بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } ، قرأ عاصم في رواية حفص : { شَهْرٍ } بفتح الراء والباقون : بالضم . وإنما صار رفعاً لمعنيين : أحدهما أنه مفعول ما لم يسم فاعله ، يقول : كتب عليكم شهر رمضان ومعنى آخر : أنه خبر مبتدأ يعني هذا شهر رمضان .

ومن قرأ بالنصب احتمل أنه صار نصباً لوقوع الفعل عليه ، أي صوموا شهر رمضان ؛ ويقال : صار نصباً لنزع الخافض ، أي : في شهر رمضان . ويحتمل : عليكم شهر رمضان . كقوله : { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابدون } [ البقرة : 138 ] يعني الزموا .

قوله : { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } ، قرأ ابن كثير { القرءان } بالتخفيف وقرأ الباقون : بالهمز . وقال ابن عباس في معنى قوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن } ، يعني أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في السماء الدنيا ، ثم أنزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً ، أي الآية والآيتين في أوقات مختلفة ؛ أنزل عليه في إحدى وعشرين سنة . وقال مقاتل : أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين سنة .

حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا فارس بن مردويه قال : حدثنا محمد بن الفضيل العابد قال : حدثنا الفضل بن دكين ، عن سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة قال : أنزلت التوراة في ثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان ، والإنجيل في ثمانية عشرة ليلة ، والقرآن في أربعة وعشرين ليلة . قال الفقيه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم القطان قال : حدثنا محمد بن صالح الترمذي قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريح قال : قال ابن عباس في قوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } قال : أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر . قال ابن جريج : كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل في تلك السنة . فينزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا ، ولا ينزل جبريل من ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم إلا كلما أمر به تعالى .

قوله عز وجل : { هُدًى لّلنَّاسِ } أي القرآن هدى للناس من الضلالة وبياناً لهم . { وبينات مِّنَ الهدى } ، يعني بيان الحلال والحرام { والفرقان } ، أي المخرج من الشبهات { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، أي من كان منكم شاهداً ولم يكن مريضاً ولا مسافراً فليصم الشهر . { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ } فأفطر ، { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } يقضيه بعد ذلك . روي عن عبد الله بن عمر : أنه كان يكره قضاء رمضان متفرقاً . وعن علي بن أبي طالب مثله . وقال معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة : أحصِ العدد وصم كيف شئت . واختلفوا في حدّ المريض الذي يجوز له الإفطار .

قال بعضهم : إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف . وقال بعضهم : إذا استحق اسم المريض جاز له أن يفطر . وقال بعضهم : إذا كان بحال يخاف أن يزيد الصوم في مرضه جاز له أن يفطر . وهو قول أصحابنا .

ثم قال تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } في الإفطار في حال المرض والسفر ، { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } بالصوم في المرض والسفر . { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } ، قال الكلبي : يعني لتتموا عدة ما أفطرتم من الصوم في السفر أو في المرض . وقال الضحاك : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } ، يعني إذا غمّ عليكم هلال شوال فأكملوا الشهر ثلاثين يوماً . قرأ عاصم في رواية أبي بكر ، وأبو عمرو في رواية هارون : «وَلِتُكَمِّلُوا » ؛ بنصب الكاف وتشديد الميم ، وقرأ الباقون بالتخفيف وسكون الكاف ؛ وهما لغتان يقال : كملت الشيء وأكملته مثل وصَّيت وأوصيت ثم قال : { وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } ، أي لتعظموا الله على ما هداكم لشرائعه وسننه وأمر دينه ؛ { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي لتشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث رخص لكم الفطر في المرض والسفر . وقال مقاتل :{ ولعلكم تشكرون } في هذه النعم أن هداكم لأمر دينه .