{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } ، المرض : مصدر مرض ، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور ، ومنه قيل : فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه .
وقال ابن عرفة : المرض في القلب : الفتور عن الحق ، وفي البدن : فتور الأعضاء ، وفي العين : فتور النظر ، ويطلق ويراد به الظلمة ، قال :
في ليلة مرضت من كل ناحية *** فما يحس به نجم ولا قمر
وقيل : المرض : الفساد ، وقال أهل اللغة : المرض والألم والوجع نظائر .
الزيادة : قبلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى ، وقد تستعمل لازماً نحو : زاد المال .
أليم : فعيل من الألم بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، أو للمبالغة وأصله ألم .
كان : فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو ، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط ، أو عليه وعلى الصيرورة ، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلاً لازماً وتارة متعدياً ، بمعنى كفل أو غزل : كنت الصبي كفلت ، وكنت الصوف غزلته ، وهذا من غريب اللغات ، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافاً لأبي سعيد ، وأحكامها مستوفاة في النحو .
التكذيب : مصدر كذب ، والتضعيف فيه للرمي به كقولك : شجعته وجبنته ، أي رميته بالشجاعة والجبن ، وهي أحد المعاني التي جاءت لها فعل وهي أربعة عشرة : الرمي ، والتعدية ، والتكثير ، والجعل على صفة ، والتسمية ، والدعاء للشيء أو عليه ، والقيام على الشيء ، والإزالة ، والتوجه ، واختصار الحكاية ، وموافقة تفعل وفعل ، والإغناء عنهما ، مثل ذلك : جبنته ، وفرحته ، وكثرته ، وفطرته ، وفسقته ، وسقيته ، وعقرته ، ومرضته ، وقذيت عينه ، وشوق ، وأمن ، قال : آمين ، وولى : موافق تولى ، وقدر : موافق قدر ، وحمر : تكلم بلغة حمير ، وعرد في القتال .
وأما الكذب فسيأتي الكلام عليه .
والقراء على فتح راء مرض في الموضعين إلا الأصمعي ، عن أبي عمرو ، فإنه قرأ بالسكون فيهما ، وهما لغتان كالحلب والحلب ، والقياس الفتح ، ولهذا قرأ به الجمهور ، ويحتمل أن يراد بالمرض الحقيقة ، وأن المرض الذي هو الفساد أو الظلمة أو الضعف أو الألم كائن في قلوبهم حقيقة ، وسبب إيجاده في قلوبهم هو ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وفشو الإسلام ونصر أهله .
ويحتمل أن يراد به المجاز ، فيكون قد كنى به عما حل القلب من الشك ، قاله ابن عباس ، أو عن الحسد والغل ، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول ، أو عن الضعف والخور لما رأوا من نصر دين الله وإظهاره على سائر الأديان ، وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها ، أو كان الحمام عاجلهم ، قال : بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي ، أما الحديث ، فقوله صلى الله عليه وسلم : « إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه ، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه ، ألا وهي القلب »
وأما القانون الطبي ، فإن الحكماء وصفو القلب على ما اقتضاه علم التشريح ، ثم قالوا : إذا حصلت فيه مادة غليظة ، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه ، وربما تأخرت تأخيراً يسيراً ، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه ، أخرت الحياة مدة يسيرة ؟ وقالوا : لا سبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب ، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة .
وقد تلخص في القرآن من المعاني السببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضاً ، وهي : الرين ، والزيغ ، والطبع ، والصرف ، والضيق ، والحرج ، والختم ، والإقفال ، والإشراب ، والرعب ، والقساوة ، والإصرار ، وعدم التطهير ، والنفور ، والاشمئزاز ، والإنكار ، والشكوك ، والعمى ، والإبعاد بصيغة اللعن ، والتأبى ، والحمية ، والبغضاء ، والغفلة ، والغمزة ، واللهو ، والارتياب ، والنفاق .
وظاهر آيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معان تحصل في القلب فتغلب عليه ، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقد والحسد ، ذكرها الله تعالى مضافة إلى جملة الكفار .
والزيادة تجاوز المقدار المعلوم ، وعلم الله محيط بما أضمروه ومن سوء الاعتقاد والبغض والمخادعة ، فهو معلوم عنده ، كما قال تعالى : { وكل شيء عنده بمقدار } وفي كل وقت يقذف في قلوبهم من ذلك القدر المعلوم شيئاً معلوم المقدار عنده ، ثم يقذف بعد ذلك شيئاً آخر ، فيصير الثاني زيادة على الأول ، إذ لو لم يكن الأول معلوم المقدار لما تحققت الزيادة ، وعلى هذا المعنى يحمل : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } وزيادة المرض إما من حيث أن ظلمات كفرهم تحل في قلوبهم شيئاً فشيئاً ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : { ظلمات بعضها فوق بعض } أو من حيث أن المرض حصل في قلوبهم بطريق الحسد أو الهم ، بما يجدد الله سبحانه لدينه من علو الكلمة ولرسوله وللمؤمنين من النصر ونفاذ الأمر ، أو لما يحصل في قلوبهم من الرعب ، وإسناد الزيادة إلى الله تعالى إسناد حقيقي بخلاف الإسناد في قوله تعالى :
{ فزادتهم رجساً إلى رجسهم } { أيكم زادته هذه إيماناً }
وقالت المعتزلة : لا يجوز أن تكون زيادة المرض من جنس المزيد عليه ، إذ المزيد عليه هو الكفر ، فتأولوا ذلك على أن يحمل المرض على الغم لأنهم كانوا يغتمون بعلو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو على منع زيادة الألطاف ، أو على ألم القلب ، أو على فتور النية في المحاربة لأنهم كانت أولاً قلوبهم قوية على ذلك ، أو على أن كفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكليف من الله تعالى .
وهذه التأويلات كلها إنما تكون إذا كان قوله : { فزادهم الله مرضاً } خبراً ، وأما إذا كان دعاء فلا ، بل يحتمل أن يكون الدعاء حقيقة فيكون دعاء بوقوع زيادة المرض ، أو مجازاً فلا تقصد به الإجابة لكون المدعو به واقعاً ، بل المراد به السب واللعن والنقص ، كقوله تعالى : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } وكقوله : لعن الله إبليس وأخزاه ، ومعلوم أن ذلك قد وقع ، وأنه قد باء بخزي ولعن لا مزيد عليه لأنه لا انتهاء له ، وتنكير مرض من قوله : { في قلوبهم مرض } لا يدل على أن جميع أجناس المرض في قلوبهم ، كما زعم بعض المفسرين ، لأن دلالة النكرة على ما وضعت له إنما هي دلالة على طريقة البدل ، لأنها دلالة تنتظم كل فرد فرد على جهة العموم ، ولم يحتج إلى جمع مرض لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلاً ، فاكتفى بالمفرد عن الجمع ، وتعدية الزيادة إليهم لا إلى القلوب ، إذ قال تعالى : { فزادهم } ، ولم يقل : فزادها ، يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً ، والثاني : أنه زاد ذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد ، فصح نسبة الزيادة إلى الذوات ، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهم مرضاً ، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل .
وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا فعلاً واحداً ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين ، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين ، وقد جمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة ، بعقد اللآلي في القراءآت السبع العوالي ، وهما :
وعشرة أفعال تمال لحمزة *** فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معاً *** وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
يعني أنه قد استثنى حمزة ، { وإذ زاغت الأبصار } في سورة الأحزاب ، { وإذ زاغت عنهم الأبصار } في سورة ص ، فلم يملها .
ووافق ابن ذكوان حمزة على إمالة جاء وشاء في جميع القرآن ، وعلى زاد في أول البقرة ، وعنه خلاف في زاد هذه في سائر القرآن ، وبالوجهين قرأته له ، والإمالة لتميم ، والتفخيم للحجاز .
فإذا قلنا إنه للمبالغة فيكون محوّلاً من فعل لها ونسبته إلى العذاب مجاز ، لأن العذاب لا يألم ، إنما يألم صاحبه ، فصار نظير قولهم : شعر شاعر ، والشعر لا يشعر إنما الشاعر ناظمه .
وإذا قلنا إنه بمعنى : مؤلم ، كما قال عمرو بن معدي كرب :
أي المسمع ، وفعيل : بمعنى مفعل مجاز ، لأن قياس أفعل مفعل ، فالأول مجاز في التركيب ، وهذا مجاز في الإفراد .
وقد حصل للمنافقين مجموع العذابين : العذاب العظيم المذكور في الآية ، قيل لانخراطهم معهم ولانتظامهم فيهم .
ألا ترى أن الله تعالى في تلك الآية قد أخبر أنهم لا يؤمنون في قوله : لا يؤمنون ، وأخبر بذلك في هذه الآية بقوله : وما هم بمؤمنين ؟ والعذاب الأليم ، فصار المنافقون أشد عذاباً من غيرهم من الكفار ، بالنص على حصول العذابين المذكورين لهم ، ولذلك قال تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } ثم ذكر تعالى أن كينونة العذاب الأليم لهؤلاء سببها كذبهم وتكذيبهم وما منسوية أي بكونهم يكذبون ، ولا ضمير يعود عليها لأنها حرف ، خلافاً لأبي الحسن .
ومن زعم أن كان الناقصة لا مصدر لها ، فمذهبه مردود ، وهو مذهب أبي علي الفارسي .
وقد كثر في كتاب سيبويه المجيء بمصدر كان الناقصة ، والأصح أنه لا يلفظ به معها ، فلا يقال : كان زيد قائماً كوناً ، ومن أجاز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، فالعائد عنده محذوف تقديره يكذبونه أو يكذبونه .
وزعم أبو البقاء أن كون ما موصولة أظهر ، قال : لأن الهاء المقدرة عائدة إلى الذي دون المصدر ، ولا يلزم أن يكون ، ثم هاء مقدرة ، بل من قرأ : يكذبون ، بالتخفيف ، وهم الكوفيون ، فالفعل غير متعد ، ومن قرأ بالتشديد ، وهم الحرميان ، والعربيان ، فالمفعول محذوف لفهم المعنى تقديره فكونهم يكذبون الله في أخباره والرسول فيما جاء به ، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف على جهة المبالغة ، كما قالوا في : صدق صدق ، وفي : بان الشيء بين ، وفي : قلص الثوب قلص .
والكذب له محامل في لسان العرب : أحدها : الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه ، وعمرو بن بحر يزيد في ذلك أن يكون المخبر عالماً بالمخالفة ، وهي مسألة تكلموا عليها في أصول الفقه .
الثاني : الإخبار بالذي يشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق ، قالوا : ومنه ما ورد في الحديث عن إبراهيم صلوات الله عليه وعلى نبينا .
الثالث : الخطأ ، كقول عبادة فيمن زعم : أن الوتر واجب ، كذب أبو محمد أي أخطأ .
الرابع : البطول ، كقولهم : كذب الرجل ، أي بطل عليه أمله وما رجا وقدر .
الخامس : الإغراء بلزوم المخاطب الشيء المذكور ، كقولهم : كذب عليك العسل ، أي أكل العسل ، والمغرى به مرفوع بكذب ، وقالوا : لا يجوز نصبه إلا في حرف شاذ ، ورواه القاسم بن سلام عن معمر بن المثنى ، والمؤثم هو الأول .
وقد اختلف الناس في الكذب فقال قوم : الكذب كله قبيح لا خير فيه ، وقالوا : سئل مالك عن الرجل يكذب لزوجته ولابنه تطييباً للقلب فقال : لا خير فيه .
وقال قوم : الكذب محرم ومباح ، فالمحرم الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن في مراعاته مصلحة شرعية ، والمباح ما كان فيه ذلك ، كالكذب لإصلاح ذات البين .
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات خلافاً ، قال قوم : نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كعبد الله بن أبي بن سلول ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس ، حين قالوا : تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونتمسك مع ذلك بديننا ، فأظهروا الإيمان باللسان واعتقدوا خلافه .
ورواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وقال قوم : نزلت في منافقي أهل الكتاب وغيرهم ، رواه السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، وقتادة ، وابن زيد .