الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (10)

واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازاً ، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول : في جوفه مرض . والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب ، كسوء الاعتقاد ، والغل ، والحسد والميل إلى المعاصي ، والعزم عليها ، واستشعار الهوى ، والجبن ، والضعف ، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك . والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر ، أو من الغل والحسد والبغضاء ، لأن صدورهم كانت تغلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقاً ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله : { قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } [ آل عمران : 118 ] ويتحرقون عليهم حسداً { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] وناهيك مما كان من ابن أبيّ وقول سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك » . أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور ، لأن قلوبهم كانت قوية ، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به : أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تسكن ولواءه يخفق أياماً ثم يقرّ ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله . وإما لجراءتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبناً وخوراً حين قذف الله في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله لهم بالملائكة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" نصرت بالرعب مسيرة شهر " ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم ، فكأن الله هو الذي زادهم ما ازدادوه إسناداً للفعل إلى المسبب له ، كما أسنده إلى السورة في قوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] لكونها سبباً . أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً في البلاد ونقصاً من أطراف الأرض ازدادوا حسداً وغلا وبغضاً وازدادت قلوبهم ضعفاً وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبناً وخوراً . ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع . وقرأ أبو عمر في رواية الأصمعي : مرْض ، ومرْضاً ، بسكون الراء .

يقال : ألم فهو { أَلِيمٌ } كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله :

تحِيَّةُ بَيْنَهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ***

وهذا على طريقة قولهم : جدّ جدّه . والألم في الحقيقة للمؤلم كما أنّ الجدّ للجادّ .

والمراد بكذبهم قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر . وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته ، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم . ونحوه قوله تعالى : { مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 71 ] والقوم كفرة . وإنما خصت الخطيآت استعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها . والكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله . وأمَّا مَاً يروى عن إبراهيم عليه السلام .

«أنه كذب ثلاث كذبات » . فالمراد التعريض . ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به . وعن أبي بكر رضي الله عنه وروى مرفوعاً :

" إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان " وقرىء ؛ «يكذبون » ، من كذبه الذي هو نقيض صدقه ؛ أو من كذّب الذي هو مبالغة في كذب ، كما بولغ في صدق فقيل : صدّق . ونظيرهما : بان الشيء وبين ، وقلص الثوب وقلص . أو بمعنى الكثرة كقولهم : موتت البهائم ، وبركت الإبل ، أو من قولهم : كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه ؛ لأن المنافق متوقف متردّد في أمره ، ولذلك قيل له مذبذب . وقال عليه السلام : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة " .