تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون( 185 ) }

شهر رمضان مبتدأ ، خبره الذي أنزل في القرآن ، أو بدجل من الصيام في قوله تعالى : " كتب عليكم الصيام " .

ومعنى نزول القرآن في رمضان أن ابتداء نزوله كان في شهر رمضان ، تسمية للشيء باسم أوله .

وفي سورة القدر تحديد لليلة ابتدأ فيه نزول القرآن ، قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك من ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر } . ( سورة القدر ) .

والملاحظ أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة . قال تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه الناس على مكث ونزلناه تنزيلا . ( الإسراء : 106 ) .

وقال عز شأنه : { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه الفرقان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } . ( الفرقان : 32-33 ) .

روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أنه قال في قول الله عز وجل : { ورتلناه ترتيلا } . قال : كان ينزل آية وآيتين وآيات ، جوابا لهم عما يسألون وردا على النبي صلى الله عليه وسلم .

قال ابن قتيبة : " ولو أتاهم القرآن نجما واحدا لسبق حدوث الأسباب التي أنزل الله بها ، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين ، وعلى من أراد الدخول في الدين " .

وللعلماء في كيفية نزول القرآن آراء ثلاثة :

الرأي الأول : وهو رأي شعبي ، أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم .

فقول القرآن : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . من باب تسمية الشيء باسم أوله تيمنا به وتعظيما لشأنه ، ( ومبادئ الملل هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها ) .

الرأي الثاني : وهو رأي مقاتل بن سليمان ، أنه نزل إلى سماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة ، ينزل في كل ليلة قدر ما قدر إنزاله في تلك السنة ، ثم ينزل به جبريل منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الرأي الثالث : وهو رأي الجمهور ، أن القرآن نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ، ثم نزل بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة ، وأصحاب هذا الرأي يذهبون إلى أن القرآن تنزيلات ثلاثة :

أ- التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ قال تعالى : بل هو قرآن مجيد*في لوح محفوظ . ( البروج : 21-22 ) .

ب- التنزل الثاني من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ودليله قوله سبحانه : إنا أنزلناه في ليلة القدر .

ج- التنزل الثالث من سماء الدنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة ، ودليله قوله تعالى : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } .

التفسير :

{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . . }

بين الله أن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بالعبادة والصيام هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمان ، فحق أن يعبد الله تعالى فيه ما لا يعبده في غيره . تذكرا لإنعامه بهذه الهداية . وهي إنزال القرآن الذي هدانا الله تعالى به وجعل آياته بينات من الهدى أي من الكتب المنزلة ، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل ، فوصفه بأنه هدى في نفسه لجميع الناس ، وأنه من جنس الكتب الإلهية ، ولكنه الجنس العالي على جميع الأجناس فإنه آيات بينات من ذلك الهدى السماوي وكتب الله كلها هدى ولكنها ليست في بيانها كالقرآن .

{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . . . }

أي من حضر منكم الشهر غير مسافر . أو من رأى منكم هلال الشهر ، والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى يجب عليه الصيام كمن شاهده ، ثم بين الله الرخصة للمريض والمسافر فقال سبحانه :

ومن كان مريضا أو عل سفر فعدة من أيام أخر :

أي إذا كان الصوم يجهد المريض أو المسافر فله أن يفطر وعليه عدة ما أفطر من أيام أخر يصومها بدلا من الأيام التي أفطرها في رمضان .

وقد اختلف العلماء في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال :

الأول : وهو قول أهل الظاهر : أي مرض كان وهو ما يطلق عليه اسم مرض .

الثاني : أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة عظيمة تنزيلا للفظ المطلق على أكمل أحواله .

الثالث : وهو قول أكثر الفقهاء أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى الضرر في النفس أو زيادة علة غير محتملة كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتدت حماه . فالمراد بالمرض ما يؤثر في تقويته ، قال الشافعي : إذا أجهده الصوم أفطر وإلا فهو صحيح .

واختلف العلماء أيضا في مقدار السفر المبيح للفطر في رمضان فقال داود الظاهري : أي سفر ولو كان فرسخا . وقال الأوزاعي : السفر المبيح للفطر مسيرة يوم واحد . وقال الشافعي وأحمد مالك : أقله مسيرة يومين أو ستة عشر فرسخا . وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقله مسيرة ثلاثة أيام( 69 ) .

{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .

اليسر في اللغة السهولة ، ومنه التيسير ، قال صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السهلة السمحة .

ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولا ضمنا بقوله : { يريد الله بكم اليسر } . ثم نفاه صريحا بقوله : { ولا يريد بكم العسر } . ويقول سبحانه في آيات أخرى . { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم*والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما*يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } . ( النساء : 26-28 ) .

أي أن الله سبحانه يريد التيسير والرأفة وتسهيل طرق الهداية والعبادة حتى يأخذ بيد الإنسان إلى طريق الفلاح والرشاد .

وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا . . . " .

وهذه قاعدة أساسية في تكاليف الإسلام كلها ، فهي يسر لا عسر ، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها ، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة ، كأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجر الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء . مع الشعور الدائم برحمة الله وفضله وبره ، وعظيم نعمائه على عباده .

وقد جعل الله الصوم للمسافر والمريض في أيام أخرى لكي يتمكن اضطر من إكمال عدة أيام الشهر فلا يضيع عليه أجرها .

{ ولتكملوا العدة }

أي عدة صوم رمضان فيتدارك المسلم ، ما فاته من صيام بالقضاء .

أو المراد يجب إتمام صيام الشهر لمن كان مقيما صحيحا ، وإتمام عدة القضاء لمن أفطر .

{ ولتكبروا الله على ما هداكم }

أي تذكروه وتكبروه شاكرين له هدايتكم وتوفيقكم لصيام رمضان .

قال الشافعي : سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن : يقول : ولتكملوا العدة . أي عدة صوم رمضان : ولتكبروا الله . عند إكمالها ، وإكمالها بغروب شمس آخر يوم رمضان .

وصيغة التكبير هي : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد .

قال الشافعي وما زاد من ذكر الله فحسن ، خصوصا الذكر المأثور مثل : الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، ولا شيء قبله ولا شيء بعده .

{ ولعلكم تشكرون }

أي أن يستشعر الصائم فضل الله عليه ونعمه وتوفيقه فيفئ قلبه إلى الله راغبا حامدا معترفا له بالربوبية شاكرا له نعمة التوفيق والهداية ، وبذلك تظهر منة الله في هذا التكليف الذي يبدوا شاقا على الأبدان والنفوس وتتجلى الغاية التربوية منه وهي إعداد المؤمن ليكون عبدا ربانيا مطيعا لله مراقبا له معترفا بفضله وجميل نعائمه .

* * *