قوله تعالى : { له دعوة الحق } ، أي : لله دعوة الصدق . قال علي رضي الله عنه : دعوة الحق التوحيد . وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : الدعاء بالإخلاص ، والدعاء الخالص لا يكون إلا لله عز وجل . { والذين يدعون من دونه } ، أي : يعبدون الأصنام من دون الله تعالى . { لا يستجيبون لهم بشيء } ، أي : لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضر ، { إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه } ، أي : إلا كباسط كفيه ليقبض على الماء والقابض على الماء لا يكون في يده شيء ، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء ، كذلك الذي يدعو الأصنام ، وهي لا تضر ولا تنفع ، لا يكون بيده شيء . وقيل : معناه كالرجل العطشان الذي يرى الماء من بعيد ، فهو يشير بكفه إلى الماء ، ويدعوه بلسانه ، فلا يأتيه أبدا ، هذا معنى قول مجاهد . ومثله عن علي وعطاء : كالعطشان الجالس على شفير البئر ، يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر إلى الماء ، ولا يرتفع إليه الماء ، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء ودعاؤه له ، ولا هو يبلغ فاه كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤهم ، وهي لا تقدر على شيء . وعن ابن عباس : كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء ، ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه . وهو مثل ضربه لخيبة الكفار . { وما دعاء الكافرين } ، أصنامهم ، { إلا في ضلال } ، يضل عنهم إذا احتاجوا إليه ، كما قال : { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ الأنعام-24 وغيرها ] . وقال الضحاك عن ابن عباس : وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى .
ثم بين - سبحانه - أن دعوته هي الدعوة الحق ، وما عداها فهو باطل ضائع فقال : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } أى : له وحده - سبحانه - الدعوة الحق المطابقة للواقع ، لأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، وهو الحقيق بالعبادة والالتجاء .
فإضافة الدعوة إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته ، وفى هذه الإِضافة إيذان بملابستها للحق ، واختصاصها به ، وأنها بمعزل عن الباطل .
ومعنى كونها له : أنه - سبحانه - شرعها وأمر بها .
قال الشوكانى : قوله : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة . أى : الدعوة الملابسة للحق ، المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه .
وقيل : الحق هو الله - تعالى - والمعنى : أنه لله - تعالى - دعوة المدعو الحق وهو الذي يسمع فيجيب .
وقيل : المراد بدعوة الحق ها هنا كلمة التوحيد والإِخلاص والمعنى : لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له العبادة .
وقيل : دعوة الحق ، دعاؤه - سبحانه - عند الخوف ، فإنه لا يدعوى فيه سواه ، كما قال - تعالى - { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } وقيل : الدعوة الحق ، أى العبادة الحق فإن عبادة الله هي الحق والصدق .
ثم بين - سبحانه - حال - من يعبد غيره فقال : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } .
والمراد بالموصول { والذين } الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله .
والضمير في يدعون ، للمشركين ، ورابط الصلة ضمير نصب محذوف أى : يدعونهم .
والمعنى : لله - تعالى - العبادة الحق ، والتضرع الحق النافع ، أما الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون من غير الله . فإنها لا تجيبهم إلى شئ يطلبونه منها ، إلا كإجابة الماء لشخص بسط كفيه إليه من بعيد ، طالبا منه أن يبلغ فمه وما الماء ببالغ فم هذا الشخص الأحمق ، لأن الماء لا يحس ولا يسمع نداء من يناديه .
والمقصود من الجملة الكريمة نفى استجابة الأصنام لما يطلبه المشركون منها نفيا قاطعا ، حيث شبه - سبحانه - حال هذه الآلهة الباطلة عندما يطلب المشركون منها ما هم في حاجة إليه ، بحال إنسان عطشان ولكنه غبى أحمق لأنه يمد يده إلى الماء طالبا منه أن يصل إلى فمه دون أن يتحرك هو إليه . فلا يصل إليه شئ من الماء لأن الماء لا يسمع نداء من يناديه .
ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بليغ لخيبة وجهالة من يتوجه بالعبادة والدعاء لغير الله - تعالى - .
وأجرى - سبحانه - على الأصنام ضمير العقلاء في قوله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ } مجاراة للاستعمال الشائع عند المشركين ، لأنهم يعاملون الأصنام معاملة العقلاء .
ونكر شيئا في قوله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } للتحقير . والمراد أنهم لا يستجيبون لهم أية استجابة حتى ولو كانت شيئا تافها .
والاستثناء في قوله { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء . . . } من أعم الأحوال .
أى : لا يستجيب الأصنام لمن طلب منها شيئا ، إلا استجابة كاستجابة الماء لملهوف بسط كفيه إليه يطلب منه أن يدخل فمه ، والماء لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب طلبه ولو مكث على ذلك طوال حياته .
والضمير " هو " في قوله { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } للماء ، والهاء في " ببالغه " للفم : أى : وما الماء ببالغ فم هذا الباسط لكفيه .
وقيل الضمير " هو " للباسط ، والهاء للماء ، أى : وما الباسط لكفيه ببالغ الماء فمه .
قال القرطبى : " وفى معنى هذا المثل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه ، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا لأن الماء لا يستجيب ، وما الماء ببالغ إليه ، قاله مجاهد .
الثانى : أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، لكذب ظنه وفساد توهمه . قاله ابن عباس .
الثالث : أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه ، فلا يجد في كفه شيئا منه .
وقد ضربت العرب مثلا لمن سعى فيما لا يدركه ، بالقبض على الماء كما قال الشاعر :
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض . . . على الماء ، خانته فروج الأصابع
وقوله - سبحانه - { وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أى : وما عبادة الكافرين للأصنام ، والتجاؤهم إليها في طلب الحاجات ، إلا في ضياع وخسران لأن هذه الآلهة الباطلة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها .
وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه . ودعوة الله هي وحدها الحق ؛ وما عداها باطل ذاهب ، لا ينال صاحبه منه إلا العناء :
( له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) . .
والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف . . فدعوة واحدة هي الحق ، وهي التي تحق ، وهي التي تستجاب .
إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونة ورحمته وهداه . وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء . . ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء ? انظروا هذا واحد منهم . ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه . وفمه مفتوح يلهث بالدعاء . يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه . وما هو ببالغه . بعد الجهد واللهفة والعناء . وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء :
( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) .
وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء ? في جو البرق والرعد والسحاب الثقال ، التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار !
قال علي بن أبى طالب ، رضي الله عنه : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } قال : التوحيد . رواه ابن جرير .
وقال ابن عباس ، وقتادة ، ومالك عن محمد بن المنْكَدِر : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } [ قال ]{[15532]} لا إله إلا الله .
{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } {[15533]} أي : ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله . { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } قال علي بن أبي طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده ، وهو لا يناله أبدا بيده ، فكيف يبلغ فاه ؟ .
وقال مجاهد : { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ } يدعو الماء بلسانه ، ويشير إليه [ بيده ]{[15534]} فلا يأتيه أبدا .
وقيل : المراد كقابض يده على الماء ، فإنه لا يحكم منه على شيء ، كما قال الشاعر :{[15535]}
فَإنّي وَإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إليكمُ *** كَقَابض مَاء لَم تَسْقه{[15536]} أناملُه
وقال الآخر :{[15537]}
فأصْبَحتُ ممَّا كانَ بَيْنِي وَبَيْنَها *** مِن الوُدّ مِثْلَ القابضِ المَاءَ بِاليَد
ومعنى الكلام : أن هذا الذي يبسط يده إلى الماء ، إما قابضا وإما متناولا له من بُعد ، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه ، الذي جعله محلا للشرب ، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره ، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ ولهذا قال : { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ }
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ } .
يقول تعالى ذكره : لله من خلقه الدعوة الحق ، والدعوة هي الحقّ كما أضيفت الدار إلى الاَخرة في قوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ وقد بيّنا ذلك فيما مضى . وإنما عنى بالدعوة الحقّ : توحيد الله ، وشهادة أن لا إله إلاّ الله .
وبنحو الذي قلنا أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : دَعْوَةُ الحَقّ قال : لا إله إلاّ الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَه دَعْوَةُ الحَقّ قال : شهادة لا إله إلاّ الله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ رضي الله عنه : لَه دَعْوَةُ الحَقّ قال : التوحيد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ قال : لا إله إلاّ الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : لَه دَعْوَةُ الحَقّ قال : لا إله إلاّ الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ : لا إله إلاّ الله ليست تنبغي لأحد غيره ، لا ينبغي أن يقال : فلان إله بني فلان .
وقوله : والّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يقول تعالى ذكره : والاَلهة التي يدعوها المشركون أربابا وآلهة . وقوله مِنْ دُونِهِ يقول : من دون الله وإنما عنى بقوله : مِنْ دُونِهِ الاَلهة أنها مقصرة عنه ، وأنها لا تكون إلها ، ولا يجوز أن يكون إلها إلاّ الله الواحد القهار ومنه قول الشاعر :
أتُوعِدُنِي وَرَاءَ بَنِي رِياحٍ *** كَذَبْتَ لَتَقُصُرّنَ يَداكَ دُونِي
وقوله : لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يقول : لا تجيب هذه الاَلهة التي يدعوها هؤلاء المشركون آلهة بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرّ . إلاّ كباسطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ يقول : لا ينفع داعي الاَلهة دعاؤه إياها إلاّ كما ينفع باسطَ كفيه إلى الماء ، بسطُه إياهما إليه من غير أن يرفعه إليه في إناء ، ولكن ليرتفع إليه بدعائه إياه وإشارته إليه وقبضه عليه . والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقابض على الماء . قال بعضهم :
فإنّي وَإيّاكُمْ وَشَوْقا إلَيْكُمُ *** كقابِضِ ماءٍ لَمْ تَسِقْه أنامِلُهْ
يعني بذلك : أنه ليس في يده من ذلك إلاّ كما في يد القابض على الماء ، لأن القابض على الماء لا شيء في يده . وقال آخر :
فأصْبَحْتُ ممّا كانَ بَيْنِي وبَيْنَها *** مِنَ الوُدّ مِثْلَ القابِضِ المَاءَ باليَدِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قوله : إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ قال : كالرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ، ولا يأتيه أبدا .
قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني الأعرج ، عن مجاهد : لِيَبْلُغَ فاهُ يدعوه ليأتيه وما هو بآتيه ، كذلك لا يستجيب من هو دونه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ، فلا يأتيه أبدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : وثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث الحسن ، عن حجاج ، قال ابن جريج : وقال الأعرج عن مجاهد : لِيَبْلُغَ فاهُ قال : يدعوه لأن يأتيه وما هو بآتيه ، فكذلك لا يستجيب من هو دونه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وليس ببالغه حتى يتمزّع عنقه ويهلك عطشا ، قال الله تعالى : وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ هذا مَثَلٌ ضربه الله أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثن وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبدا ولا يسوق إليه خيرا ولا يدفع عنه سوءا حتى يأتيه الموت ، كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشا .
وقال آخرون : معنى ذلك : والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلاّ كباسط كفيه إلى الماء ليتناول خياله فيه ، وما هو ببالغ ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ ليَبْلُغَ فاهُ فقال : هذا مثل المشرك مع الله غيره ، فمثَله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد ، فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه .
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ . . . إلى : وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ يقول : مثل الأوثان الذين يُعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه ، يقول الله : لا تستجيب الاَلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتى يبلغ كَفّا هذا فاه ، وما هما ببالغتين فاه أبدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالغهِ قال : لا ينفعونهم بشيء إلاّ كما ينفع هذا بكفّيه ، يعني بسطهما إلى ما لا ينال أبدا .
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وليس الماء ببالغ فاه ما قام باسطا كفيه لا يقبضهما وَما هُوَ بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ قال : هذا مثل ضربه الله لمن اتخذ من دون الله إلها أنه غير نافعه ، ولا يدفع عنه سوءًا حتى يموت على ذلك .
وقوله : وَما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ يقول : وما دعاء من كفر بالله ما يدعو من الأوثان والاَلهة إلاّ في ضلال : يقول : إلاّ في غير استقامة ولا هُدًى ، لأنه يشرك بالله .
{ له دعوة الحق } الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلىعبادته دون غيره ، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه ، ويؤيده ما بعده و{ الحق } على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال { دعوة } إليه لما بينهما من الملابسة ، أو على تأويل دعوة المدعو الحق . وقيل { الحق } هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق ، والمراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم أو دلالة على أنه على الحق ، وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء رسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، أو بيان ظلالهم وفساد رأيهم . { والذين يدعون } أي الأصنام الذين يدعوهم المشركون ، فحذف الراجع أو والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة . { من دونه } عليه . { لا يستجيبون لهم بشيء } من الطلبات . { إلا كباسط كفّيه } إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه . { إلى الماء ليبلُغ فاه } يطلب منه أن يبلغه . { وما هو ببالغه } لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإتيان بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم . وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه . وقرئ " تدعون " بالتاء وباسط بالتنوين . { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } في ضياع وخسار وباطل .
استئناف ابتدائي بمنزلة النتيجة ونهوض المدلل عليه بالآيات السالفة التي هي براهين الانفراد بالخلق الأول ، ثم الخلق الثاني ، وبالقدرة التامة التي لا تدانيها قدرة قدير ، وبالعلم العام ، فلا جرم أن يكون صاحب تلك الصفات هو المعبود بالحق وأن عبادة غيره ضلال .
والدعوة : طلب الإقبال ، وكثر إطلاقها على طلب الإقبال للنجدة أو للبذل . وذلك متعين فيها إذا أطلقت في جانب الله لاستحالة الإقبال الحقيقي فالمراد طلب الإغاثة أو النعمة .
وإضافة الدعوة إلى الحق إمّا من إضافة الموصوف إلى الصفة إن كان الحق بمعنى مصادفة الواقع ، أي الدعوة التي تصادف الواقع ، أي استحقاقه إياها ؛ وإما من إضافة الشيء إلى منشئه كقولهم : برود اليمن ، أي الدعوة الصادرة عن حق وهو ضد الباطل ، فإن دعاء الله يصدر عن اعتقاد الوحدانية وهو الحق ، وعبادة الأصنام تصدر عن اعتقاد الشرك وهو الباطل .
واللام للملك المجازي وهو الاستحقاق . وتقديم الجار والمجرور على المبتدإ لإفادة التخصيص ، أي دعوة الحق ملكه لا ملك غيره ، وهو قصر إضافي .
وقد صُرح بمفهوم جملة القصر بجملة { والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء } [ سورة الرعد : 14 ] ، فكانت بياناً لها . وكان مقتضى الظاهر أن تفصل ولا تعطف وإنما عطفت لما فيها من التفصيل والتمثيل ، فكانت زائدة على مقدار البيان . والمقصود بيان عدم استحقاق الأصنام أن يدعوها الداعون . واسم الموصول صادق على الأصنام . وضمير يدعون { للمشركين } . ورابط الصلة ضمير نصب محذوف . والتقدير : والذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم .
وأجري على الأصنام ضمير العقلاء في قوله : { لا يستجيبون } مجازاة للاستعمال الشائع في كلام العرب لأنهم يعاملون الأصنام معاملة عاقلين .
والاستجابة : إجابة نداء المنادي ودعوة الداعي ، فالسين والتاء لقوة الفعل .
والباء في بشيء لتعدية { يستجيبون } لأن فعل الإجابة يتعدى إلى الشيء المجاب به بالباء ، وإذا أريد من الاستجابة تحقيق المأمول اقتصر على الفعل . كقوله : { فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } [ سورة يوسف : 34 ] .
فلما أريد هنا نفي إجداء دعائهم الأصنام جعل نفي الإجابة متعدياً بالباء إلى انتفاء أقل ما يجيب به المسؤول وهو الوعد بالعطاء أو الاعتذار عنه ، فهم عاجزون عن ذلك وهم أعجز عما فوقه .
وتنكير شيء للتحقير . والمراد أقل ما يجاب به من الكلام .
والاستثناء في { إلا كباسط كفيه } من عموم أحوال الداعين والمستجيبين والدعوة والاستجابة ، لأنه تشبيه هيئة فهو يسري إلى جميع أجزائها فلك أن تقدر الكلام إلا كداع باسط أو إلاّ كحال باسط . والمعنى : لا يستجيبونهم في حاللٍ من أحوال الدعاء والاستجابة إلا في حالٍ لداعٍ ومستجيببٍ كحال باسطٍ كفيه إلى الماء . وهذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فيؤول إلى نفي الاستجابة في سائر الأحوال بطريق التمليح والكناية .
والمراد ب ( باسط كفيه ) من يغترف ماء بكفين مبسوطتين غير مقبوضتين إذ الماء لايستقر فيهما . وهذا كما يقال : هو كالقابض على الماء ، في تمثيل إضاعة المطلوب . وأنشد أبو عبيدة :
فأصبحت فيما كان بيني وبينها *** من الودّ مثل القابض الماءَ باليد
و { إلى } للانتهاء لدلالة { باسط } على أنه مَدّ إلى الماء كفيه مبسوطتين .
واللام في { ليبلغ } للعلة . وضمير { يبلغ } عائد إلى الماء . وكذلك ضمير { هو } والضمير المضاف إليه في ( بالغه ) للفم .
والكلام تمثيلية . شبّه حال المشركين في دعائهم الأصنام وجلب نفعهم وعدم استجابة الأصنام لهم بشيء بحال الظمآن يبسط كفيه يبتغي أن يرتفع الماء في كفيه المبسوطتين إلى فمه ليرويه وما هو ببالغ إلى فمه بذلك الطلب فيذهب سعيه وتعبه باطلاً مع ما فيه من كناية وتمليح كما ذكرناه .
وجملة { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } عطف على جملة { والذين يدعون من دونه } لاستيعاب حال المدعو وحال الداعي . فبينت الجملة السابقة حال عجز المدعو عن الإجابة وأعقبت بالتمثيل المشتمل على كناية وتمليح . واشتمل ذلك أيضاً بالكناية على خيبة الداعي .
وبينت هذه الجملة الثانية حال خيبة الداعي بالتصريح عقب تبْيينه بالكناية . فباختلاف الغرض والأسلوب حَسنُ العطف ، وبالمآل حصل توكيد الجملة الأولى وتقريرُها وكانت الثانية كالفذلكة لتفصيل الجملة الأولى .
والضلال : التلف والضياع . و { في } للظرفية المجازية للدلالة على التمكن في الوصف ، أي إلا ضائع ضَياعاً شديداً .