قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } . شك ونفاق ، وأصل المرض الضعف ، وسمي الشك في الدنيا مرضاً لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن .
قوله تعالى : { فزادهم الله مرضاً } . لأن الآيات كانت تنزل تترى ، آية بعد آية ، كلما كفروا بآية ازدادوا كفراً ونفاقاً وذلك معنى قوله تعالى ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) قرأ ابن عامر وحمزة فزادهم بالإمالة ، وزاد حمزة إمالة زاد حيث وقع وزاغ وخاب وطاب وحاق وضاق ، والآخرون لا يميلونها .
قوله تعالى : { ولهم عذاب أليم } . مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم .
قوله تعالى : { بما كانوا يكذبون } . ما للمصدر أي بتكذيبهم الله ورسوله في السر . قرأ الكوفيون يكذبون بالتخفيف أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين ، وإذا قيل قرأ الكسائي : قيل وغيض وجيء وحيل وسيق وسيئت بروم أوائلهن الضم ووافق أهل المدينة في : سيء وسيئت ، ووافق ابن عامر في سيق وحيل وسيء وسيئت لأن أصلها قول بضم القاف وكسر الواو ، مثل قتل وكذلك في أخواته فأشير إلى الضمة لتكون دالة على الواو المنقلبة وقرأ الباقون يكسر أوائلهن ، استثقلوا الحركة على الواو فنقلوا كسرتها إلى فاء الفعل وانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها .
ثم بين - سبحانه - العلة في خداعهم لله وللمؤمنين فقال : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } .
والمرض : العلة في البدن ونقيضه الصحة ، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء فيخل بكمال نفسه ، كسوء العقيدة والحسد ، والبغضاء والنفاق ، وهو المراد هنا .
وسمي ما هم فيه من نفاق وكفر مرضا ، لكونه مانعا لهم من إدراك الفضائل . كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل .
وجعل القرآن قلوبهم ظرفا للمرض ، للإٍشعار بأنه تمكن منها تمكناً شديداً كما يتمكن الظرف من المظروف فيه .
ثم أخبر- سبحانه- بأنهم بسبب سوء أعمالهم قد زادهم الله ضلالا وخسراً فقال : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } . لأنهم استمروا في نفاقهم وشكهم ، ومن سنة الله أن المريض إذا لم يعالج مرضه زاد لا محالة مرضه ، إذ المرض ينشئ المرض ، والانحراف يبدأ يسيراً ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين قد زادهم رجساً على رجسهم ، ومرضا على مرضهم ، وحسدا على حسدهم ، لأنهم عموا وصموا عن الحق ، ولأنهم كانوا يحزنون لأي نعمة تنزل بالمؤمنين . كما قال - تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } .
{ أَلِيمٌ } أي : مؤلم وموجع وجعاً شديدا . من ألم - كفرح - فهو ألم ، وآلمه يؤلمه إيلاما ، أي : أوجعه إيجاعاً شديدا .
والكذب : الإِخبار عن الشيء بخلاف الواقع . ولقد كان المنافقون كاذبين في قولهم " آمنا بالله وباليوم الآخر " وهم غير مؤمنين ، وجعلت الآية الكريمة العذاب الأليم مرتبا على كذبهم مع أنهم كفرة ، والكفر أكبر معصية من الكذب ، للإشعار بقبح الكذب ، وللتنفير منه بأبلغ وجه ، فهؤلاء المنافقون قد جمعوا الخستين ، الكفر الذي توعد الله مرتكبه بالعذاب العظيم ، والكذب الذي توعد الله مقترفة بالعقاب الأليم .
وعبر بقوله : { كَانُوا يَكْذِبُون } لإفادة تجدد الكذب وحدوثه منهم حيناً بعد حين ، وأن هذه الصفة هي أخص صفاتهم ، وأبرز جرائمهم .
ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة ؟ ولماذا يخادعون هذا الخداع
في طبيعتهم آفة . في قلوبهم علة . وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم . ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه :
فالمرض ينشىء المرض ، والانحراف يبدأ يسيرا ، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . سنة لا تتخلف . سنة الله في الأشياء والأوضاع ، وفي المشاعر والسلوك . فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم . المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين :
قال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : شَكٌّ ، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : شكًّا .
وقال [ محمد ]{[1266]} بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ في قوله{[1267]} { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : شك .
وكذلك قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وأبو العالية ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة .
وعن عكرمة ، وطاوس : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } يعني : الرياء .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : نفاق { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : نفاقا ، وهذا كالأول .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : هذا مرض في الدين ، وليس مرضًا في الأجساد ، وهم المنافقون . والمرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : زادهم رجسًا ، وقرأ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 ، 125 ] قال : شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم .
وهذا الذي قاله عبد الرحمن ، رحمه الله ، حسن ، وهو الجزاء من جنس العمل ، وكذلك قاله الأولون ، وهو نظير قوله تعالى أيضًا : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
وقوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وقرئ : " يكذّبون " ، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا ، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا . وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه ، عليه السلام ، عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم ، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين : أنه قال لعمر : " أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه " {[1268]} ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم ، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر ، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون : إن محمدًا يقتل أصحابه ، قال القرطبي : وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم . قال ابن عطية : وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون . ومنها : ما قال مالك ، رحمه الله : إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه .
قال القرطبي : وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ، وإن اختلفوا في سائر الأحكام ، قال : ومنها ما قال الشافعي : إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم ؛ لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله . ويؤيد هذا قوله ، عليه الصلاة والسلام ، في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، عز وجل »{[1269]} . ومعنى هذا : أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرًا ، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة ، وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا ، وكونه كان خليط أهل الإيمان { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } الآية [ الحديد : 14 ] ، فهم يخالطونهم في بعض المحشر ، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث ، ومنها ما قاله بعضهم : أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده ، عليه السلام ، بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات ، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون ، قال مالك : المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم .
قلت : وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا . أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه ؟ على أقوال موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام .
( تنبيه ) قول من قال : كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك ؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة . ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم .
فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } الآية ، وقال تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا } ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات [ صلى عليه ] صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين ، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال : " إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه " وفي رواية في الصحيح «إني خيرت فاخترت » وفي رواية «لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت » .
{ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
وأصل المرض : السقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا . وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ :
وَسَبّحَتِ المَدِينَةُ لا تَلُمْها *** رأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهارا
يريد وسبح أهل المدينة . فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسيّ :
هَلاّ سألْتِ الخَيْلَ يا ابنْةَ مالِكِ *** إنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : يا خيل الله اركبي ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا .
والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه . فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : في قُلُوبِهمْ مَرَضٌ إنما يعني في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم . والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم في أمر محمد ، وما جاء به من عند الله وتحيرهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما يقال : فلان يمرض في هذا الأمر ، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه . وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك تظاهر القول في تفسيره من المفسرين ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شكّ .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول : في قلوبهم شك .
حدثني يونس بن عبد الأعلَى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : في قُلُوبِهِمْ مَرَض قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد . قال : هم المنافقون .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة في قوله : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : هؤلاء أهل النفاق ، والمرض الذي في قلوبهم الشكّ في أمر الله تعالى ذكره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ حتى بلغ : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا .
قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين : هو الشكّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم عليه في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته وما جاء به مقيمون .
فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم هو نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين من الشك والحيرة إذْ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك ، كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كافِرُونَ } فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم هو ما وصفنا ، والزيادة التي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم هو ما بينا ، وذلك هو التأويل المجمع عليه . ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت . عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال : شكّا .
حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول : فزادهم الله ريبة وشكا .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال : زادهم رجسا . وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ } قال : شرّا إلى شرّهم ، وضلالة إلى ضلالتهم .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال زادهم الله شكا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع ، ومعناه : ولهم عذاب مؤلم ، فصرف «مؤلم » إلى «أليم » ، كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع ، والله بديع السموات والأرض بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيع *** يُؤَرّقُنِي وأصْحابي هُجُوعُ
بمعنى المُسْمِع . ومنه قول ذي الرمة :
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُور شَمَرْدلات ٍ يصُدّ وُجُوهَها وَهَجٌ ألِيمُ
ويروى «يصك » ، وإنما الأليم صفة للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوجع . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع ، قال : الأليم : الموجع .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الأليم ، الموجع .
وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله ألِيمٌ قال : هو العذاب الموجع ، وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
القول في تأويل قوله تعالى : بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ .
اختلفت القراءة في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : بِمَا كانُوا يَكْذِبُونَ مخففة الذال مفتوحة الياء ، وهي قراءة معظم أهل الكوفة . وقرأه آخرون : يُكَذّبُونَ بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة معظم أهل المدينة والحجاز والبصرة . وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الياء رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا وذلك أن الله عزّ وجلّ أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعا لله عزّ وجلّ ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبِاليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا } بذلك من قيلهم مع استسرارهم الشك والريبة ، وما يخدعون بصنيعهم ذلك إلا أنفسهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وما يشعرون بموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عزّ وجل إياهم بإملائه لهم في قلوبهم شك أي نفاق وريبة ، والله زائدهم شكّا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم : آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وهم في قيلهم ذلك كَذَبة لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم . في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأولى في حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يجز له ذكر من أفعالهم إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل . وهو أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم ، ويفتتح ذكر مساوىء أفعال آخرين ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم . فكذلك الصحيح من القول في الاَيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوىء أفعال المنافقين أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم ، فهذا مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأن الصواب من التأويل ما تأوّلنا من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : { إذَا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّكَ لَرَسُولُهُ واللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتّخَذُوا أيمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } والآية الأخرى في المجادلة : { اتّخَذوُا أيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } فأخبر جلّ ثناؤه أن المنافقين بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون ، كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : وَلهُمْ عَذَابٌ أليِمٌ بِمَا كانُوا يُكذَبّوُنَ لكانت القراءة في السورة الأخرى : { والله يشهد إن المنافقين لمكذّبون } ، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب ، لا على الكذب .
وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافَقِينَ لَكاذِبُونَ بمعنى الكذب ، وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم ، أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : بما كَانُوا يَكْذِبُون بمعنى الكذب ، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب حق ، لا على التكذيب الذي لم يجز له ذكر نظير الذي في سورة المنافقين سواء .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «ما » من قول الله تبارك اسمه : بِمَا كانُوا يَكُذِبُون اسم للمصدر ، كما أن أن والفعل اسمان للمصدر في قولك : أحبّ أن تأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل «كان » ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله . فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه ، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ويقول : إنما ألغيت «كان » في التعجب لأن الفعل قد تقدمها ، فكأنه قال : «حسنا كان زيد » ، «وحسن كان زيد » يبطل «كان » ، ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء إذا جاءت قبل «كان » ووقعت «كان » بينها وبين الأسماء .
وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال فشبه الصفات والأسماء بفعل ويفعل اللتين لا يظهر عمل كان فيهما ، ألا ترى أنك تقول : «يقوم كان زيد » ، ولا يظهر عمل «كان » في «يقوم » ، وكذلك «قام كان زيد » . فلذلك أبطل عملها مع فاعل تمثيلاً بفعل ويفعل ، وأعملت مع فاعل أحيانا لأنه اسم كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت «كان » الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها ، فخطأ عنده أن تكون «كان » مبطلة فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه ، وتأوّل قوله الله عزّ وجل : بِمَا كانُوا يَكذْبِوُنَ أنه بمعنى : الذي يكذبونه .
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
المرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائد هؤلاء المنافقين وذلك إما أن يكون شكاً ، وإما جحداً بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يجحدون ، وبنحو هذا فسر المتأولون .
وقال قوم : «المرض غمهم بظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
وقرأ الأصمعي عن أبي عمر : «مرْض » بسكون الراء وهي لغة في المصدر قال أبو الفتح : «وليس بتخفيف » .
واختلف المتأولون في معنى قوله { فزادهم الله مرضاً } فقيل هو دعاء عليهم( {[231]} ) ، وقيل هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك ، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي ويظهر من البراهين ، فهي على هؤلاء المنافقين عمى وكلما كذبوا زاد المرض .
وقرأ حمزة : «فزادهم » بكسر الزاي( {[232]} ) ، وكذلك ابن عامر . وكان نافع يشم الزاي إلى الكسر ، وفتح الباقون . و { أليم } معناه مؤلم كما قال الشاعر وهو عمرو بن معدي كرب : [ الوافر ] .
أمن ريحانة الداعي السميع . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بمعنى : مسمع . ( {[233]} )
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يُكذِّبون » بضم الياء وتشديد الذال .
وقرأ الباقون بفتح الياء وتخفيف الذال . فالقراءة بالتثقيل يؤيدها قوله تعالى قبل { وما هم بمؤمنين } فهذا إخبار بأنهم يكذبون . والقراءة بالتخفيف يؤيدها أن سياق الآيات إنما هي إخبار بكذبهم( {[234]} ) ، والتوعد بالعذاب الأليم ، متوجه على التكذيب ، وعلى الكذب في مثل هذه النازلة ، إذ هو منطوٍ على الكفر ، وقراءة التثقيل أرجح .