{ واللاتي يأتين الفاحشة } . يعني : الزنا .
قوله تعالى : { من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعةً منكم } . يعني من المسلمين ، وهذا خطاب للحكام ، أي : فاطلبوا عليهن أربعةً من الشهود وفيه بيان أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود .
قوله تعالى : { فإن شهدوا فأمسكوهن } . فاحبسوهن .
قوله تعالى : { في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً } . وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود وكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم نسخ في حق البكر بالجلد والتغريب . وفي حق الثيب بالجلد والرجم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أخبرنا الشافعي رضي الله عنه ، أخبرنا عبد الوهاب عن يونس عن الحسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً . البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) .
قال الشافعي رضي الله عنه : وقد حدثني الثقة : أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي ، ولا أدري أدخله عبد الوهاب فنزل عن كتابي أم لا ؟ قال شيخنا الإمام : الحديث صحيح ، رواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة ، ثم نسخ الجلد في حق الثيب وبقي الرجم عند أكثر أهل العلم .
وذهب طائفة إلى أنه يجمع بينهما . روي عن علي رضي الله عنه : أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس مائة ، ثم رجمها يوم الجمعة وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعامة العلماء على أن الثيب لا يجلد مع الرجم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية ولم يجلدهما . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه التغريب أيضاً منسوخ في حق البكر ، وأكثر أهل العلم على أنه ثابت .
روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ، وغرب ، وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب ، وغرب ، وأن عمر رضي الله عنه ضرب ، وغرب . واختلفوا في أن الإمساك في البيت كان حداً فنسخ ، أم كان حبساً ليظهر الحد ؟ على قولين .
وبعد أن أمر - سبحانه - بالإحسان إلى النساء . وبمعاشرتهن معاشرة كريمة ، وبين حقوقهن فى الميراث ، أتبع ذلك ببيان حكمه - سبحانه - فى الرجال والنساء إذا ما ارتكبوا فاحشة الزنا فقال - تعالى - : { واللاتي يَأْتِينَ . . . . . تَوَّاباً رَّحِيماً } .
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ( 15 ) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 16 )
وقوله : { واللاتي } جمع التى . وهى تستعمل فى جمع من يعقل . أما إذا أريد جمع ما لا يعقل من المؤنث فإنه يقال : التى تقول : أكرمت النسوة اللاتى حضرن . وتقول : نزعت الأثواب التى كنت ألبسها . وهذا هو الرأى المختار .
وبعضهم يسوى بينهم فيقول فى الجمع المؤنث لغير العاقل : اللاتى .
وقوله { يَأْتِينَ } من الإِتيان ويطلق فى الأصل على المجئ إلى شئ . والمراد به هنا الفعل . أى واللاتى يفعلن { الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } .
والفاحشة : هي الفعلة القبيحة . وهى مصدر كالعافية . يقال فحش الرجل يفحش فحشا .
وأفحش : إذا جاء بالقبح من القول أو الفعل .
وقوله : { مِن نِّسَآئِكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل { يَأْتِينَ } أى : يأتين الفاحشة حال كونهن من نسائكم .
والمراد بالنساء فى قوله { مِن نِّسَآئِكُمْ } : النساء اللاتى قد أحصن بالزواج سواء أكن مازلن فى عصمة أزواجهن أم لا . وهذا رأى جمهور الفقهاء . وبعضهم يرى أن المراد بالنساء هنا مطلق النساء سواء أكن متزوجات أم أبكاراً .
والمعنى : أن الله - تعالى - يبين لعباده بعض الأحكام المتعلقة بالنساء فيقول :
أخبركم - أيها المؤمنون - بأن اللاتى يأتين فاحشة الزنا من نسائكم ، بأن فعلن هذه الفاحشة المنكرة وهن متزوجات أو سبق لهن الزواج .
{ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } أى : فاطلبوا أن يشهد عليهن بأنهن أتين هذه الفاحشة المنكرة أربعة منكم أى من الرجال المسلمين الأحرار .
وقوله : { فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أى فإن شهد هؤلاء الأربعة بأن هؤلاء النسوة قد أتين هذه الفاحشة ، فعليكم فى هذه الحالة أن تحبسوا هؤلاء النسوة فى البيوت ولا تمكنوهن من الخروج عقوبة لهن ، وصيانة لهن عن تكرار الوقوع فى هذه الفاحشة المنكرة ، وليستمر الأمر على ذلك { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أى حتى يقبض أرواحهن الموت . أو حتى يتوفاهن ملك الموت .
وقوله : { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } أى : أو يجعل الله لهن مخرجا من هذا الإِمساك فى البيوت ، بأن يشرع لهن حكما آخر .
وقوله : { واللاتي } فى محل رفع مبتدأ . وجملة { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } خبره .
وجاز دخول الفاء الزائدة فى الخبر . لأن المبتدأ أشبه الشرط فى كونه موصولا عاما صلته فعل مستقبل .
وعبر - سبحانه - عن ارتكاب فاحشة الزنا بقوله : { يَأْتِينَ } لمزيد التقبيح والتشنيع على فاعلها : لأن مرتكبها كأنه ذهب إليها عن قصد حتى وصل إليها وباشرها .
واشترط - سبحانه - شهادة أربعة من الرجال المسلمين الأحرار ؛ لأن الرمى بالزنا من أفحش ما ترمى به المرأة والرجل ، فكان من رحمة الله وعدله أن شدد فى إثبات هذه الفاحشة أبلغ ما يكون التشديد ، فقرر عدم ثبوت هذه الجريمة إلا بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل فى ذلك شهادة النساء .
قال الزهرى : مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء فى الحدود .
وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع ، ولذا قال { فَإِن شَهِدُواْ } أى إن ذكروا أنهم عاينوا ارتكاب هذه الجريمة من مرتكبيها . وشهدوا على ما عاينوه وأبصروه { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } .
وحتى فى قوله . { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } بمعنى إلى . والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وهى متعلقة بقوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ } غاية له .
والمراد بالتوفى أصل معناه أى الاستيفاء وهو القبض تقول : توفيت مالى الذى على فلان واستوفيته إذا قبضته . وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك . والكلام على حذف مضاف أى : حتى يقبض أرواحهن الموت . أو حتى يتوفاهن ملائكة الموت .
و " أو " فى قوله { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } ، للعطف ، فقد عطفت قوله { يَجْعَلَ } على قوله : { يَتَوَفَّاهُنَّ } فيكون الجعل غاية لإمساكهن أيضا .
فيكون المعنى . أمسكوهن فى البيوت إلى أن يتوفاهن الموت ، أو إلى أن يجعل الله لهن سبيلا أى مخرجا من هذه العقوبة .
وقد جعل الله - تعالى - هذا المخرج بما شرعه بعد ذلك من حدود بأن جعل عقوبة الزانى البكر : الجلد . وجعل عقوبة الزانى الثيب : الرجم وقد رجم النبى - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك الأسلمى ، ورجم الغامدية ، وكانا محصنين .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : كان الحكم فى ابتداء الإِسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست فى بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ، ولهذا قال - تعالى - : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } الآية . فالسبيل الذى جعله الله هو الناسخ لذلك - أى لإمساكهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت - .
قال ابن عباس : كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سروة النور فنسخه بالجلد أو الرجم .
وكذلك روى عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة . وهو أمر متفق عليه .
روى الإِمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال : خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب . والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ونفى سنة " .
وقد رواه مسلم وأصحاب السننن من طرق عبادة بن الصامت .
هذا وما ذكره ابن كثير من أن هذا الحكم كان فى ابتداء الإِسلام ، ثم نسخ بما جاء فى سورة النور وبما جاء فى حديث عبادة بن الصامت ، هو مذهب جمهور العلماء .
وقال صاحب الكشاف : ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ، ويوصى بإمساكهن فى البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال .
{ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } هو النكاح الذى يستغنين به عن السفاح وقيل السبيل : الحد ، لأنه لم يكن مشروعا فى ذلك الوقت .
وقال أبو سليمان الخطابى : هذه الآية ليست منسوخة ، لأن قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } ألخ ، يدل على أن إمساكهن فى البيوت ممتد إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا ، وذلك السبيل كان مجملا ، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم خذوا عنى ألخ ، صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها .
مضى الشوط الأول من السورة ، يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة ، وفي محيط الجماعة ، يعالج نظام التووعقاب الرجال أيضا عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور ، وهي الجلد ؛ وكما جاءت بها السنة أيضا ، وهي الرجم . والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث ، والمحافظة عليه نظيفا عفيفا شريفا .
وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات ، التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة ؛ في عقوبات خطيرة ، تؤثر في حياة الناس تأثيرا خطيرا .
( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .
وفي النص دقة واحتياط بالغان . فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد : " من نسائكم " - أي المسلمات - ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل : " من رجالكم " - أي المسلمين - فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل . ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه .
إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات - حين يقعن في الخطيئة - رجالا غير مسلمين . بل لا بد من أربعة رجال مسلمين . منكم . من هذا المجتمع المسلم . يعيشون فيه ، ويخضعون لشريعته ، ويتبعون قيادته ، ويهمهم أمره ، ويعرفون ما فيه ومن فيه . ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم ، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة ، وغير موثوق بأمانته وتقواه ، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته ، ولا على إجراء العدالة فيه . وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم ، وأصبح هو الجلد أو الرجم . .
( فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت ) . .
لا يختلطن بالمجتمع ، ولا يلوثنه ، ولا يتزوجن ، ولا يزاولن نشاطا . .
فينتهي أجلهن ، وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت .
( أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .
فيغير ما بهن ، أو يغير عقوبتهن ، أو يتصرف في أمرهن بما يشاء . . مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم ، وإنما هو حكم فترة معينة ، وملابسات في المجتمع خاصة . وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم . وهذا هو الذي وقع بعد ذلك ، فتغير الحكم كما ورد في سورة النور ، وفي حديث رسول الله [ ص ] وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت . قال : كان رسول الله [ ص ] إذا نزل عليه الوحي أثر عليه ، وكرب لذلك ، وتغير وجهه . فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم ، فلما سري عنه قال : " خذوا عني . . قد جعل الله لهن سبيلا . . الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ثم نفي سنة " . . وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان ، عن عبادة بن الصامت . عن النبي [ ص ] ولفظه : " خذوا عني . خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام . والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " . . وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم : أن النبي [ ص ] رجمهما ولم يجلدهما . وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما ، فقضى برجمهما ولم يجلدهما . .
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة ، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت ؛ ولهذا قال : { وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } يعني : الزنا { مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك .
قال ابن عباس : كان الحكم كذلك ، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد ، أو الرجم .
وكذا رُوي عن عِكْرِمة ، وسَعيد بن جُبَيْر ، والحسن ، وعَطاء الخُراساني ، وأبي صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والضحاك : أنها منسوخة . وهو أمر متفق عليه .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشِي ، عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه
وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه ، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم ، فلما سُرِّيَ عنه قال : " خُذُوا عَنِّي ، قد جَعَل الله لَهُنَّ سبيلا الثَّيِّبُ بالثيب ، والبِكْرُ بالبكرِ ، الثيب جَلْدُ مائة ، ورَجْمٌ بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نَفْى سَنَةٍ " .
وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطَّان{[6782]} عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح{[6783]}
وهكذا{[6784]} رواه أبو داود الطيالسي ، عن مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عُرف ذلك في وجهه ، فلما أنزلت : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } [ و ]{[6785]} ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا خذوا ، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مائة وَنفيُ سنة ، والثَّيِّب بالثيبِ جَلْدُ مائة ورَجْمٌ بالحجارة " .
وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وَكِيع بن الجراح ، حدثنا الفضل بن دَلْهَم ، عن الحسن ، عن قُبَيْصَة بن حُرَيث ، عن سلمة بن المُحَبَّق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .
وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم ، ثم قال : وليس هو بالحافظ ، كان قصابًا بواسط{[6786]} .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عباس بن حمدان ، حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البكْرَان يُجْلَدان ويُنفيَانِ ، والثيبان يجلدان ويُرجَمانِ ، والشَّيْخانِ يُرجَمان " . هذا حديث غريب من هذا الوجه{[6787]} .
وروى الطبراني من طريق ابن لَهِيعة ، عن أخيه عيسى بن لهيعة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حبس بعد سورة النساء " {[6788]} .
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث ، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني ، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يُرجم فقط من غير جلد ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعزًا والغامدية واليهوديين ، ولم يجلدهم قبل ذلك ، فدل على أن الجلد{[6789]} ليس بحتم ، بل هو منسوخ على قولهم ، والله أعلم .
{ وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } والنساء اللاتي يأتين بالزنا : أي بزنين . { مِنْ نِسائِكُمْ } وهن محصنات ذوات أزواج ، أو غير ذوات أزواج . { فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ } يقول : فاستشهدوا عليهنّ بما أتين من الفاحشة أربعة رجال من رجالكم ، يعني : من المسلمين . { فإنْ شَهِدُوا } عليهن ، { فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ } يقول : فاحبسوهنّ في البيوت ، { حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ } يقول : حتى يمتن ، { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } يعني : أو يجعل الله لهنّ مخرجا وطريقا إلى النجاة مما أتين به من الفاحشة .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ } أمر بحبسهن في البيوت حتى يمتن { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : الحدّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } قال : الزنا ، كان أمر بحبسهنّ حين يشهد عليهن أربعة حتى يمتن¹ { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } والسبيل : الحدّ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } إلى : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ } فإن كانا محصنين رُجما ، فهذه سبيلهما الذي جعل الله لهما .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } فقد جعل الله لهنّ ، وهو الجلد والرجم .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } حتى بلغ : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } كان هذا من قبل الحدود ، فكانا يؤذيان بالقول جميعا ، وبحبس المرأة . ثم جعل الله لهنّ سبيلاً ، فكان سبيل من أحصن جلد مائة ثم رمي بالحجارة ، وسبيل من لم يحصن جلد مائة ونفي سنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح وعبد الله بن كثير : الفاحشة : الزنا ، والسبيل : الرجم والجلد .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ } إلى : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } هؤلاء اللاتي قد نكحن وأحصن ، إذا زنت المرأة فإنها كانت تحبس في البيت ويأخذ زوجها مهرها فهو له ، فذلك قوله : { وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَأْتِينَ بفاحِشةٍ مُبَيّنَةٍ } { وَعاشِرُوهُنّ بالمَعْرُوفِ } حتى جاءت الحدود فنسختها ، فجلدت ورجمت ، وكان مهرهَا ميراثا ، فكان السبيل هو الجلد .
حُدثت ، عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : الحد ، نسخ الحد هذه الاَية .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : جلد مائة ، الفاعل والفاعلة .
حدثنا الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الجلد .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ، ونكس أصحابه رءوسهم¹ فلما سُرّيَ عنه رفع رأسه ، فقال : «قَدْ جَعَلَ الله لَهُنّ سَبِيلاً ، الثّيّبُ بالثّيّبِ ، والبِكْرُ بالبِكْرِ¹ أما الثّيّبُ فتُجْلَدُ ثم تُرْجَمُ¹ وأما البِكْرُ فتُجْلَدُ ثم تُنْفَى » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حطان بن عبد الله ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً¹ الثّيّبُ بالثّيّبِ تُجْلَدُ مِائَةً وَتُرْجَمُ بالحِجارَةِ ، وَالبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله أخي بني رقاش ، عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد له وجهه ، فأنزل الله عليه ذات يوم ، فلقي ذلك فلما سُري عنه قال : «خُذُوا عَنّي قَد جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً¹ الثّيّبُ بالثّيّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ رَجْمٌ بالحِجارَةِ ، وَالبِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ نَفْيُ سَنَةٍ » .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ، فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : يقول : لا تنكحوهنّ حتى يتوفاهنّ الموت ، ولم يخرجهن من الإسلام . ثم نسخ هذا ، وجعل السبيل التي ذكر أن يجعل لهن سبيلاً ، قال : فجعل لها السبيل إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت ، وجعل السبيل للبكر جلد مائة .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قال : الجلد والرجم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً : الثّيّبِ بالثّيّبِ وَالبِكْرُ بالبِكْرِ ، الثّيّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ والبِكرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى » .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن مسلم البصري ، عن الحسن ، عن عبادة بن الصامت ، قال : كنا جلوسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ احمّر وجهه ، وكان يفعل ذلك إذا نزل عليه الوحي ، فأخذه كهيئة الغَشْي لما يجد من ثِقل ذلك ، فلما أفاق قال : «خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً ، والبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ ويُنْفَيانِ سَنَةً ، والثّيّبانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجَمانِ » .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } قول من قال السبيل التي جعلها الله جلّ ثناؤه للثيبين المحصنين الرجم بالحجارة ، وللبكرين جلد مائة ، ونفي سنة لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم ولم يجلد¹ وإجماع الحجة التي لا يجوز عليها فيما نقلته مجمعة عليه الخطأ والسهو والكذب¹ وصحة الخبر عنه ، أنه قضى في البكرين بجلد مائة ، ونفي سنة ، فكان في الذي صحّ عنه من تركه ، جلد من رجم من الزناة في عصره دليل واضح على وهي الخبر الذي روي عن الحسن عن حطان عن عبادة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : السبيل للثيب المحصن : الجلد والرجم . وقد ذكر أن هذه الاَية في قراءة عبد الله : واللاتي يأتين بالفاحشة من نسائكم ، والعرب تقول : أتيت أمرا عظيما ، وبأمر عظيم ، وتكلمت بكلام قبيح ، وكلاما قبيحا .
{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } أي يفعلنها ، يقال : أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا فعلها ، والفاحشة الزنا لزيادة قبحها وشناعتها . { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } فاطلبوا ممن قذفهن أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهن . { فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت } فاحبسوهن في البيوت واجعلوها سجنا عليهن . { حتى يتوفاهن الموت } يستوفي أرواحهن الموت ، أو يتوفاهن ملائكة الموت . قيل : كان ذلك عقوبتهن في أوائل الإسلام فنسخ بالحد ، ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كيلا يجري عليهن ما جرى بسبب الخروج والتعرض للرجال ، لم يذكر الحد استغناء بقوله تعالى : { الزانية والزاني } { أو يجعل الله لهن سبيلا } كتعيين الحد المخلص عن الحبس ، أو النكاح المغني عن السفاح .
موقع هذه الآية في هذه السورة معضل ، وافتتاحها بواو العطف أعضل ، لاقتضائه اتّصالها بكلام قبلها . وقد جاء حدّ الزنا في سورة النور ، وهي نازلة في سنة ست بعد غزوة بني المصطلق على الصحيح ، والحكم الثابت في سورة النور أشدّ من العقوبة المذكورة هنا ، ولا جائز أن يكون الحدّ الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنّه لا قائل به . فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها ، قلنا إنّ هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى ، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدّم من الآيات في أوّل السورة بما يتعلّق بمعاشرة النساء ، كقوله : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] وجزمنا بأنّ أوّل هذه السورة نزل قبل أوّل سورة النور ، وأنّ هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة ، كما يدلّ عليه قوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } قال ابن عطية : أجمع العلماء على أنّ هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور . اهـ ، وحكى ابن الفرس في ترتيب النسخ أقوالاً ثمانية لا نطيل بها . فالواو عاطفة حكم تشريع عقب تشريع لمناسبة : هي الرجوع إلى أحكام النساء ، فإنّ الله لمّا ذكر أحكاماً من النكاح إلى قوله : { وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة } وما النكاح إلاّ اجتماع الرجل والمرأة على معاشرة عمادها التأنّس والسكون إلى الأنثى ، ناسب أن يعطف إلى ذكر أحكام اجتماع الرجل بالمرأة على غير الوجه المذكور فيه شرعاً ، وهو الزنا المعبّر عنه بالفاحشة .
فالزنا هو أن يقع شيء من تلك المعاشرة على غير الحال المعروف المأذون فيه ، فلا جرم أن كان يختلف باختلاف أحوال الأمم والقبائل في خرق القوانين المجعولة لإباحة اختصاص الرجل بالمرأة .
ففي الجاهلية كان طريق الاختصاص بالمرأة السبي أو الغَارة أو التعويض أو رغبة الرجل في مصاهرة قوم ورغبتهم فيه أو إذن الرجل امرأته بأن تستبضع من رجل ولداً كما تقدّم .
وفي الإسلام بطلت الغارة وبطل الاستبضاع ، ولذلك تجد الزنا لا يقع إلاّ خفية لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم . وسمّي الزنا الفاحشة لأنّه تجاوز الحدّ في الفساد وأصل الفحش الأمر الشديد الكراهية والذمّ ، من فعلٍ أو قولٍ ، أو حالٍ ولم أقف على وقوع العمل بهاتين الآيتين قبل نسخهما .
ومعنى : { يأتين } يَفْعَلْن ، وأصل الإتيان المجيء إلى شيء فاستعير هنا الإتيان لفعل شيء لأنّ فاعل شيء عن قصد يُشبه السائر إلى مكان حتّى يَصله ، يقال : أتى الصلاة ، أي صَلاها ، وقال الأعشى :
لِيَعْلَمَ كلُّ الورى أنّني *** أتَيْتُ ا لمُرُوءَةَ من بابها
وربما قالوا : أَتى بفاحشة وبمكروه كأنّه جاء مُصَاحباً له .
وقوله : { من نسائكم } بيان للموصول وصلته . والنساء اسم جمععِ امرأة ، وهي الأنثى من الإنسان ، وتطلق المرأة على الزوجة فلذلك يطلق النساء على الإناث مطلقاً ، وعلى الزوجات خاصّة ويعرف المراد بالقرينة ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } [ الحجرات : 11 ] ثم قال { ولا نساء من نساء } [ الحجرات : 11 ] فقابل بالنساء القومَ . والمراد الإناث كلهنّ ، وقال تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين } [ النساء : 11 ] الآية المتقدّمة آنفاً والمراد هنا مطلق النساء فيشمل العذارى العَزَبَاتِ .
وضمير جمع المخاطبين في قوله : { من نسائكم } والضمائر المُوالية له ، عائدة إلى المسلمين على الإجمال ، ويتعيّن للقيام بما خوطبوا به مَنْ لهم أهلية القيام بذلك . فضمير { نسائكم } عامّ مراد به نساء المسلمين ، وضمير { فاستشهدوا } مخصوص بمن يهمّه الأمر من الأزواج ، وضمير { فأمسكوهن } مخصوص بولاة الأمور ، لأنّ الإمساك المذكور سجن وهو حكم لا يتولاّه إلاّ القضاة ، وهم الذين ينظرون في قبول الشهادة فهذه عمومها مراد به الخصوص .
وهذه الآية هي الأصل في اشتراط أربعة في الشهادة على الزنى ، وقد تقرّر ذلك بآية سورة النور .
ويعتبر في الشهادة الموجبة للإمساك في البيوت ما يعتبر في شهادة الزنى لإقامةِ الحدّ سواء .
والمراد بالبيوت البيوت التي يعيّنها ولاة الأمور لذلك . وليس المراد إمساكهن في بيوتهنّ بل يُخرجن من بيوتهنّ إلى بيوت أخرى إلاّ إذا حُوّلت بيت المسجونة إلى الوضع تحت نظر القاضي وحراسته ، وقد دلّ على هذا المعنى قوله تعالى في آية سورة الطلاق عند ذكر العدّةِ { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } [ الطلاق : 1 ] .
ومعنى { يتوفاهن الموت } يتقاضاهن . يقال : تَوَفَّى فلان حقَّه من فلان واستوفاه حقّه . والعرب تتخيّل العمر مجزّءاً . فالأيام والزمانُ والموتُ يستخلصه من صاحبه منجَّما إلى أن تتوفّاه . قال طرفة :
أرى العمر كَنزا ناقصا كلّ ليلة *** وما تَنْقُصْ الأيامُ والدهرُ ينفَدِ
إذا ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلة *** تَقاضاه شيء لا يَمَلُّ التقاضيا
ولذلك يقولون تُوفيِّ فلان بالبناء للمجهول أي توفَّى عُمُرَهُ فجعل الله الموت هو المتقاضي لأعمار الناس على استعمالهم في التعبير ، وإن كان الموت هو أثَرُ آخر أنفاس المرء ، فالتوفيّ في هذه الآية وارِد على أصل معناه الحقيقي في اللغة .
ومعنى { أو يجعل الله لهن سبيلاً } أي حكماً آخر . فالسبيل مستعار للأمر البيّن بمعنى العقاب المناسب تشبيها له بالطريق الجادّة . وفي هذا إشارة إلى أنّ إمساكهنّ في البيوت زجر موقّت سيعقبه حكم شاف لما يَجده الناس في نفوسهم من السخط عليهنّ ممّا فَعَلْنَ .
ويشمل قوله : { واللاتي يأتين الفاحشة } جميع النساء اللائي يأتين الفاحشة من محصنات وغيرهنّ .