قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : فيه قراءتان :
أحدها : أنه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ قولان :
الأول : أنه قوله { الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملة مُنَبِّهَةً على فضله ومنزلته ، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه .
قال أبو عليٍّ : والأشبه أن يكون " الَّذِي " وصفاً ؛ ليكون لفظ القرآن نصّاً في الأمر بصوم شهر رمضان ؛ لأنَّك إن جعلته خبراً ، لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ ، وإنما يكون مخبراً عنه بإنزال القرآن الكريم فيه ، وإذا جعلنا " الَّذِي " وصفاً ، كان حقُّ النظم أن يكني عن الشَّهر لا أن يظهر ؛ كقولك : " شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ " .
والقول الثاني : أنه قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش ، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله :
{ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] وليس كذلك ؛ لأن قوله : { الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ } يُتَوَهَّمُ فيه عمومٌ ؛ بخلاف شهر رمضان ، فإن قيل : أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ ؟ قيل : تكرار المبتدأ بلفظه ؛ كقوله : [ الخفيف ]
938 - لاَ أَرَى الموْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شيْء *** . . . {[2593]}
وهذا الإعراب - أعني كون " شَهْرُ رَمَضَانَ " مبتدأً - على قولنا : إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان ، أمَّا إذا قلنا : إنها نفس رمضان ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ .
فقدَّره الفرَّاء{[2594]} : ذَلِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، وقدَّره الأخفش{[2595]} : المكتوب شهر رمضان .
والثاني : أن يكون بدلاً من قوله " الصِّيَامُ " ، أي : كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رمَضَانَ ، وهذا الوجه ، وإن كان ذهب إليه الكسائيُّ بعيدٌ جدّاً ؛ لوجهين :
أحدهما : كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه .
والثاني : أنَّه لا يكون إذ ذاك إلاَّ من بدل الإشمال ، وهو عكس بدل الاشتمال ، لأنَّ بدل الاشتمال غالباً بالمصادر ؛ كقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقول الأعشى : [ الطويل ]
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ *** تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأمُ سَائِمُ{[2596]}
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصْدَرِ ، ويمكن أن يُوَجَّهَ قوله بأنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ ، تقديره : صيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ وحينئذٍ : يكون من باب بَدَلِ الشَّيء من الشَّيْءِ ، وهما لعينٍ واحدة ، ويجوزُ أن يكون الرَّفع على البدلِ من قوله " أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ " في قراءة من رَفَعَ " أيَّاماً " ، وهي قراءة عبد الله ، وفيه بُعْدٌ .
والقراءة الثانية : النصْبُ ، وفيه أوجهٌ :
أجودها : النصبُ بإضمار فعلٍ ، أي : صُوموا شَهْر رَمَضَانَ .
الثاني -وذكره الأخفشُ{[2597]} والرُّمَّانِيُّ- : أن يكون بدلاً من قوله " أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ " ، وهذا يُقَوِّي كون الأيام المعدُودَاتِ هي رمضان ، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ .
الثالث : نَصْبُه على الإغراء ؛ ذكره أبو عُبَيْدة والحُوفِيُّ .
الرابع : أن ينتصبَ بقوله : " وأنْ تَصُومُوا " ؛ حكاه ابن عطية{[2598]} ، وجوَّزه الزمخشريُّ{[2599]} ، واعترض عليه ؛ بأن قال : فَعَلى هذا التقدير يصير النَّظم : " وَأَنْ تَصُومُوا رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ " .
فهذا يقتضي وقوعَ الفَصْل بين المبتدأ والخَبَر بهذا الكَلامَ الكثير ، وهو غَيْرُ جائزٍ ؛ لأنَّ المبتدأ والخَبَر جاريان مَجْرَى شيءٍ واحدٍ ، وإيقاع الفصْلِ بين الشَّيءِ الواحد غيرُ جائزٍ . وغلَّطَهُما أبو حيان : بأنَّه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصول وصلته بأجنبيٍّ ، لأنَّ الخبر ، وهو " خَيْرٌ " أَجْنَبِيٌّ من الموصول ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول ، إلاَّ بعد تمام صلتِهِ ، و " شَهْر رَمَضَانَ " على رأيهم من تمام صلة " أَنْ " ، فامتنع ما قالوه ، وليس لقائل أن يقول : يتخرَّجُ ذلك على الخلاف في الظَّرف ، وحرف الجَرِّ ، فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم ؛ لأنَّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ " .
الخامس : أنه منصوبٌ ب " تَعْلَمُونَ " ؛ على حذف مضافٍ ، تقديره : تعلمونَ شرفَ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ في الإعراب .
وأدغم أبو عمرو{[2600]} رَاءَ " شَهْر " في راء " رَمَضَان " ، ولا يُلْتَفَتُ إلى من استضعفها ؛ من حيث إنَّه جمع بين ساكنين على غير حدَّيهما ، وقول ابن عطيَّة : " وذلك لا تقتضيه الأصول " غير مقبولٍ منه ؛ فإنَّه إذا صَحَّ النقل ، لا يُعارضُ بالقِياس .
والشهر لأهْلِ اللُّغة فيه قولان :
أشهرهما : أنه اسمٌ لمُدَّة الزمان التي يكون مَبْدَأَها الهلالُ خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ ؛ سُمِّيَ بذلك لشُهْرَتِهِ في حاجة الناس إليه من المعاملات ، والصوم ، والحجِّ ، وقضاء الدُّيُون ، وغيرها .
والشَّهر مأخذوذٌ من الشُّهْرَة ، يُقَالُ : شَهَر الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ شَهْراً : إذا أظهره ، ويسمَّى الشَّهْرُ : شَهْراً ، لشُهْرَة أمره ، والشُّهْرَة : ظهورُ الشيءِ ، وسمي الهلال شهراً ؛ لشُهْرته .
والثاني - قاله الزَّجَّاج - : أنه اسمٌ للهلال نفسه ؛ قال : [ الكامل ]
940 - . . . *** وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ{[2601]}
سُمِّي بذلك ؛ لبيانه ؛ قال ذو الرُّمَّةِ : [ الطويل ]
941 - . . . *** يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهْوَ نَحِيلُ{[2602]}
يقولون : رأيتُ الشهْرَ ، أي هِلاَلَهُ ، ثم أُطلِقَ على الزمان ؛ لطلوعه فيه ، ويقال : أشْهَرْنَا ، أي : أتى علينا شَهْرٌ ، قال الفَرَّاءُ : " لَمْ أَسْمَعْ فَعْلاً إلاَّ هذا " .
قال الثَّعلبي : " يُقَالُ : شَهَرَ الهِلاَلُ ، إذَا طَلَعَ " ، ويُجْمَعُ في القلَّة على أشهرٍ ، وفي الكثرة على شُهُورٍ ، وهما مقيسان .
ورَمَضَانُ : عَلَمٌ لهذا الشَّهر المخْصُوص ، وهو علم جنسٍ ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ :
أحدها : أنَّه وافق مجيئه في الرَّمضاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّيَ هذا الشَّهْرَ بهذا الاسم : إما لارتماضهم فيه من حَرِّ الجوع ، أو مقاساة شدَّته ؛ كما سمَّوه تابعاً ؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصَّوم ، أي : يزعجهم لشدَّته عليهم ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " صَلاَةُ الأَوَّابِينَ ، إذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ " أخرجه مسلم{[2603]} ، ورَمَضَ الفِصَالُ ، إذا حرَّق الرَّمْضَاء أحقافها ، فتبْرُكُ من شدَّة الحَرِّ .
يقال : إنَّهم لما نقلوا أسماء الشُّهُور عن اللُّغَةِ القديمةِ ، سمَّوها بالأزمنة الَّتي وقعت فيها ، فوافق هذا الشَّهْرُ أيَّام رَمَضِ الحَرِّ ، [ فسُمِّيَ به ؛ كَرَبِيع ؛ لموافقته الربيعَ ، وجُمَادى ؛ لموافقته جُمُودَ الماء ، وقيل : لأنه يُرْمِضُ الذنوب ، أي : يَحْرِقُها ، بمعنى يَمْحُوها ] .
روي عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " إنَّما سُمِّيَ رَمَضَانَ ، لأنَّهُ يُرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ " .
وقيل : لأنَّ القلوبَ تَحْتَرِقُ فيه من الموعظة ، وقيل : من رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمُضُهُ رمضان إذا دققته بين حجرين ، ليرقَّ يقال : نَصْلٌ رَمِيضٌ ومَرْمُوضٌ .
وسُمِّيَ هذا الشَّهْرُ رَمَضَانَ ؛ لأنهم كانوا يَرْمُضُون فيه أسلحتَهُمْ ؛ ليقضوا منها أوطارهم ؛ قاله الأزهريُّ{[2604]} .
قال الجوهريُّ : وَرَمَضَانُ : يُجمع على " رَمَضَانَات " و " أَرْمِضَاء " وكان اسمه في الجاهلية نَاتِقاً ، أنشد المُفَضَّل : [ الطويل ]
942أ - وَفي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الوَغَى *** وَوَلَّتْ عَلَى الأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا{[2605]}
وقال الزمخشري{[2606]} : " الرَّمَضَانُ مَصْدَرُ رَمِضَ ، إذَا احترَقَ من الرَّمْضَاءِ " قال أبو حيَّان : " وَيَحْتَاجُ في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ ، فإن فَعَلاَناً ليس مصدر فَعِلَ اللازم ، بل إن جاء منه شَيْءٌ كان شاذاً " ، وقيل : هو مشتقٌّ من الرَّمِض - بكسر الميم - وهو مَطَرٌ يأتي قبل الخريف يُطَهِّر الأرض من الغُبَار ، فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذُّنُوب ويغسلها .
وقال مجاهدٌ : إنه اسم الله تعالى{[2607]} ، ومعنى قول لقائل : " شَهْرُ رَمَضَانَ " ، أي : شَهْرُ اللَّهِ ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " لا تَقُولُوا : جَاءَ رَمَضَانُ ، وذَهَبَ رَمَضَانُ ، ولَكِنْ قُولُوا : جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ ؛ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى{[2608]} " .
قال القُرْطُبِيُّ{[2609]} : " قال أهْلُ التَّاريخِ : إنَّ أوَّلَ مَنْ صَامَ رمَضَانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلام - لمَّا خَرَجَ من السَّفينة " ، وقد تقدَّم قوم مجاهدٍ : " كَتَبَ اللَّه رمَضَانَ عَلَى كُلِّ أمَّة " ومعلومٌ أنَّه كان قبل نوحٍ - عليه السَّلام - أُمَمٌ ؛ فالله أعلم{[2610]} .
والقرآن في الأًصل مصدر " قَرَأْتُ " ، ثم صار علماً لما بين الدَّفَّتَيْنِ ؛ ويُدلُّ على كونه مصدراً في الأصل قول حسَّانٍ في عثمان - رضي الله عنهما - : [ البسيط ]
942ب - ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ *** يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا{[2611]}
وقيل : القرآن من المصادر ، مثل : الرُّجْحَان ، والنُّقْصَان ، والخُسْرَان ، والغُفْرَان ، وهو من قرأ بالهمزة ، أي : جمع ؛ لأنه يجمع السُّور ، والآيات ، والحكم ، والمواعظ ، والجمهورُ على همزه ، وقرأ{[2612]} ابن كثيرٍ من غير همزٍ ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين :
أظهرهما : أنه من باب النَّقل ؛ كما يَنْقُل وَرْشٌ حركة الهمزة إلى السَّاكن قبلها ، ثم يحذفها في نحو : { قَدْ أَفْلَحَ } [ المؤمنون : 1 ] ، وهو وإن لم يكن أصله النَّقْلَ ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرة الدَّوْرِ ، وجمعاً بين اللُّغَتَيْنِ .
والثاني : أنه مشتقٌّ عنده من قَرَنْتُ بين الشيئين ، فيكون وزنه على هذا " فُعَالاً " وعلى الأول " فُعْلاَناً " وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السُّوَر ، والآياتِ ، والحِكَمِ ، والمواعِظِ .
وقال الفَرَّاء : أَظُنَّ أنَّ القرآن سُمِّي من القرائن ، وذلك أنَّ الآيات يُصَدِّقُ بعضها بعضاً على ما قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وأما قول من قال : إنَّه مشتقُّ من قَرَيْتُ الماء في الحوض ، أي : جمعته ، فغلطٌ ؛ لأنَّهما مادَّتان متغايرتان .
وروى الواحديُّ في " البسيط " {[2613]} عن محمَّد بن عبد الله بن الحكم ، أنَّ الشافعيَّ - رضي الله عنه - كان يقول القُرْآنُ اسْمٌ ، ولَيْسَ بمهموزٍ ، ولم يُؤْخَذ من " قَرَأْتُ " ، وإنما هو اسمٌ لكتاب الله ؛ مثل التوراة والإنجيل ، قال : ويهمز قراءة ، ولا يهمز القرآن ، كما يقول : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ } [ الإسرء : 45 ] قال الواحديُّ{[2614]} - رحمه الله - : وقول الشافعيِّ - رضى الله عنه - أَّنه اسمٌ لكتاب الله تعالى ، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقٍّ ، والذي قال بأنَّه مشتقٌّ من القرء ، وهو الجمع ، أي : جمعته ، هو الزَّجَّاج وأبو عُبَيْدة{[2615]} ، قالا : إنَّه مأخوذٌ من القُرْء وهو الجمع .
943أ - . . . *** هِجَانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا
أي : لم تجمع في رحمها ولداً ، ومن هذا الأصل : قُرْءُ المرأة ، وهو أيَّام اجتماع الدَّم في رحمها ، فسُمِّي القرآن قُرْآناً ، لأنه يجمع السُّور وينظمها .
وقال قُطْرُب{[2616]} : سُمِّيَ قرآناً ؛ لأنَّ القارئ يكتبه ، وعند القراءة كأنَّه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب : ما قرأت النَّاقة سلى قطُّ ، أي : ما رَمَتْ بِوَلَدٍ ، وما أسْقَطَتْ ولداً قَطُّ ، وما طَرَحَتْ ، وسُمَّيَ الحَيْضُ قراءاً بهذا التَّأويل ، فالقرآن [ يلفظه القارئ ] من فيه ، ويلقيه ، فسُمِّيَ قُرْآناً .
و " القُرآنُ " مفعول لم يُسَمَّ فاعله ؛ ثم إنَّ المقروء يُسَمَّى قرآناً ؛ لأن المفعول يسمَّى بالمصدر ؛ كما قالوا للمَشْرُوبِ شَرَابٌ ، وللمكْتُوب كِتَابٌ . واشتهر هذا الاسمُ في العُرْف ؛ حتَّى جعلوه اسماً لكتاب الله تعالى على ما قاله الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه .
ومعنى { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ، أي : ظَرْفٌ لإنزاله .
قيل : " نَزَلَتْ صُحُف إبراهيم في أوَّل يومٍ من رمَضَانَ ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين " {[2617]} .
فإن قيل : إنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى محمَّد صلى الله عليه وسلم في مُدَّة ثلاثٍ وعشرين سَنَةً مُنَجَّماً مُبَعَّضاً ، فما معنى تخصيص إنزاله برَمَضَان ؟
الأول : أنَّ القرآن أُنزل في ليلة القدر جملةً إلى سماء الدنيا ، ثُمَّ نَزَل إلى الأرض نُجُوماً .
روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ{[2618]} أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }
[ القدر : 1 ] ، وقوله { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وقد نزل في سائر الشُّهُور ، وقال عزَّ وجلَّ : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] فقال : أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا ، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة{[2619]} ، فذلك قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] وقال داود بن أبي هندٍ : قلت للشَّعبيِّ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أما كان ينزل في سائر السنَّة ؟ قال : بلى ، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وينسيه ما يشاء{[2620]} .
وروي عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ{[2621]} " ويُروى : " في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ " وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلاَثَ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد صلى الله عليه وسلم لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا{[2622]} ، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة " الفُرْقَان " عند قوله : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] .
والجواب الثاني : أن المراد منه : أنَّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شَهْر رمَضَانَ ، وهو قول محمَّد بن إسحاق{[2623]} ؛ وذلك لأنَّ مبادئ الملل والدُّول هي الَّتي يؤرَّخ بها ؛ لكونها أشرف الأوقات ، ولأنَّها أيضاً أوقاتٌ مضبوطةٌ .
واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة ، وفي الثاني : لا بُدَ من حمله على المجاز ؛ لأنَّه حمل للقرآن على بعض أجزائه .
روي أن [ عبد الله بن ] عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - استدلَّ بهذه الآية الكريمة ، وبقوله { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] على أن ليلة القدر لا تكون إلاَّ في رمضان ، وذلك لأنَّ ليلة القدر ، إذا كانت في رمضان ، كان إنزاله في ليلة القدر إنزالاً في رمضان ، وهذا كمن يقول : " لَقِيتُ فُلاناً في هَذَا الشَّهْرِ " ، فيقال له : في أيِّ يوم منه ؟ فيقول : في يوم كذا ، فيكون ذلك تفسيراً لكلامه الأول وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ : " أُنْزلَ فِيهِ القُرآنُ " ، معناه : أُنْزِلَ ، في فضله{[2624]} القرآن ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ؛ قال : وهذا كما يقال : " أُنْزِلَ في الصِّدِّيق كَذَا آيةً " يُرِيدُونَ في فضله{[2625]} .
قال ابن الأنباريِّ : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم ؛ كما يُقَالُ أنزل الله في الزَّكَاة آية كَذَا ؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر ، يريدون في تحريمها .
قد تقدَّم في قوله تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا }
[ البقرة : 23 ] أنَّ التنزيل مختصٌّ بالنُّزُول على سبيل التَّدريج ، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } [ آل عمران : 3 ] إذا ثبت هذا ، فنقول : لَمَّا كان المراد ها هنا من قوله " شَهْرُ رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ " إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا - لا جرم ذكره بلفظ " الإنزال " دون " التَّنزيل " ، وهذا يدلُّ على أن هذا القول راجحٌ على سائر الأقوال .
قوله " هُدًى " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن ، والعامل فيه " أُنزِلَ " وهُدىً مصدرٌ ، فإمَّا أن يكون على حذف مضافٍ ، أي : ذا هدًى ، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ ، أي : هادِياً ، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً .
قوله : " لِلنَّاسِ " يحوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب " هُدىً " على قولنا بأنه وقع موقع " هَادٍ " ، أي : هادياً للناس .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله ، ويكون محلُّه النَّصب على الصفة ، ولا يجوز أن يكون " هُدَى " خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : " هُوَ هُدًى " ؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ ، وهو : " بَيَّنَاتٍ " ؛ و " بَيِّنَاتٍ " عطفٌ على الحال ، فهي حالٌ أيضاً وكلا الحالين لازمةٌ ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدًى وبيناتٍ ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ ، لأنَّ الهدى يكون بالأشياء الخفيَّة والجليَّة ، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة .
فإن قيل : ما معنى قوله { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } بعد قوله : " هُدًى " .
الأول : أنه تبارك وتعالى ذكر أولاَّ أنه هُدًى ، ثمَّ الهُدَى على قسمين :
تارةً : يكون هدىً للنَّاس بيِّناً جَليَّاً .
والقسم الأول : لا شكَّ أنَّه أفضل ؛ فكأنه قيل : هو هدًى ؛ لأنه هو البيِّن من الهدى ، والفارق بين الحقِّ والباطل ، فهذا مِنْ باب ما يُذكَر الجنْسُ ، ويعطف نوعه عليه ؛ لكونه أشرف أنواعه ، والتقدير : كأنه قيل : هذا هُدىً ، وهذا بَيِّنٌ من الهدى ، وهذا بيِّناتٌ من الهُدَى ، وهذا غاية المبالغة .
الثاني : أن يقال : القرآن هدىً في نفسه ، ومع كونه كذلك ، فهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان ، والمراد : ب " الهُدَى والفُرْقَانِ " التوراة والإنجيل ؛ قال تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } [ آل عمران 3 - 4 ] وقال { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] فبيَّن تعالى أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه ، ففيه أيضاً هدًى من الكتب المتقدِّمة التي هي هدًى وفرقانٌ .
الثالث : أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين ، والهُدَى الثاني على فروع الدِّين ؛ حتَّى يزول التَّكْرَار .
قوله : { مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان } هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ لقوله : " هُدًى وبَيِّناتٍ " فمحلُّه النصبُ ، ويتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : إنَّ كون القرآن هُدىً وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان ، ولم يأت " مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ " فيطابق العجزُ الصَّدْرَ ؛ لأنّ فيه مزيد معنًى لازم للبيان ، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل ، ومتى كان الشيءُ جَلِيّاً واضحاً ، حصل به الفرقُ ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله ؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان ، وقال بعضهم : " المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها " . وقال ابن عطية : " اللامُ في الهُدَى للعهد ، والمرادُ الأوَّلُ ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ ، ثم أُعيد لفظها معرَّفاً ب " أَلْ " ، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول ؛ نحو قوله : { إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 15 - 16 ] ، ومن هنا قال ابن عبَّاس : " لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ " وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى ؛ ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه ، لكان كلاماً صحيحاً " ؟
قال أبو حيان : " وما قاله ابن عطية لا يتأتَّى هنا ؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن " هُدىً " منصوبٌ على الحال ، والحال وصفٌ في ذي الحال ، وعطف عليه " وبيّنات " ، فلا يخلو قوله " مِنَ الهُدَى " - المراد به الهدى الأول - من أن يكون صفةً لقوله " هُدَى " أو لقوله " وَبَيِّنَاتِ " أو لهما ، أو متعلِّقاً بلفظ " بَيِّنَاتٍ " ، لا جائزٌ أن يكون صفةً ل " هُدًى " ؛ لأنه من حيث هو وصفٌ ، لزم أن يكون بعضاً ، ومن حيث هو الأول ، لزم أن يكون إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كُلاًّ بالنسبة لماهيَّته ، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط ؛ لأنَّ " وَبَيِّنَاتٍ " معطوفٌ على " هُدىً " و " هُدىً " حال ، والمعطوف على الحال حالٌ ، والحالان وصفٌ في ذي الحال ، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال ؛ إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت " بَيِّنَات " بقوله : " مِنَ الهُدَى " خصصناها به ، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله : " هُدًى وبَيِّنَاتٍ " معاً ، ومن حيث جعلت " مِنَ الهُدَى " صفةً ل " بَيِّنَاتٍ " ، وتوقَّف تخصيص " بَيِّنَاتٍ " على هُدَى ، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محالٌ ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما ؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط ، أو بينات فقط .
ولا جائزٌ أن يتعلَّق بلفظ " بَيِّنَاتٍ " ؛ لأنَّ المتعلِّق قيدٌ في المتعلَّق به ؛ فهو كالوصفِ ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف ، وأيضاً : فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً ، فقلت : منه - أي : من ذلك الهُدَى - لم يصحَّ ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامَّين ، حتى يكون هُدى وبينات بعضاً منهما " .
قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } إلى قوله : { تَشْكُرُونَ } نقل الواحدِيُّ في " البسيط " عن الأخفش والمازنيِّ أنما قالا : الفاء في قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ } زائدةٌ ؛ قالا : وذلك لأنَّ الفاء قد تدخل للعطف ، أو للجزاء ، أو تكون زائدةً ، وليس لكونها للعطف ، ولا للجزاء هاهنا وجهٌ ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] .
قال : وأقول : يمكن أن تكون " الفاء " هاهنا للجزاء ؛ فإنه تعالى لما بيَّن رمضان مختصًّا بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشُّهور فيها ، فبيَّن أنَّ اختصاصه بتلك الفضيلة يُنَاسِب اختصاصه بهذه العبادة ، ولولا ذلك ، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه ، كأنه قيل : لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة ، فأنتم أيضاً خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة ، وأما قوله تعالى :
{ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] الفاء فيه غير زائدة أيضاً ، بل هذا من باب مقابلة الضِّدِّ بالضدِّ ؛ كأنه قيل : لمَّا فرُّوا من الموت ، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم ؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر . و " مَنْ " فيها الوجهان : أعني كونها موصولةً ، أو شرطيةً ، وهو الأظهر ، و " مِنْكُم " في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في " شَهِدَ " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائِناً منكم ، وقال أبو البقاء{[2626]} : " مِنْكُم " حالٌ من الفاعل ، وهي متعلقةٌ ب " شَهِدَ " ، قال أبو حيان : " فَنَاقَضَ ؛ لأنَّ جَعْلَها حالاً يوجب أن يكون عاملها محذوفاً ، وجعلها متعلِّقة ب " شَهِدَ " يوجب ألاَّ تكون حالاً " ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيَّان عليه بأنَّ مراده التعلُّق المعنويُّ ، فإنَّ " كائناً " الذي هو عامل في قوله " مِنْكُم " هو متعلِّقٌ ب " شَهِدَ " وهو الحالُ حقيقةً .
وفي نَصْبِ " الشَّهْرِ " قولان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف ، والمراد بشَهِدَ : حَضَر ، ويكون مفعولُ " شَهِدَ " محذوفاً ، تقديره : فمن شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلد في الشَّهْرِ .
والثاني : أنه منصوب على المفعول به ، وهو على حذف مضافٍ ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف : فالصحيح أنَّ تقديره : " دُخُولَ الشَّهْرِ " ، وقال بعضهم : " هِلاَلَ الشَّهْرِ " قال شهاب الدين : وهذا ضعيفٌ ؛ لوجهين :
أحدهما : أنك لا تقول : شَهِدْتُ الهِلاَلَ ، إنما تقول : شاهَدْتُ الهِلاَلَ .
ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد من الشُّهود : الحضُور .
والثاني : أنه كان يلزم الصوم كل من شَهِدَ الهِلاَلَ ، وليس كذلك ، قال : ويجاب بأن يقال : نعم ، الآية تدلُّ على وجوب الصوم على عموم المكلَّفين ، فإن خرج بعضهم بدليل ، فيبقى الباقي على العموم .
قال الزمخشريُّ : " الشَّهْرَ " منصوبٌ على الظرف ، وكذلك الهاء في " فَلْيَصُمْهُ " ولا يكون مفعولاً به ؛ كقولك : شَهِدْتُ الجُمُعَةَ ؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهْرِ " وفي قوله : " الهاء منصوبةٌ على الظرف " نظرٌ لا يخفى ؛ لأن الفعل لا يتعدَّى لضمير الظرف إلاَّ ب " فِي " ، اللهم إلاَّ أن يتوسَّع فيه ، فينصب نصب المفعول به ، وهو قد نصَّ على أنَّ نصب الهاء أيضاً على الظرف .
والفاء في قوله : " فَلْيَصَمْهُ " : إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب ما تقدَّم في " مَنْ " .
واللام لام الأمر ، وقرأ الجمهور{[2627]} بسكونها ، وإن كان أصلها الكسر ، وإنما سكَّنوها ؛ تشبيهاً لها مع الواو والفاء ب " كَتِف " ؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتصل . وقرأ السُّلَمِيُّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل ، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن . وفتح هذه اللام لغة سليمٍ فيما حكاه الفراء ، وقيَّد بعضهم هذا عن الفراء ، فقال : " مِنَ العَرَبِ مَنْ يَفتحُ اللام ؛ لفتحةِ الياء بعدها " ، قال : " فلا يكونُ على هذا الفتحُ إن انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ : نحو : لِيُنْذِرْ ، ولِتُكْرِمُ أنتَ خالداً " .
والألف واللام في قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ } للعهد ، إذ لو أتى بدله بضميرٍ ، فقال : " فَمَنْ شَهِدَه منْكُمْ " لصَحَّ إلا أنَّه أبرزه ظاهراً ؛ تنويهاً به .
فصل بي بناء القولين على مخالفة الظاهر
قال ابن الخطيب{[2628]} واعلم أن كلا القولين أعني : كون مفعول " شَهِدَ " محذوفاً أو هو الشَّهر لا يتم إلاَّ بمخالفة الظاهر .
أما الأوَّل : فإنَّما يتم بإضمار زائدٍ ، وأمَّا الثاني : فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنَّ شهود الشَّهْر حاصلٌ في حقِّ الصبيِّ والمجنون والمسافر ، مع أنَّ لم يجب على واحدٍ منهم الصَّوم إلاَّ أنا بيَّنا في " أُصُول الفِقْه " أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار ، فالتخصيص أولى ، وأيضاً ، فلأنَّا على القول الأول ، لما التزمنا الإضمار لا بُدَّ أيضاً من التزام التَّخْصيص ؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون والمريض كلُّ واحدٍ منهم شهد الشَّهْرَ مع أنه لا يجبُ عليهم الصَّوم .
فالقول الأول : لا يتمشى إلاَّ مع التزام الإضمار والتَّخصيص .
والقول الثاني : يتمشى بمجرَّد التخصيص ؛ فكان القول الثاني أولى ، هذا ما عندي فيه ، مع أن أكثر المُحَقِّقين كالواحديّ وصاحب الكشَّاف ذهبوا إلى الأوَّل .
قال ابن الخطيب{[2629]} قوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } جملة مركَّبةٌ من شرطٍ وجزاءٍ ، فالشَّرط هو { مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ } ، والجزاء هو الأمر بالصَّوم وما لم يوجد الشرط بتمامه ، لم يترتَّب عليه الجزاء ، والشهر اسمٌ للزمان المخصوص من أوَّله إلى آخره ، وشهودُ الشَّهر إنما يحصُلُ عند الجزء الأخير من الشَّهر ، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنَّ عند شهود الجزء الأخير من الشَّهر يجب عليه صوم كل الشهر ، وهذا محالٌ ، لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزَّمان المنقضي ؛ وهو ممتنعٌ ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، وأنه لا بُدَّ من صرفها إلى التأويل ، وطريقه : أن يحمل لفظُ الشهر على جزء من أجزاء الشهر ؛ فيصير تقديره : من شَهِدَ جزءاً من أجزاء الشَّهر ، فليصم كلَّ الشهر ، فعلى هذا : من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان ، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر ، وعلى هذا التقدير ، يستقيم معنى الآية ، وليس فيه إلاَّ حَمْلُ لفظ الكل على الجزء ، وهو مجازٌ مشهور .
ولقائلٍ أن يقول : إنَّ الزجَّاج قال : إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه ؛ كما تقدَّم عنه ، وإذا كان كذلك ، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره .
قال القرطبيُّ{[2630]} : وأعيد ذكر الشَّهر ؛ تعظيماً له ؛ كقوله { الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ } [ الحاقة : 1 - 2 ] ؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلا قول الشاعر : [ الكامل ]
943ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ *** وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ *** في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر{[2631]}
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّ من دخل عليه الشهر ، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم ، ولا يجوز له الفطر ؛ لأنه شهد الشهر{[2632]} .
وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم ، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان ، جاز له الفطر ، ويقولون : قوله { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر ، إلاَّ أن قوله بعد ذلك : { فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً ، أوْ عَلَى سَفَرٍ ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ } خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ .
ذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - إلى أنَّ المجنون ، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى .
قال : لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان ، لزمه صوم رمضان ؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً ؛ فيجب قضاؤه .
شهود الشَّهر : إما بالرُّؤية أو بالسَّماع .
أما الرؤية : فنقول : إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده ، فإما أن يرد الإمام شهادته أو لا ؛ فإن ردَّت شهادته ، وجب عليه الصَّوم ؛ لأنَّه شهد الشَّهر ، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية ، فلا شك في وجوب الصَّوم .
وأما السماع : فنقول : إذا شهد عدلان على رؤية الهلال ، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً ، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال ، لا يحكم به ، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به ؛ احتياطاً لأمر الصَّوم ، والفرق بينه وبين هلال شوَّال : أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة ، وهلال شوَّالٍ للخروج من العبادة ، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل ، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان .
قال ابن الخطيب{[2633]} وعندي : أنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان ؛ لكي يصوموا ، ولا يفطروا ؛ احتياطاً ؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوَّال ؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطاً .
الصَّوم : هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة .
فقولنا : " إمساك " هو الاحتراز عن شيئين :
أحدهما : لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه ، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه ، لا يبطل صومه ؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ ، وقد قال الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
والثاني : لو صُبَّ الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً ، أو حال النوم - لا يبطل صومه ، والإكراه لا ينافي الإمساك .
وقولنا " عَنِ المُفطرَاتِ " وهي ثلاثة : دخول داخلٍ ، أو خروج خارجٍ ، والجماعُ .
وحدُّ الدخول : كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن ؛ إما إلى الدماغُ ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة ، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط ، وأما البطن ، فيحصل الفطر بالحقنة ؛ وأما الخروج ، فالقيء [ بالاختيار ] ، والاستمناء [ يُبْطلانَ الصوم ] ، وأما الجماع فمبطلٌ للصَّوم بالإجماع .
وقولنا " مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً " فلو أكل أو شرب ناسياً ، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة ، والشَّافعيِّ ، وأحمد ، وعند مالك يبطُلُ .
وقولنا : " مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ " ؛ لقوله تعالى : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [ البقرة : 187 ] وكلمة " حَتَّى " ؛ لانتهاء الغاية .
وكان الأعمش يقول : أول وقته إذا طلعت الشمس ، وكان يبيحُ الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس{[2634]} ؛ ويحتج بأنَّ انتهاء الصَّوم [ من وقت ] غروب الشمس ، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون بطلوعها ، وهذا باطلٌ بالنصِّ الذي ذكرناه{[2635]} .
وحكي أن أبا حنيفة دخل على الأعمش يعوده ، فقال له الأعمش : إنَّك لثقيلٌ على قلبي ، وأنت في بيتك ، فكيف إذا زرتني ، فسكت عنه أبو حنيفة ، فلمَّا خرج من عنده ، قيل له : لم سكتَّ عنه ؟ قال : فماذا أقول في رجلٍ ما صام ولا صَلَّى عمره ، وذلك لأنه كان يأكل بعد الفجر الثَّاني قبل طلوع الشمس ، فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإنزال ، فلا صلاة له .
وقولنا : " إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ " ؛ لقوله عليه السلام : " إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَا هُنَا وَأَدَبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ{[2636]} " ومن الناس من يقول : وقت الإفطار عند غروب ضوء الشَّمس ، قَاسَ الطَّرَف الثاني على الطَّرف الأوَّل من النهار ؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشَّمس ، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها ، وهو مغيب الشمس .
وقولنا " مَعَ النِّيِّةِ " ؛ لأنَّ الصوم عملٌ ؛ لقوله عليه السَّلام : " الصَّوْمُ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ " ، والعلم لا بُدَّ فيه من النيَّة ، لقوله - عليه السَّلام : - " إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " ، ومن الناس من قال : لا حاجة لصوم رمضان إلى النيَّة ؛ لأن الله تعالى امر بالصَّوم بقوله : " فَلْيَصُمْهُ " والصَّوم هو الإمساك ، وقد وجد ، فيخرج عن العهدة ، وهذا مردودٌ بقوله - عليه السلام - " إنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ " والصوم عملٌ .
وقوله { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قد تقدَّم الكلامُ عليها ، وبيانُ السبب في تكريرها .
قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } تقدَّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا } [ البقرة : 26 ] . و " أَرَادَ " يتعدَّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه ، وقد ينعكس الأمر ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
944 - أَرَادَتْ عَرَاراً بِالهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ *** عَرَاراً لعَمْرِي بِالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ{[2637]}
والباء في " بِكُمْ " قال أبو البقاء{[2638]} : لِلإلْصَاقِ ، أي : يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ ، وهو من مجاز الكلام ، أي : يريد الله بفِطْرِكُمْ في حال العذر اليُسْرَ ، وفي قوله : { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } تأكيدٌ ؛ لأنَّ قبله " يُرِيدُ بِكُمُ اليُسْرَ " وهو كافٍ عنه . وقرأ{[2639]} أبو جعفر ويحيى بن وثَّاب وابن هُرْمُز : " اليُسُر ، والعُسُر " بضمّ السين ، والضمُّ للإتباع ؟ والأظهر الأول ؛ لأنه المعهود في كلامهم .
و " اليُسْرُ " في اللغة السُّهُولة ، ومنه يقال للغنى والسَّعة : اليسار ؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليُسْرَى ، قيل : تلي الفعال باليسر ، وقيل إنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى .
استدلُّوا بهذا الآية على أنَّ تكليف ما لا يطاق غير واقعٍ ؛ لأنه تعالى لمَّا بيَّن أنه يريد بهم اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، فكيف يكلِّفهم ما لا يقدرون عليه .
وأُجيبوا : بأنَّ اللفظ المفرد ، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم ، ولو سلَّمنا ذلك لكنَّه قد ينصرف إلى المعهود السَّابق في هذا الموضع{[2640]} .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على أنَّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى ؛ وذلك لأنَّ المريض لو تحمَّل الصَّوم حتى أجهده ، لكان يجب أن يكون قد فعل مالا يريده الله تعالى منه ، إذْ كان لا يريد غيره .
وأُجيبوا بحمل اللَّفظ على أنَّه تعالى لا يريدُ أنْ يأمر بما فيه عسر ، وإن كان قد يريدُ منه العُسر ؛ وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة{[2641]} .
قالت المعتزلة : هذه الآيةُ دالَّة على أنه تعالى لا يريدُ بهم الكُفر فيصيرون إلى النَّار ، فلو خلق فيهم ذلك الكُفر ، لم يكن لائقاً به أنْ يقول { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وجوابه : أنه معارضٌ بمسألة العلم .
قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ } في هذه اللام ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أنها زائدةُ في المفعول به ؛ كالتي في قولك : ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ ، و " أَنْ " مُقَدَّرةً بعدها ، تقديرهُ : { وَيُرِيدُ أَنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ } ، أي : تكميل ، فهو معطوفٌ على اليُسْر ؛ ونحوهُ قولُ أبي صَخْرٍ : [ الطويل ]
945 - أُرِيدَ لأَنسَى ذِكرَهَا فَكَأَنَّمَا *** تَخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ{[2642]}
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء{[2643]} وإنَّما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المَفعولِ - وإنْ كان ذلك إنَّما يكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً ، أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طال الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ، ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه ، فَعُدِّيَ بزيادة اللام ؛ قياساً لِضَعْفه بطولِ الفصلِ ضَعْفِه بالتقديم .
الثاني : إنَّها لامُ التعليل ، وليست بزائدةٍ ، واختلف القائلون بذلك على ستةِ أوجه :
أحدها : أن يكونَ بعد الواوِ فعلٌ محذوفٌ وهو المُعَلَّل ، تقديره : " وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ فَعَلَ هَذَا " ، وهو قولُ الفراء{[2644]} . الثاني – وقاله الزَّجَّاج – أن تكون معطوفةً على علَّة محذوفةٍ حُذِف معلولُها أيضاً تقديره : فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ؛ ليسهّل عليكم ، ولِتُكْمِلُوا .
الثالث : أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد هذه العلةِ تقديرُه : " ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لكُمْْ فِي ذَلِكَ " ونسبه ابن عطيَّة لبعض الكوفيين .
الرابع : أنَّ الواو زائدةٌ ، تقديرُه : يُرِيدُ اللَّه بِكُمْ كَذَا لِتُكْمِلُوا ، وهذا ضَعِيفٌ جِداً .
الخامس : أنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد قوله : " وَلَعَلَّكُمْ تُشْكُرُونَ " ، تقديرُه : شَرَعَ ذلك ، قاله الزمخشري ، وهذا نصُّ كلامه قال : " شَرَعَ ذَلِكَ ، يعني جُملة ما ذلك من أمر الشاهد بصَوم الشَّهر ، وأمر المُرَخَّص لهُ بمراعاة عدَّة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطرِ ، فقولهُ : " وَلِتُكْمِلُوا " علَّةُ الأمر بمراعاة العدَّة ، و " لِتُكَبِّرُوا " علةُ ما عُلِمَ من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و " لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " علةُ الترخيص والتيسير ، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المَسْلَكِ ، لا يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُقَّابُ من علماء البَيَانِ " .
السادس : أن تكون الواوُ عاطفةً على علَّةٍ محذوفةٍ ، التقديرُ : لتعملوا ما تعملون ، ولِتُكْمِلُوا ، قاله الزمخشريُّ ؛ وعلى هذا ، فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسير .
واختصارُ هذه الأوجه : أنْ تكون هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ : إمَّا قبلها ، وإمَّا بعدها ، أو تكونَ علةً للفعل المذكور قبلها ، وهو " يُرِيدُ " . القول الثالث : أنهَّا لام الأمر وتكونُ الواوُ قد عطفت جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ ؛ فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ ؛ وعلى ما قبلَه : يكونُ من عطف المفردات ؛ كما تقدَّم تقريرُه ، وهذا قولُ ابن عطيَّة ، وضَعَّفه أبو حيان بوجهين :
أحدهما : أَنَّ أمرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِهِ لغةٌ قليلةٌ ، نحو : لِتَقُمْ يَا زَيْدُ ، وقد قرئ{[2645]} شَاذَاً : فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُواْ }
والثاني : أن القُرَّاء أجمعُوا على كسر هذه اللام ، ولو كانت للأمر ، لجاز فيها الوجهان : الكسرُ والإسكانُ كأخواتها .
وقرأ الجمهورُ " وَلِتُكْمِلُوا " مخفَّفاً من " أكْمَلَ " ، والهمزةُ فيه للتعدية ، وقرأ{[2646]} أبو بكرٍ بتشديدِ الميم ، والتضعيفُ للتعدية أيضاً ؛ لأنَّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالباً ، والألفُ واللاَمُ في " العِدَّةِ " تَحْتَملُ وجهين :
أحدهما أنها للعهدِ ، فيكونُ ذلك راجعاً إلى قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهذا هو الظاهرُ .
والثاني : أنْ تكونَ للجنس ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصَومهِ ، والمعنى : أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته ، سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين .
قال ابن الخطيب{[2647]} : إنما قال : " وَلِتُكْمِلُوا العِدّةَ " ولم يقل : " ولِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ " ؛ لأنه لما قال : " وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة " دخل تحته عدة أيَّام الشهر ، وأيام القضاء ، لتقدُّم ذكرهما جميعاً ؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المقضي ، ولو قال : " وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ " لدل على حكم الأداء فقط ، ولم يدخل حكم القضاء .
واللامُ في " وَلِتُكَبِّرُوا " كهي في " وَلِتُكْمِلُوا " فالكلامُ فيها كالكلام فيها ، إلا أن القول الرابع لا يتأتَّى هنا .
قوله : " عَلَى مَا هَدَاكُمْ " هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب " تُكَبِّرُوا " وفي " عَلَى " قولان :
أحدهما : أنها على بابها من الاستعلاءِ ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبير بها ؛ لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ . قال الزَّمخشري : " كأنَّه قيل : ولِتكَبِّروا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ " قال أبو حيان – رحمه الله - : " وهذا منه تفسيرُ معنًى ، لا إعراب ؛ إذ لو كان كذلك ، لكان تعلُّقُ " عَلَى : " ب " حَامِدِينَ " التي قَدَّرها ، لا ب " تُكَبِّرُوا " ، وتقديرُ الإعراب في هذا هو : " وَلِتَحْمدُوا الله بالتكْبِيرِ على ما هَدَاكُم " ؛ كما قدَّره الناسُ في قوله : [ الرجز ]
946 – قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيَاداً عَنِّي{[2648]} *** . . .
أي : صَرَفَه بالقتلِ عني ، وفي قوله : [ الطويل ]
947 – وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ *** بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ{[2649]}
أي : متحكِّمُونَ بالبصيرةٍ في طعنِ الكُلَى " .
والثاني : أنهى بمعنى لام العلَّة والأوَّل أولى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ .
و " ما " في قوله : " عَلَى مَا هَدَاكُمْ " فيها وجهان :
أظهرهُما : أنها مصدرية ، أي : على هدايته إيَّاكم .
والثاني : أنَّها بمعنى " الذي " قال أبو حيان " وَفِيهِ بَعْدٌ مِنْ وَجْهَيْن :
أحدهما : حذفُ العائد ، تقديرُه ، هَدَاكُمُوهُ ، وقدَّره منصوباً ، لا مجروراً باللام ، ولا ب " إِلَى " لأنَّ حذفَ المنصوبِ أسهلُ .
والثاني : حذفُ مضافٍ يصحُّ به معنى الكلامِ على إتْباعِ الذي هَدَاكُم أو ما أشبَهَهُ " .
وخُتِمَت هذه الآية الكريمة بترجِّي الشُّكر ، لأنَّ قبلها تيسيراً وترخيصاً ، فناسب خَتمَها بذلك ، وخُتمت الآيتان قبلها بترجِّي التقوى ، وهو قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }
[ البقرة : 179 ] وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 178 ] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليف ، فناسب خَتْمَها بذلك ، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّبَ بترجِّي الشكر غالباً ، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصٍ عَقَّب بترجِّي التقوى وشبهها ، وهذا من محاسن عِلْم البيان والله أعلم .
فصل في المراد بالتكبير في الآية
في المراد بهذا التكبير قولان :
أحدهما : المراد منه التَّكبير لَيلَةَ الفطر .
قال ابنُ عبَّاس – رضي الله عنهما – حقٌّ على المسلمين ، إذا رأوا هلالَ شَوَّالِ أنْ يكبِّروا{[2650]} .
قال مالكٌ والشَّافعي – رحمه الله – وأحمد وإسحاقُ وأبو يُوسفُ ومحمَّد : سُنَّ التكبيرُ في لَيْلَتي العيدين .
وقال أبو حنيفة : يكرَهُ في غداة الفِطر .
واحتجَّ الأوَّلُون بقوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ قالوا : معناه ] ولتكملوا عدَّة صوم رمضان ، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطَّاعة .
واختلفُوا في أي العيدين أوكدُ في التَّكبير ؟ فقال الشَّافعيُّ في " القديم " : ليلة النَّحرِ أوكد ؛ لإجماع السَّلف عليها ، وقال في " الجديد{[2651]} " ليلةُ الفطر أوكَدُ ؛ لورود النصِّ فيها ، وقال مالكٌ : لا يكَبَّر في ليلة الفطرِ ، ولكنه يكَبَّر في يومه ، وهو مرويٌّ عن أحمد{[2652]} .
وقال إسحاق : إذا غدا إلى المُصَلَّى .
واستدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } تدلُّ على أن الأمر بهذا التَّكبير وقع معلَّلاً بحصول الهداية ، وهي إنما حصلت بعد غُرُوب الشَّمس ؛ فلزم التَّكبير من ذلك الوقت ، واختلفُوا في انقضاء وقتِهِ ، فقيل : يمتدُّ إلى تحريم الإحرام بالصَّلاة .
وقيل : إلى انصراف الإمام ، وقال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – إذا أتى المصلَّى ترك التَّكبير .
القول الثاني في المراد بهذا التَّكبير : هو التعظيم للَّه تعالى ؛ شكراً على توفيقه لهذا الطَّاعة .
قال القرطبي{[2653]} : " عَلَى مَا هَدَاكُمْ " قيل : لما ضَلَّ فيه النصارَى من تبديل صيامهم .
وقيل : بدلاً عمَّا كانت الجاهليَّة تفعله بالتَّفَاخُر بالآباء ، والتَّظاهر بالأحساب ، وتعديد المناقب .