قوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْءَانُ ) إلى قوله : ( وَلَعَلَّكُمْ( {[5772]} ) تَشْكُرُونَ ) [ 184 ] .
أي : المفترض عليكم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى سماء الدنيا وذلك ليلة أنزل الله جل ذكره القرآن من اللوح المحفوظ جميلة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل( {[5773]} ) بعد ذلك نجوماً( {[5774]} ) على ما شاء الله . كذلك أتت الرواية عن النبي [ عليه السلام( {[5775]} ) ] .
قال ابن عباس : " أنزل الله القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع( {[5776]} ) وعشرين من شهر( {[5777]} ) رمضان فجعل في بيت العزة( {[5778]} ) " .
وروى واثلة( {[5779]} ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نَزَلَتْ صُحُفُ( {[5780]} ) إبْرَاهِيمَ( {[5781]} ) أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَنَزَلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍ( {[5782]} ) مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ . [ وَنَزَلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاَثِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ . وَنَزَلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ . وَنَزَلَ القُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ( {[5783]} ) ] . وَكَانَ بَيْنَ نَزُولِ أَوَّلِ القُرْآنِ( {[5784]} ) وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً( {[5785]} ) " .
وقيل : معناه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن بفرضه على الناس . فأما إعرابه على هذا المعنى ، فيكون فيه معدّى( {[5786]} ) إليه الفعل بحرف جر( {[5787]} ) ، لا ظرفاً . وعلى القول الأول ، يكون فيه ظرفاً للنزول( {[5788]} ) .
وروى جابر بن عبد الله أن النبي [ عليه السلام( {[5789]} ) ] قال : " أَنْزَلَ الله أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُحُفُ [ إِبْرَاهِيمَ ، وأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى( {[5790]} ) ] لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ( {[5791]} ) ، وَأَنْزَلَ الزَّبُورَ عَلَى داوُدَ( {[5792]} ) لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ( {[5793]} ) ، وَأَنْزَلَ الإِنجِيلَ عَلَى عِيسَى( {[5794]} ) لِثَمَاني عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ( {[5795]} ) ، وأنزل القرآن( {[5796]} ) لأربع وعشرين [ ليلة خلت من رمضان( {[5797]} ) " .
/وأكثر( {[5798]} ) الناس على أن القرآن أنزل( {[5799]} ) ] ليلة القدر من رمضان ، والله أعلم أي ليلة كانت ، وذلك كله إلى سماء الدنيا ، ثم نزل متفرقاً( {[5800]} ) على ما ذكرنا( {[5801]} ) .
فأما إعراب ( شَهْرُ رَمَضَانَ ) ؛ فيجوز أن يكون " شَهْرُ( {[5802]} ) " رفع بالابتداء ، و( الَّذِي أُنْزِلَ ) الخبر( {[5803]} ) .
ويجوز أن يكون التقدير : الأيام التي تصام شهر رمضان وشبهه( {[5804]} ) .
وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب : " شَهْرَ( {[5805]} ) : " بالنصب . ورويت عن عاصم ونصبه عند البصريين على الإغراء ، وعند الكوفيين بالصيام ، وهو قبيح للتفرقة بين الصلة والموصول( {[5806]} ) .
وإنما سمي الشهر شهراً( {[5807]} ) لشهرته ودخوله وخروجه ، ومنه " شَهَرَ فُلانٌ سَيْفَهُ " إذا أخرجه من غمده( {[5808]} ) .
فمن قال : " شَهْرُ رمضان " قال في التثنية " شهرَا( {[5809]} ) رمضان " /وفي الجمع " أَشْهُرَ رمضان " ، و " شَهْرَات رمضان " .
ومن قال " رمضان " بغير شهر قال في الجميع " رَمَضَاناتٍ " .
وحكى الكوفيون " رماضين " ، وحكوا " أَرمِضَة " ، وحكي " رُمَاضٌ " . ولم يتصرف لأن فيه ألفا ونوناً زائدتان ، وهو معرفة( {[5810]} ) .
قال قطرب : " سمي رمضان رمضان لأنهم كانوا يصومونه في الحر . فهو مشتق من الرمضاء ، والرمضاء الرمل الحامي من الشمس( {[5811]} ) " .
وكره مجاهد( {[5812]} ) أن يقال رمضان للشهر( {[5813]} ) ، ولا يقال إلا " شهر رمضان " ، كما قال الله . وقال : " لعل( {[5814]} ) رمضان اسم من أسماء الله( {[5815]} ) " . /وقاله عطاء . /وقد أتت الآثار عن النبي عليه السلام( {[5816]} ) بذكر( {[5817]} ) رمضان من غير لفظ شهر( {[5818]} ) .
روى( {[5819]} ) مالك أن ابن عباس قال : " إن رسول الله ذكر( {[5820]} ) رمضان ، فقال : " لا تَصُومُوا حَتَى تَرَوُا الهِلالَ " ( {[5821]} ) .
وقال أنس بن( {[5822]} ) مالك : " سافرنا مع رسول الله [ عليه السلام ]( {[5823]} ) في رمضان كثيراً " ( {[5824]} ) .
وإنما سمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور الكثيرة من قولهم : " قَرَأْتُ الماءَ في الإناءِ " ، أي جمعته وضممته( {[5825]} ) .
وقيل : إنما سمي بذلك لأنهم يقولون : " قَرَأتِ المَرْأَةُ " ، و " قرأت " ( {[5826]} ) إذا حاضت( {[5827]} ) وإذا ولدت ، فكأنها/تظهر شيئاً كان مستوراً . والقارئ إذا أظهر شيئاً وبيَّنه ، فهو من إظهار الشي وتبيينه( {[5828]} ) .
وقوله : ( هُدىً لِلنَّاسِ ) [ 184 ] . أي رشاد للناس إلى طريق النجاة .
وقوله : ( وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ ) . [ 184 ] .
أي : والقرآن أيضاً آيات واضحات( {[5829]} ) من الرشاد ، والفرق بين الحق والباطل .
ثم قال : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) [ 184 ] .
أي فمن شهد منكم الشهر في المصر وهو صحيح فليصمه . و " شَهِدَ " بمعنى " حضر " . ومن كان مريضاً في المصر أو على سفر ، فليقطر إن شاء ، وعليه عدة من أيام أخر .
وقيل : المعنى : فمن دخل عليه الشهر وهو مقيم في المصر لزمه الصوم [ سافر بعد ذلك أو قام ]( {[5830]} ) . رواه الضحاك عن ابن عباس قال : " إذا شهدت أوله في المصر( {[5831]} ) فصم وإن سافرت " ( {[5832]} ) .
وكذلك قال السدي . ورواه أيضاً قتادة عن علي رضي الله عنه ، وقاله عبيدة( {[5833]} ) . وروي أيضاً/عن عائشة رضي الله عنها( {[5834]} ) .
وعلى القول الأول كل العلماء : إن للمسافر( {[5835]} ) الإفطار ، وإن أخذه أول الشهر في المصر ، ولا يجزي صيام إلا بتبييت( {[5836]} ) قبل الفجر( {[5837]} ) .
ومذهب [ مالك أنه إذا بيت الصيام ]( {[5838]} ) في أول الشهر أجزأه عن( {[5839]} ) أن يبيته في كل ليلة من بقية الشهر .
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل : " لابد من تبييت( {[5840]} ) الصوم في كل ليلة " ( {[5841]} ) وثبت عن/حفصة( {[5842]} ) أنها قالت : " لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِع الصِّيامَ قَبْلَ الفَجْرِ " وأسندته إلى النبي [ عليه السلام ]( {[5843]} ) .
ثم قال تعالى : ( [ وَمَنْ كَانَ ]( {[5844]} ) مَرِيضاً ) [ 184 ] .
أي مريضاً بمرض يشق عليه الصوم ويشتد عليه( {[5845]} ) أفطر ، وكذلك المسافر ، لهما أن يفطرا ويقضيا جميعاً ، ولا إطعام عليهما .
ومن أكل أو شرب ناسياً في رمضان فعليه القضاء ولا كفارة عليه( {[5846]} ) . وهو قول مالك وربيعة بن عبد الرحمن وأهل المدينة( {[5847]} ) .
وعن علي وأبي هريرة وابن( {[5848]} ) عمر أنه : " لا قضاء عليه " ( {[5849]} ) .
و[ به ]( {[5850]} ) قال عطاء وطاوس والنخعي والثوري( {[5851]} ) والأوزاعي وابن أبي ذيب( {[5852]} ) والشافعي( {[5853]} ) وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأصحاب الرأي( {[5854]} ) .
ومن وطئ نهاراً( {[5855]} ) في رمضان ناسياً فعليه القضاء عند مالك ولا كفارة عليه ، وهو قول عطاء والليث بن( {[5856]} ) سعد والأوزاعي( {[5857]} ) .
وقال مجاهد والحسن والثوري والشافعي( {[5858]} ) وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي : " لا قضاء عليه ولا كفارة " ( {[5859]} ) .
وقال أحمد بن حنبل : " عليه القضاء والكفارة " ( {[5860]} ) .
وأجمعوا على أن من أكل ناسياً فظن أن ذلك قد فطره( {[5861]} ) فجامع عامداً أن عليه القضاء ولا كفارة عليه( {[5862]} ) .
ومن أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة كالمجامع عامداً .
وهو قول مالك والزهري ، وبه قال الحسن وعطاء . وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي( {[5863]} ) ثور وإسحاق وأصحاب الرأي( {[5864]} ) .
وقال ابن المسيب : " عليه صوم شهر " .
وقال ربيعة بن( {[5865]} ) أبي عبد الرحمن : " عليه صوم اثني( {[5866]} ) عشر يوماً على عدة الشهور " .
وعن عطاء أنه " لا قضاء عليه ، وعليه تحرير رقبة ، فإن لم يجد فبدنة ، أو بقرة أو عشرون صاعاً طعاماً للمساكين " .
وعن النخعي أن " عليه ثلاث آلاف( {[5867]} ) يوم " .
وعن ابن عباس/أن " عليه عتق رقبة ، أو صوم شهر ، أو إطعام ثلاثين مسكيناً " .
و( {[5868]} )روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " مَن أفطر يوماً في رمضان متعمداً لم يقضه أبداً طول الدهر " . وروي ذلك عن ابن مسعود( {[5869]} ) .
وعن الزهري أيضاً أنه قال : " إن كان فعل ذلك ابتداعاً لدين غير الإسلام ، ضربت عنقه ، وإن كان فعل ذلك فسقاً جلد " .
ومن استقاء( {[5870]} ) فقاء ، فعليه القضاء ولا كفارة عليه .
وهو قول علي بن أبي طالب( {[5871]} ) وزيد بن أرقم( {[5872]} ) ، وابن( {[5873]} ) عمر وعلقمة ، وهو قول الزهري ومالك والشافعي( {[5874]} ) وأحمد( {[5875]} ) وأصحاب الرأي .
وقال عطاء وأبو ثور : " عليه الكفارة مع القضاء " . فإن دَرعه( {[5876]} ) القيء فقاء فلا شيء عليه عند الجميع .
ثم قال( {[5877]} ) : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ) [ 184 ] .
أي يرخص الله عليكم إرادة التيسير ، ولا يريد بكم العسر( {[5878]} ) في دينكم .
ثم قال : ( وَلِتُكْمِلُوا( {[5879]} ) العِدَّةَ ) [ 184 ] : أي تكملوا عدة ما أفطرتم/ فتقضوه في أيام أخر( {[5880]} ) .
ثم قال : ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) [ 184 ] .
قال ابن عباس : " حق على المسلمين أن يكبروا إذا نظروا إلى هلال شوال " ( {[5881]} ) .
وقيل : هو التكبير في العيد عند الغدو إلى المصلى . قاله علي بن( {[5882]} ) أبي طالب( {[5883]} ) ، وزيد بن( {[5884]} ) أسلم( {[5885]} ) .
وكذلك كان النبي [ عليه السلام ]( {[5886]} ) يفعل إذا خرج إلى المصلى . فهو سنة عند الزهري وغيره . يقول الرجل : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر( {[5887]} ) .
ثم قال : ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ 184 ] . أي [ تشكرون على تسهيله عليكم وهدايته ]( {[5888]} ) لكم .