولك : ضَرَبْتُ لزيدٍ ، و " أَنْ " مُقَدَّرةٌ بعدَها تقديرُه : " ويريد أنْ تُكمِلوا العِدَّة " أي : تكميلَ ، فهو معطوفٌ على اليُسْر . ونحوُه قولُ أبي صخر :
أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما *** تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء ، وإنما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المفعولِ - وإنْ كان ذلك إنما يكونُ إذا كان العاملُ فرعاً أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طالَ . الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه فَعُدِّي بزيادة اللام قياساً لضَعْفِه بطولِ الفصلِ على ضَعْفِه بالتقديم .
الثاني : أنَّها لامُ التعليل وليسَتْ بزائدةٍ ، واختلَفَ القائلون بذلك على ستةِ أوجه أحدُها : أن يكونَ بعدَ الواوِ فعلٌ محذوفٌ / وهو المُعَلَّل تقديرُه : " ولِتُكْمِلوا العِدَّة فَعَلَ هذا " ، وهو قولُ الفراء . الثاني - وهو قولُ الزجاج - أن تكونَ معطوفةً على علة محذوفةٍ حُذِفَ معلولُها أيضاً تقديرُه : فَعَلَ الله ذلك لِيُسَهِّل عليكِم ولِتُكْمِلوا . الثالث : أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعد هذه العلةِ تقديرُه : " ولِتُكْمِلوا العدَّةَ رخَّص لكم في ذلك " ونَسبه ابن عطية لبعض الكوفيين . الرابع : أنَّ الواوَ زائدةٌ تقديرُه : يريد الله بكم كذا لِتُكْمِلوا ، وهذا ضعيفٌ جداً . الخامسُ : أَنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعدَ قولِه : " ولَعَلَّكم تَشْكُرون " ، تقديرُه : شَرَعَ ذلك ، قاله الزمخشري ، وهذا نصُّ كلامِه قال : " شَرَعَ ذلك ، يَعني جُملةَ ما ذَكَر من أمرِ الشاهدِ بصومِ الشهرِ وأمرِ المرخَّصِ له بمراعاةِ عِدَّةِ ما أَفْطَر فيه ومن الترخيص في إباحةِ الفطر ، فقولُه : " ولِتُكْمِلوا " علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة ، و " لِتُكَبِّروا " علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و " لعلَّكم تَشْكرون " علةُ الترخيصِ والتيسير ، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيفُ المَسْلَكِ ، لا يهتدي إلى تبينُّه إلا النُّقَّابُ من علماءِ البيانِ " . السادس : أن تكونَ الواوُ عاطفةً على علةٍ محذوفةٍ ، التقديرُ : لتعملوا ما تعلَمون ولِتُكْملوا ، قاله الزمخشري ، وعلى هذا فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسيرِ . واختصارُ هذه الأوجهِ أَنْ تكونَ هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ : إمّا قبلَها وإمَّا بَعدَها ، أو تكونَ علةً للفعلِ المذكور قبلَها وهو " يُريد " .
الثالث : أنَّها لامُ الأمرِ ، وتكونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ ، فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ ، وعلى ما قبلَه يكونُ من عَطْفِ المفردات كما تقدَّم تقريرُه ، وهذا قولُ ابنِ عطية ، وضَعَّفه الشيخُ بوجهَيْنِ ، أحدُهما : أنَّ أَمْرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِه لغةٌ قليلةٌ نحوُ : لِتَقُمْ يا زيد ، وقد قرئ شاذاً : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] بتاء الخطاب . والثاني : أن القُرَّاءَ أَجْمَعُوا على كسرِ هذه اللامِ ، ولو كانَتْ للأمرِ لجاز فيها الوجهان : الكسرُ والإِسكانُ كأخواتها .
وقرأ الجمهورُ " ولِتُكْمِلوا " مخففاً من أَكْمل ، والهمزةُ فيه للتعدية . وقرأ أبو بكر بتشديدِ الميم ، والتضعيفُ للتعديةِ أيضاً ؛ لأنَّ الهمزةَ والتضعيفَ يتعاقبان في التعديةِ غالباً ، والألفُ واللامُ في " العِدَّة " تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أحدُهما : أنها للعهدِ فيكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهذا هو الظاهرُ ، والثاني : أَنْ تكونَ للجنسِ ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه ، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين . واللامُ في " وَلِتُكَبِّروا " كهي في " ولِتُكْمِلوا " ، فالكلام فيها كالكلام فيها ، إلاَّ أنَّ القولَ الربعَ لا يتأتَّى هنا .
قوله : { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب " تُكَبِّروا " . وفي " على " قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من الاستعلاءِ ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبيرِ بها لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ . قال الزمخشري : " كأنَّه قيل : ولِتُكَبِّروا الله حامِدين على ما هَدَاكم " قال الشيخ : " وهذا منه تفسيرُ معنى لا إعراب ، إذ لو كان كذلك لكانَ تعلُّقُ " على " ب " حامدين " التي قَدَّرها لا ب " تُكَبِّروا " ، وتقديرُ الإِعراب في هذا هو : " ولِتَحْمَدُوا الله بالتكبيرِ على ما هداكم ، كما قدَّره الناسُ في قوله :
أي : صَرَفَه بالقتلِ عني ، وفي قولِه :
ويَرْكَبُ يومَ الرَّوْع مِنَّا فوارِسٌ *** بصيرونَ في طَعْن الكُلى والأباهِرِ
أي : متحكِّمون بالبصيرة في طَعْن الكُلى " . والثاني : أنها بمعنى لامِ العلَّةِ ، والأول أَولَى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ .
و " ما " في قوله : { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } فيها وجهان ، أظهرهُما : أنها مصدريةٌ ، أي : على هدايته إياكم . والثاني : أنَّها بمعنى الذي . قال الشيخ : " وفيهُ بَعُدٌ مِنْ وَجْهَيْن ، أحدُهما : حَذْفُ العائدِ تقديرُه : هداكُموه " وقَدَّره منصوباً لا مجروراً باللامِ ولا بإلى ، لأنَّ حَذْفَ المنصوبِ أسهلُ ، والثاني :حَذْفُ مضافٍ يَصِحُّ به معنى الكلامِ ، تقديرُه : على اتِّباع الذي هَداكُمْ أو ما أَشْبَهَه " .
وخُتِمَتْ هذه الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها تيسيراً وترخيصاً ، فناسَبَ خَتْمَها بذلك . وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى ، وهو قولُه : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] وقولُه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 178 ] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ ، فناسَب خَتْمَها بذلك ، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً ، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها ، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ .