" في قلوبهم مرض " الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى : { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] . والمشهور تحريك الراء من " مرض " .
وَرَوَى الأصمعي{[657]} عن أبي عمرو سكونها ، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ .
وقيل : صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفْعال الصادرة عن الفاعل ، ويطلق على الظلمة ؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ *** فَما يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ{[658]}
أي : لظلمتها ، ويجوز أن يكون أراد ب " مَرِضَتْ " فَسَدْت ، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمة .
قوله : { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } .
هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها ، متسبّبة عنها ، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم ، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى .
و " زاد " يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول ك " أَعْطَى وكَسَا " ، فيجوز حذف مفعوليه ، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً ، تقول : " زاد المال " فهذا لازم ، و " زدت زيداً أجراً " ومنه :
{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] و " زدت زيداً " ولا تذكر ما زدته ، و " زدت مالاً " ولا تذكر من زدته .
وألف " زاد " منقلبة عن ياء ؛ لقولهم : " يزيد " .
وقرأ ابن عامر وحمزة{[659]} : " فزادهم " بالإمالة .
وزاد حمزة إمالة " زاد " حيث وقع ، و{ زَاغَ } [ النجم : 17 ] { وَخَابَ }
[ إبراهيم : 15 ] ، و{ طَابَ } [ النساء : 13 ] ، و " حَاقَ " [ الأنعام : 10 ] ، والآخرون لا يميلونها .
ورد لفظ " المرض " على أربعة أوجه :
الثاني : الزِّنَا قال تعالى : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
الثالث : الحَرَجُ قال تعالى : { أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } [ النساء : 102 ] .
قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظيره قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }
[ البقرة : 7 ] وقد تقدّم . و " أليم " هنا بمعنى : مُؤْلِم ، كقوله : [ الوافر ]
ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ *** يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ{[660]}
ويجمع على " فُعَلاَء " ك : " شريف وشرفاء " ، و " أفْعَال " مثل : " شريف وأشراف " ، ويجوز أن يكون " فعيل " : هُنَا للمُبَالغة محولاً من " فَعِل " بكسر العَيْنِ ، وعلى هذا تكون نسبة الألم إلى العَذَابِ مجازاً ، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب ، فهو نظير قولهم : " شِعْرٌ شَاعِر " .
و{ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } متعلّق بالاستقرار المقدر في " لهم " ، أي : استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم .
و " ما " يجوز أن تكون مصدرية ، أي : بكونهم يكذبون ، وهذا على القول بأن ل " كان " مصدراً ، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر : [ الطويل ]
بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى *** وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ{[661]}
فقد صَرّح بالكون ، ولا جائز أن يكون مصدر " كان " التَّامة لنصبه الخبر بعدها ، وهو " إياه " على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه .
وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها ، لا تقول : " كان زيد قائماً كوناً " ، قالوا : لأن الخبر كالعوض من المصدر ، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه ، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على " ما " ؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح ، خلافاً للأخفش وابن السّراجِ في جعل المصدرية اسماً .
ويجوز أن تكون " ما " بمعنى " الذي " ، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي : بالذي كانوا يكذبونه ، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط ، وهو كونه منصوباً متصلاً بفعل ، وليس ثمَّ عائد آخر .
وزعم أبو البَقَاءِ أن كون " ما " موصولةً اسميةً هو الأظهر ، قال : لأنّ الهاء المقدرة عائدة على " الَّذِي " لا على المصدر . وهذا الَّذِي قاله غير لازم ، إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل " ما " اسمية ، بل من قرأ { يَكْذِبُونَ } مخففاً فهو عنده غير متعدٍّ لمفعول ، ومن قرأه مشدداً فالمفعول محذوف لفهم المعنى أي : بما كانوا يكذبون الرَّسول والقرآن ، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف ، وقرأ الكوفيون{[662]} : { يَكْذِبُونَ } بالفتح والتَّخفيف ، والباقون بالضَّم والتشديد .
و " يكذّبون " مضارع " كذَّب " بالتشديد ، وله معانٍ كثيرة : الرَّمي بكذا ، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو : " فَرَّحْتُ زيداً " .
والتكثير نحو : " قَطَّعْتُ الأثواب " .
والجعل على صفة نحو : " قَطَّرْتُه " أي : جعلته مقطراً ؛ ومنه : [ السريع ]
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا *** مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا{[663]}
والتسمية نحو : " فَسَّقْتُهُ " أي : سميته فاسقاً
والدعاء له نحو : " سَقَّيْتُهُ " أي قلت له : " سَقَاكَ الله " .
أو الدعاء عليه نحو : " عَقَّرتُه " أي قلت : عَقْراً لك .
والإقامة على الشيء نحو : " مَرَّضتُه " والإزالة نحو : " قَذَّيْتُ عينه " أي : أزلت قَذَاها .
والتوجّه نحو : " شَرَّقَ وغَرَّبَ " ، أي : توجّه نحو الشرق والغرب .
واختصار الحكاية نحو : " أمَّنَ " قال : آمين .
وموافقة " تَفَعَّلَ " و " فَعَلَ " مخففاً نحو : وَلَّى بمعنى تولّى ، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر ، والإغناء عن " تَفَعَّلَ " و " فَعَلَ " مخففاً نحو " حَمَّرَ " أي تكلم بلغة " حمير " ، قالوا : " مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال " هو بمعنى عَرَدَ مخففاً ، وإن لم يلفظ به .
و " الكذب " اختلف النَّاس فيه ، فقائل : هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً ، وقيل : بغير ما هو عليه في الخارج ، سواء وافق اعتقاد المتكلّم أم لا .
وقيل : الإخبار عنه بغير اعتقاد المتكلّم سواء وافق ما في الخارج أم لا ، والصّدق نقيضه .
قال المفسرون : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شكّ ونفاق { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } ؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً ، وذلك معنى قوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] والسورة لم تفعل ذلك ، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك ، وهو كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا ، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده ، وقال : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] .
قالت المعتزلة : لو كان المراد من المرض - هاهنا - الكفر والجَهْل لكان قوله : { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ ، فيلزم أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجهل .
قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه :
أحدها : أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن ، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا فعل الله الكفر فينا ، فكيف تأمرنا بالإيمان ؟
وثانيها : أنه - تعالى - ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم .
وثالثها : قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم ، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم ؟
ورابعها : أنه - تعالى - أضافه إليهم بقوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } وبأنهم يفسدون في الأرض ، وأنهم هم السّفهاء ، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطينهم قالوا : إنا معكم ، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : يحمل المرض على الغَمّ ، لأنه يقال : مرض قلبي من أمر كذا ، والمعنى : أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام - ، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً ، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم ، كما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - مَرَّ بعبد الله بن أُبَيّ على حِمَارٍ ، فقال له : نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيْحُهُ ، فقال له بعض الأنصار ، اعْذُرْهُ يا رسول الله ، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِّجَهُ الرياسةَ قبل أن تقدم علينا{[664]} ، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال : { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } أي : زادهم غمًّا على غَمِّهِمْ .
وثانيها : المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم .
الثالث : أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون : جاريةٌ مريضةُ الطرف .
إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا مَرَضٌ *** قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا{[665]}
فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية ؛ لأن قلوبهم كانت قويةً على المُحَاربة ، والمُنَازعة ، والمخاصمة ، ثم انكسرت شوكتهم ، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف ، والانكسار ، فقال تعالى : { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } أي : زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف ، وحقق الله ذلك بقوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [ الأحزاب : 26 ] .
الرابع : أن يحمل المرض على أَلَم القلب ؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاَجِهِ ، وتألُّم قلبه ، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته ، فكان أولى .
وقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم ، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً .
فأما ما يروى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أنه كذب ثلاث كذبات{[666]} ، فالمراد التعريض ، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي به .
والمراد بكذبهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين .