محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (185)

ولما أبهم الأمر في الأيام عيّنت هنا بقوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون 185 } .

{ شهر رمضان } لأن ذلك أفخم وآكد من تعيينه من أول الأمر .

وقال الراغب : جعل معالم فرضه على الأهلة ليبادر الإنسان به في كل وقت من أوقات السنة ، كما يدور الشهر فيه من الصيف والشتاء والربيعين .

وفي رفع { شهر } وجهان : ( أحدهما ) أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي شهر ، يعني الأيام المعدودات . فعلى هذا يكون قوله { الذي أنزل } نعتا للشهر أو لرمضان . و( الثاني ) / هو مبتدأ . ثم في الخبر وجهان : ( أحدهما ) { الذي أنزل } ؛ و( الثاني ) إن { الذي أنزل } صفة ، والخبر هو الجملة التي هي قوله { فمن شهد } .

فإن قيل : لو كان خبرا لم يكن فيه الفاء لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط !

قيل : الفاء على قول الأخفش زائدة . وعلى قول غيره ليست زائدة ، وإنما دخلت لأنك وصفت الشهر ب ( الذي ) ، فدخلت الفاء كما تدخل في خبر نفس ( الذي ) . ومثله { قل إن الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم } {[1010]} . فإن قيل : فأين الضمير العائد على المبتدأ من الجملة ؟ قيل : وضع الظاهر موضعه تفخيما أي : فمن شهده منكم . كذا في العكبريّ .

{ الذي أنزل فيه القرآن } أي : ابتدأ فيه إنزاله ، وكان ذلك في ليلة القدر .

قال الرازيّ : لأن مبادي الملل والدول هي التي يؤخر بها ، لكونها أشرف الأوقات ، ولأنها أيضا أوقات مضبوطة معلومة .

وقال سفيان بن عيينة : معناه : أنزل في فضله القرآن . وهذا اختيار الحسين بن الفضل ، قال : ومثله أن يقال : أنزل الله في الصديق كذا آية ، يريدون في فضله .

وقال ابن الأنباريّ : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها ، وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها ، والله أعلم .

قال الحراليّ : أشعرت الآية أن في الصوم حسن تلقٍّ لمعناه ، ويسرا لتلاوته ، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجّد الليل ، وهو صيغة مبالغة من ( القرء ) وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح . انتهى .

/ وفي مدحه بإنزاله فيه مدح للقرآن به ، من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ، ليوقف على حقيقة ما أتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة ، من أنه لا ريب فيه ، وأنه هدى ، على وجه أعم من ذلك الأول . فقال تعالى : { هدى للناس } نصب على الحال . { وبينات من الهدى والفرقان } عطف على الحال قبله . فهي حال أيضا . والظرف صفة . أي : أنزل حال كونه هداية للناس ، وآيات واضحة مرشدة إلى الحق ، فارقة بينه وبين الباطل . ولدفع سؤال التكرار في قوله { وبينات . . } إلخ بعد قوله { هدى للناس } حمل بعض المفسرين { الهدى } الأول بواسطة النكرة على الهدى الذي لا يقدر قدره المختص بالقرآن أعني هدايته بإعجازه . والثاني على الهدى الحاصل باشتماله على الواضحات من أمر الدين ، والفرقان بين الحلال والحرام والأحكام والحدود والخروج من الشبهات .

وثمّت وجه آخر نقله الرازيّ : وهو أن ( الهدى ) الثاني المراد به التوراة والإنجيل . قال تعالى : { نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } {[1011]} . فبين تعالى أن القرآن مع كونه هدى في نفسه ففيه أيضا هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان ، والله أعلم .

{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه } هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي : حضر فيه بأن كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة . ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان . ثم أعيد ذكر الرخصة بقوله تعالى : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر } لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أن الصوم حتم لا تتناوله الرخصة بوجه ، أو /تتناوله ، ولكنها مفضولة . وفيه عناية بأمر الرخصة ، وأنها محبوبة له تعالى كما ورد . وفي إطلاقه ، إشعار بصحة وقوع القضاء متتابعا وغير متتابع { يريد الله بكم اليسر } أي تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر ، وبقصر الصوم على شهر { ولا يريد بكم العسر } في جعله عزيمة على الكل ، وزيادته على شهر .

قال الحراليّ : اليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم . والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم .

قال الشعبيّ : إذا اختلف عليك أمران ، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق ، لهذه الآية .

وروى الإمام أحمد مرفوعا{[1012]} : ( إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره ) . وروى أيضا{[1013]} : ( إن دين الله في يسر ( ثلاثا ) ) .

( وفي الصحيحين ) {[1014]} : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما إلى اليمن : يسّرا ولا تعسّرا ، وبشّرا ولا تنفّرا ، وتطاوعا ولا تخالفا . )

وفي ( السنن ) و( المسانيد ) {[1015]} : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بعثت بالحنيفيّة السمحة ) . أي التي / لا إِصْرَ فيها ولا حرج . كما قال تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } {[1016]} .

{ ولتكملوا العدّة ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } . علل لفعل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره . ولهذه الأمور شرع ذلك . يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخّص له بمراعاة عدّة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص إباحة الفطر . فقوله { لتكملوا } علة الأمر بمراعاة العدة . { ولتكبّروا } . علة ما علّم من كيفية القضاء ، والخروج عن عهدة الفطر { ولعلكم تشكرون } علة الترخيص والتيسير . وهذا نوع من اللف لطيف المسلك ، لا يكاد يهتدي إلى تبيّنه إلا النقّاب المحدث من علماء البيان ! وإنما عدّى ( فعل التكبير ) بحرف الاستعلاء لكونه مضمنا معنى الحمد ، كأنه قيل : / ولتكبّروا الله حامدين على ما هداكم . ومعنى { ولعلكم تشكرون } وإرادة أن تشكروا ، ويجوز عطفها على اليسر أي : يريد بكم لتكملوا . . . إلخ ، كقوله تعالى : { يريدون ليطفئوا . . . . إلخ } {[1017]} . والمراد بالتكبير تعظيمه تعالى والثناء عليه كذا أفاده الزمخشري .

قال الحراليّ : وفي لفظ : { ولتكبّروا الله } ، إشعار لما أظهرته السنة من صلاة العيد ، وأعلن فيها بالتكبير ، وكرر مع الجهر فيها لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علنا . وجعلت في براح من متسع الأرض لمقصد التكبير ، لأن تكبير الله إنما هو بما جل من مخلوقاته . انتهى ملخصا .

وقال ابن كثير : وقوله تعالى : { ولتكبّروا الله } . أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرا } {[1018]} وقال : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } {[1019]} وقال : { وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن الليل فسبّحه وإدبار السجود } {[1020]} ولهذا جاءت السنّة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .

/ وقال ابن عباس{[1021]} : ( ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ) .

ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية . حتى ذهب داود بن عليّ الأصبهانيّ الظاهريّ إلى وجوبه في عيد الفطر ، لظاهر الأمر في قوله : { ولتكبّروا الله على ما هداكم } وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه . انتهى .

وفي ( زوائد المشكاة ) عن عبد الله بن عمر ( أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى . ثم يكبّر حتى يأتي الإمام ) . وفي رواية : رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه الدارقطنيّ . وعن نافع ( أن ابن عمر كان يغدو إلى المصلّى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبّر حتى يأتي المصلّى ، ثم يكبّر بالمصلّى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير ) . رواه الشافعيّ .

قال الحافظ ابن حجر في ( تخريج أحاديث الرافعيّ ) : حديث ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى ) ، رواه الحاكم والبيهقيّ من حديث ابن عمر من طرق مرفوعا وموقوفا ، وصحّح وقفه ، ورواه الشافعي موقوفا أيضا .

وفي ( الأوسط ) عن أبي هريرة مرفوعا : ( زينوا أعيادكم بالتكبير ) . إسناده غريب . انتهى .

وفائدة طلب الشكر في هذا الموضع ، هو أنه تعالى ، لما أمر بالتكبير ، وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبرياءه وعزّته وعظمته ، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء ، وأوصاف الواصفين ، وذكر الذاكرين . ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزّته واستغنائه عن جميع المخلوقات ، فضلا عن هذا المسكين خصّه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعيا للعبد إلى الاشتغال بشكره ، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته ، فلهذا قال : { ولعلكم تشكرون } أفاده الرازي .


[1010]:[62/ الجمعة/ 8] {... ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون 8}.
[1011]:[3/ آل عمران/ 3 و4] {... إن الذين كفروا بآيات اللّه لهم عذاب شديد واللّه عزيز ذو انتقام 4}.
[1012]:مسند الإمام أحمد، الجزء الثالث صفحة 479 (طبعة الحلبيّ) عن أعرابيّ.
[1013]:مسند الإمام أحمد، الجزء الخامس صفحة 69 (طبعة الحلبيّ) عن عروة الفقيميّ ونصه: (كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوء أو غسل، فصلّى. فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا. أيها الناس! إن دين الله عز وجل في يسر (ثلاثا يقولها)).
[1014]:أخرجه البخاريّ في: 56 – كتاب الجهاد، 164 – باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، حديث 1129. وأخرجه مسلم في: 32 – كتاب الجهاد والسير، حديث 7 (طبعتنا).
[1015]:مسند الإمام أحمد، الجزء الخامس، صفحة 266 (طبعة الحلبيّ) ونصه: عن أبي أمامة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه. قال فمر رجل بغار فيه شيء من ماء. قال فحدّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء. ويصيب ما حوله من بقل ويتخلى من الدنيا. ثم قال: لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فإن أذن لي فعلت. وإلا، لم أفعل. فأتاه فقال: يا نبي الله! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل. فحدّثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية. لكن بعثت بالحنيفية السمحة. والذي نفس محمد بيده! لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها. ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة).
[1016]:[22/ الحج/ 78] ونصها:{وجاهدوا في اللّه حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا باللّه هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير 78}.
[1017]:[61/ الصف/ 8] ونصها: {يريدون ليطفئوا نور اللّه بأفواههم واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون 8}.
[1018]:[2/ البقرة/ 200] ونصها: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق 200}.
[1019]:[62/ الجمعة/ 10] ونصها: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 10}.
[1020]:[50/ ق/ 39 و40] وأول الآيتين: {فاصبر على ما يقولون....}.
[1021]:أخرجه البخاريّ في: 10 – كتاب الأذان، 155 – باب الذكر بعد الصلاة. حديث 498 ونصه: قال ابن عباس: (كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير).