قوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم لعلكم تشكرون } . الشهر من الإشهار وهو الإعلان والإظهار ، وفعله أشهر يشهر ، نقول شهر السيف أي سله ، وشهر فلانا أو أشهره أي أبرزه وجعله ظاهرا ، وشهر الحديث بين الناس أي أفشاه فاشتهر{[225]} .
ورمضان من الفعل رمض رمضا أي اشتد حره . وفي الحديث الشريف : " شكونا إلى رسول الله ( ص ) الرمضاء في جباهنا فلم يشكنا " ورمض الصائم يرمض إذا احترقت جوفه من شدة العطش . والرمضاء هي الحجارة شديدة الحر ، ومنها اشتق اسم رمضان ، وقد سمي بذلك لما وافقت تسميته الزمن الذي سمي فيه إذ كان شديد الحر كالرمضاء ، ويجمع رمضان على رمضانات وأرمضة وأرمضاء ، وقيل أيضا رماضين{[226]} .
وثمة قول وجيه في تعليل هذه التسمية وهو أنه سمي بذلك ؛ لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة . وذلك من الإرماض ومعناه الإحراق{[227]} .
وقوله : { الذي أنزل فيه القرآن } أي أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان ذلك في شهر رمضان وفي ليلة القدر بالذات . وفي ذلك يقول سبحانه { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } وقوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وبعد إنزال القرآن إلى السماء الدنيا في تلك الليلة الكريمة المباركة تقرر تنزيله منجما على النبي ( ص ) تبعا للأحوال والظروف ومقتضيات الحياة .
وقوله : { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } هذه حقيقة كاملة يقف عليها العارفون بهذا الدين ، العاملون بالكتاب الحكيم وما ينطوي عليه من روائع الإعجاز في مختلف المناحي والضروب ، سواء في ذلك روعة البيان والأسلوب أو روعة التشريع في كماله وشموله واتساعه بما يغطي واقع الحياة كلها ، أو روعة التربية وتهذيب النفس بما يصنع الأعاظم من الرجال والعظيمات من النساء على نحو فذ عجيب وكيفية غريبة لا نظير لها في تاريخ الأفراد والأناسي .
وذلك الذي يدفعنا للقول مبادرين بأن القرآن جاء للناس هدى ، فهو فيه هدايتهم وما يأخذ بأيديهم ونفوسهم وطبائعهم وأذهانهم وكل أسباب الحياة والمعايش إلى الخير والسعادة وإلى الأمن والرشاد ، وما يقتضيه ذلك من معاني العدل والفضل والاستقامة والتعاون والتواد .
وكذلك فإن القرآن { بينات من الهدى والفرقان } أي أنه يحمل للبشرية دلائل وبراهين فيها الهداية والتفريق الجلي الواضح بين الحق والباطل .
وقد قدمنا في مطلع تفسير الآية أن هذا الشهر عظيم الفائدة والقدر . وهو ليس كغيره من الشهور ، بل إنه خيرها وسيدها ، وإن فيه كبير الأجر للعاملين المخلصين ، وكبير الوزر على الخاطئين العصاة أو الساهين الناكبين عن شريعة الله وعن قسطاسه العدل .
وفي عظمة الشهر وجليل قدره أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين " .
وروى النسائي في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجل عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب جهنم ، وتغل فيه مردة الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " .
وروى النسائي عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله ( ص ) " إن الله تعالى فرض رمضان عليكم ، وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .
قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } من اسم شرط . ( شهد ) فعل ماض والجملة الفعلية في محل جزم للشرط . ( الشهر ) ظرف زمان منصوب وليس مفعولا به . والفاء مقترنة بجواب الشرط . واللام للأمر يصمه مجزوم بلام الأمر وأصلها يصومه . والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به . ومعنى الآية أن من حضر شهر رمضان وكان غير معذور إلا هادم لركن عظيم من أركان هذا الدين ، ومقارف لمعصية فظيعة هي إحدى الكبائر من الذنوب{[228]} .
وفي هذا الصدد من الحديث عن الصيام وفرضيته على كل مسلم عاقل بالغ مقيم صحيح البدن ، نعرض لجملة مسائل لنناقشها مناقشة فقهية .
المسألة الأولى : فهم بعض أهل العلم أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر أثناءه فإنه لا يجوز له أن يفطر بحجة السفر ، بل إنه يباح الإفطار للمسافر الذي أقبل عليه الشهر وهو في حال السفر . وقد استندوا في هذا الرأي إلى ظاهر قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) فالذي حضر الشهر أثناء السفر له أن يفطر .
ولا نظن هذا القول إلا مرجوحا ضعيفا ، وبذلك فهو قول لا يعول عليه ، والرد عليه من السنة واضح ، فقد ثبا عن النبي ( ص ) أنه خرج من شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر .
المسألة الثانية : في الإفطار في السفر ، هل هو واجب أم مباح ؟ فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه مباح وليس واجبا ، وأن صورة الأمر الواردة في الآية لا تفيد الوجوب ، بل تفيد التخيير ، فالمسافر مخير بين الصيام والإفطار .
وذهب آخرون من العلماء إلى وجوب الإفطار في السفر استنادا إلى ظاهر قوله تعالى : ( فعدة من أيام أخر ) وفي تصورنا أن هذا الرأي ( الثاني ) مرجوح لا يعول عليه فهو بذلك غير معتمد . وقول الجمهور هو الصحيح . ويعزز ذلك ما روي أن الصحابة كانت تخرج مع النبي ( ص ) وفيهم الصائم والمفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم . وبذلك فإنه لو كان الإفطار واجبا لأمرهم النبي ( ص ) به ولأنكر عليهم الصيام .
المسألة الثالثة : أيهما أفضل في السفر الصيام أم الإفطار ؟ فقد قال الشافعي : إن الصيام أفضل ؛ وذلك لما ثبت عن النبي ( ص ) أنه كان يصوم في السفر .
وقال آخرون : إن الإفطار للمسافر أفضل ؛ وذلك نظرا للرخصة بالإفطار حال السفر . وكذلك لما سئل النبي ( ص ) عن الصوم في السفر قال : " من أفطر فحسن ، ومن صام فلا جُناح عليه " وفي حديث آخر " عليكم برخصة الله التي رخص لكم " .
وذهب آخرون إلى أن الصيام والإفطار في السفر سواء ؛ وذلك لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ! إني كثير الصيام أفأصوم في السفر ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " .
ولعل الصواب في هذه المسألة أن من شق عليه الصوم في السفر حتى بلغ منه حرجا ، فإن الإفطار في حقه أفضل . ودليل ذلك حديث جابر أن النبي ( ص ) رأى رجلا قد ظلل عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم . فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " أما إن كان الصوم لا يشق عليه في السفر ، ولا يبلغ به الحرج والجهد ، فإن الراجح لدينا إذ ذاك أن الصوم أفضل والله تعالى أعلم{[229]} .
المسألة الرابعة : هل يجب القضاء متتابعا أو يجوز فيه التفريق ؟
ثمة قولان في الإجابة عن ذلك . وأحد هذين القولين أنه يجب التتابع في قضاء الصوم بحيث تصام الأيام متتابعة يتلو أحدها الآخر دون تفريق بينها بإفطار يوم أو أيام ، وليس من دليل على ذلك إلا الاحتجاج بأن القضاء يشبه الأداء ويقوم مقامه . والأداء لا يكون إلا متتابعا فكذلك القضاء .
وثان هذين القولين وهو الصحيح . وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف إذ ذهبوا جميعا إلى أن التتابع في صوم القضاء غير واجب ، فالصائم قضاء إن شاء تابع وإن شاء فرق تفريقا . وتوجيه هذا القول أن التتابع إنما وجب في الشهر ؛ لضرورة أدائه في نفس الشهر . وأما بعد انقضاء الشهر ( رمضان ) فلا يبقى بعد ذلك إلا المقصود وهو صيام عدة أيام . وذلك بعدد الأيام التي أفطرها المعذور في رمضان ؛ ومن أجل ذلك قال سبحانه : ( فعدة من أيام أخر ) وذلك بإطلاق ليس فيه تحديد بالتتابع ، بل إن الآية تنطوي على المقصود الأساسي وهو وجوب صيام عدة أيام على سبيل القضاء من غير اشتراط بتتابع{[230]} .
وثمة مسألة هامة أخرى جديرة بالاعتبار والنظر ، وهي ما لو رؤي الهلال في بلد ، فهل يلزم الصيام كل البلدان الأخرى ؟ وفي ذلك تفصيل نبينه في الآتي : إذا رؤي هلال رمضان في بلد فقد لزم الصيام كل البلدان الأخرى القريبة من بلد الرؤية ، كما لو رؤي في بغداد مثلا وجب على أهل المدن الأخرى غير النائية كالبصرة والكوفة أن يصوموا . وكذا لو رؤي في دمشق لزم أهل حمص وحماة وحلب أن يصوموا ، أي أن البلدان القريبة تلتزم بحكم الرؤية ، سواء كان ذلك في هلال رمضان الموجب للصيام ، أو في هلال شوال الموجب للإفطار حيث العيد . وإذا لم يره القريبون من بلد الرؤية فليس ذلك إلا لتقصيرهم في الملاحظة والتأمل لرؤية الهلال ، أو لعارض طرأ فحجب عنهم الرؤية . وذلك ما ليس فيه خلاف .
لكن الخلاف في اختلاف رؤية الهلال عند تباعد البلدان ، وذلك كما بيم المشرق والمغرب . وهو أن يُرى الهلال في العراق ولم يُر في المغرب . أو رؤي في دمشق ولم يُر في اليمن أو الحجاز . وذلك للبعد بين بلد الرؤية والبلدان الأخرى .
على أن السبب في عدم الرؤية عند تباعد البلدان هو اختلاف مطالع القمر تبعا لكروية الأرض ، وصغر حجم القمر إذا ما قورن بالأرض ، فإذا رؤي الهلال في أقصى المشرق ربما لم يره أهل المغرب في نفس الليلة . وكذا ما بين شمال الأرض وجنوبها ، فإن كان كذلك ، كان في المسألة من حيث حكم الصيام ثلاثة أقوال :
القول الأول : وهو أنه إذا رؤي الهلال في بلد لزم جميع المسلمين أن يصوموا ؛ وذلك لقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ولقوله عليه الصلاة والسلام : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين ) {[231]} .
وهذا يقتضي وجوب الصيام في حق الجميع لمجرد الرؤية في بلد . وهو قول الحنابلة وبعض الشافعية وأكثر المالكية{[232]} .
القول الثاني : وهو أنه إذا كانت البلدان بعيدة بعدا عظيما عن بلد الرؤية فلا تلتزم بالصيام ، وإنما يلزم الصيام بلد الرؤية دون غيره ؛ وذلك نظرا لاختلاف مطالع القمر مما يقتضي رؤية الهلال في بلد دون غيره من البلدان النائية . وهو قول الحنفية وأكثر الشافعية وبعض المالكية{[233]} وقد احتجوا بحديث كريب ، وهو ما يعول عليه كثيرا في هذه المسألة .
فقد روى الجماعة عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام ، فقال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم . ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه . فقلت : ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله ( ص ) .
وموضع الاستدلال هنا هو قوله : " هكذا أمرنا رسول الله ( ص ) " . والأمر المشار إليه هو ما قاله ابن عباس : " فلا نزال نصوم حتى نرى الهلال أو نكمل عدة شعبان ثلاثين يوما " . أي أن أهل البلد النائي والذين لم يروا الهلال لم يلزمهم حكم رؤيته في البلد الآخر ، بل عليهم التربص حتى يروا الهلال أو يكملوا الثلاثين . ويؤيد ذلك ما رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة أن النبي ( ص ) قال : " إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما " ولا ينبغي أن يفهم من واو الجماعة هنا الاستغراق ليجب الصيام في حق الجميع بمجرد الرؤية في أي بلد ، بل إن الاستغراق هنا منوط ببلد الرؤية دون البلدان النائية الأخرى . وهو ما أشار إليه ابن عباس في تصريحه بالرفع إلى رسول الله ( ص ) وهو قوله : " هكذا أمرنا " .
ونقتضب جملة تقريرات من أقوال الفقهاء المشاهير من مختلف المذاهب في هذه المسألة :
فقد جاء في أحكام القرآن لابن العربي وهو من مشاهير المالكية في هذه المسألة : " واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا ، فقيل : رده ؛ لأنه خبر واحد ، وقيل : رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع وهو الصحيح . ونظيره ما لو ثبت أنه أهلّ ليلة الجمعة بأغمات ( غرب مراكش ) وأهل بأشبيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم لأن سهيلا يكشف من أغمات ولا يكشف من إشبيلية ، وهذا يدل على اختلاف المطالع " {[234]} .
وقال الإمام الماوردي – من مشاهير الشافعية- في هذا الصدد : " إذا رأوه في بلد دون بلد فثلاثة أوجه : أحدها : يلزم الذين لم يروا ؛ لأن فرض رمضان لا يختلف باختلاف البلاد . والثاني : لا يلزمهم ؛ لأن الطوالع والغوارب قد تختلف لاختلاف البلدان ، وإنما خوطب كل قوم بمطلعهم ومغربهم ، ألا ترى الفجر قد يتقدم طلوعه في بلد ويتأخر في بلد آخر ؟ وكذلك الشمس قد يتعجل غروبها في بلد ويتأخر في آخر ، ثم كل بلد يعتبر طلوع فجره وغروب شمسه في حق أهله فكذلك الهلال ، إن كانا من إقليم لزمهم وإلا فلا{[235]} .
وقال صاحب المجموع في ذلك : " إذا رؤي الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره ، فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف ، وإن تباعدا فوجهان مشهوران ، أصحهما : لا يجب الصوم على أهل البلد الأخرى . والثاني : يجب . وأجاب هؤلاء عن حديث كريب عن ابن عباس أنه خبر واحد ، وأنه لم يثبت عنده رؤية الهلال في بلد آخر بشهادة عدلين والصحيح أنه رده لاختلاف المطالع بين الأقطار " {[236]} .
وجاء في كتاب البدائع للكساني- من مشاهير الحنفية- قوله في هذا الصدد : " إذا كانت المسافة بين البلدين بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم الآخر ؛ لأن مطالع البلاد عند المسافة الفاحشة تختلف فيعتبر في أهل كل بلد مطالع بلدهم دون البلد الآخر " {[237]} .
القول الثالث : وقد ذكره بعض أهل العلم ، وهو متعلق بدور الإمام الأعظم في هذه المسألة ؛ فقد قالوا ؛ إن للإمام الأعظم أن يلزم المسلمين جميعا با ث تاب البدائع للكسائييح أنه رده لاختلاف المطالع بين الأقطار " رؤية الهلاال في بلدالأخرى . حكمهما حكم بلد واحد ويلزم أهل البلد اللصوم إذا ثبت له الرؤية حيث يقيم ، ووجه ذلك : أن بلاد الإسلام في حقه كالبلد الواحد ؛ فلا فرق عنده بين بلد وآخر ، أو بين إقليم وإقليم ، فحكمه يكون نافذا في الجميع .
قوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } هذه العبارة القصيرة عظيمة في مقصودها وما ترمي إليه من مدلول أساسي كبير يكشف عن طبيعة هذا الدين في اليسر والحنيفية .
إن الإسلام وهو دين الفطرة البشرية يقوم في أركانه وتفصيلاته عن عبادات وتشريع على التسهيل والتيسير ونفي الحرج . وتلك حقيقة تتجلى في طبيعة هذا الدين الميسور وهو يواكب حياة الإنسان بدءا بكونه جنينا مستورا ومرورا بمراحل حياته من الرضاع إلى الطفولة إلى اليفوع إلى الشباب إلى الشيخوخة ، وانتهاء بمماته وزوال ظله عن هذه الدنيا .
إن الإسلام دين البشرية على اختلاف أجناسها وأعراقها ومشاربها طيلة الدهر وفي كل أرجاء هذه المعمورة . ومن أجل ذلك بات ضروريا أن يجيء الإسلام ميسرا غير معسر ، وأن يكون أصلا قائما على قواعد من اليسر توافق طبيعة الإنسان ، وتلائم فطرته التي تنفر من الإعنات والتضييق ، وتضيق بالقسوة المرهقة والتنطع الممجوج .
وفي ذلك يحدثنا النبي ( ص ) عن هذه الحقيقة الجلية بما يكشف عن طبيعة الإسلام في التيسير . فقال عليه السلام : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " {[238]} وقال عليه الصلاة والسلام : " إن دين الله في يسر " قالها ثلاثا . وذلك بعد ما سأله الناس : علينا حرج في كذا ؟ {[239]} .
وفي حديث الأنس بن مالك أن رسول الله ( ص ) قال : " يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا " {[240]} .
وفيما ترويه المسانيد والسنن من حديث النبي ( ص ) هذا المشهور " بعثت بالحنيفية السمحة " .
وعنه ( ص ) أنه قال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر " {[241]} .
وقوله : ( ولتكملوا العدة ) أي أن الله أمر بقضاء عدة أيام لتكتمل عدة الشهر ، سواء كان هذا الشهر تسعة وعشرين أو ثلاثين ، فإن المهم أن يقضي المعذور ما عليه من أيام ليكتمل في حقه الشهر فتبرأ بذلك ذمته من حق الله سبحانه .
وقوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم } فإن غالب أقوال العلماء تذهب إلى ترسيخ التكبير في عيد الفطر ؛ استنادا إلى هذه الأيام . وهو قول كل مسلم في هذا اليوم : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثا ، لكنهم اختلفوا في حد التكبير من حيث بدايته ونهايته . فقال عبد الله بن عباس : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا . وروي عنه أيضا أن المرء يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة .
وقال سفيان الثوري : هو التكبير يوم الفطر . وقال زيد بن أسلم : يكبر المسلم إذا خرج إلى المصلى ، فإذا نقضت الصلاة انقضى العيد ، وهو مذهب الإمام مالك . وقيل غير ذلك . وأساس القضية تكبير الله سبحانه ، ويتحقق ذلك أولا باللسان وهو يلهج بتعظيم الله جل جلاله في ترديد هذه العبارة الضخمة ذات المدلول الزاخر العظيم " الله أكبر " ويتحقق ثانيا بالقلب حيث المشاعر والوجدان والحس ، وحيث الضمير وما يرسخ فيه من وازع مؤثر وإحساس مرهف هذه الجوانب الأساسية في تركيبة الإنسان تعتبر مصدرا أساسيا وعظيما تنبثق منه طاقات الإنسان وقدراته ، لتبعث في الحياة زخما هائلا من الفعالية والتأثير ومن العطاء والإيجابية .
إن هذه الجوانب الهامة في الإنسان تتلاقى فيما بينها جميعا لتعلن في تصديق كامل وفي يقين ضارب في أعماق النفس أن الله هو الأكبر . فهو أكبر من كل كبير ، وأنه أعظم من كل عظيم ، بل إنه في عظمته وكبريائه يهون دونه كل كبير أو عظيم .
ذلك ما يردده المؤمن سواء في أيام الفطر والأضحى ، أو في بقية الأيام جميعا . فهو يردد بلسانه على الدوام أن الله هو الكبير ، بل إنه أكبر من كل كبير ، لا باللسان وحده ، ولكن يأتي اللسان مقترنا بالقلب وما ينبثق عنه من طاقات شعورية ووجدانية . حتى إذا ذكر المؤمن ربه وكبره بلسانه وقلبه تكبيرا ثم أخبت له طائعا خاشعا عاملا بما أمر ومنتهيا عما زجر ، بات من الشاكرين لله سبحانه ، السائرين على صراطه وما هداهم إليه ؛ لذلك قال : { ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } .