البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } قال مجاهد واختاره أبو مسلم بن بحر الأصبهاني : هذه الآية نزلت في النساء .

والمراد بالفاحشة هنا : المساحقة ، جعل حدّهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجن .

قال : ونزلت { واللذان يأتيانها منكم } في أهل اللواط .

والتي في النور : في { الزانية والزاني } وخالف جمهور المفسرين .

وبناه أبو مسلم على أصل له : وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن ، وقد كن لا يورثن في الجاهلية ، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن ، إذ هو نظر في أمر آخرتهن ، ولئلا يتوهم أنّ من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد .

ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة ، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج ، وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك ، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني ، وأفردهن بالذكر أولاً ، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال ، ثم ذكرهن ثانياً مع الرجال الزانين في قوله : { واللذان يأتيانها منكم } فصار ذكر النساء الزواني مرّتين : مرة بالإفراد ، ومرّة بالشمول .

واللاتي جمع من حيث المعنى للتي ، ولها جموع كثيرة أغربها : اللاآت ، وإعرابها إعراب الهندات .

ومعنى يأتين الفاحشة : يجئن ويغشين .

والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين ، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة ، ويأتي الكلام معه في ذلك ، وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح .

قيل : فإن قيل : القتل والكفر أكبر من الزنا ، قيل : القوى المدبرة للبدن ثلاث : الناطقة وفسادها بالكفر والبدعة وشبههما ، والغضبية وفسادها بالقتل والغضب وشبههما ، وشهوانية وفسادها بالزنا واللواط والسحر وهي : أخس هذه القوى ، ففسادها أخس أنواع الفساد ، فلهذا خص هذا العمل بالفاحشة .

وحجة أبي مسلم في أن الفاحشة هي السحاق قوله : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } وفي الرجال : { واللذان } ومنكم وظاهره التخصيص ، وبأن ذلك لا يكون فيه نسخ ، وبأنه لا يلزم فيه التكرار .

ولأن تفسير السبيل بالرجم أو الجلد والتغريب عند القائلين بأنها نزلت في الزنا ، يكون عليهن لا لهن ، وعلى قولنا : يكون السبيل تيسر الشهوة لهن بطريق النكاح .

وردوا على أبي مسلم بأن ما قاله لم يقله أحد من المفسرين ، فكان باطلاً .

وأجاب : بأنه قاله مجاهد ، فلم يكن إجماعاً وتفسير السبيل بالحديث الثابت : { قد جعل الله لهن سبيلاً }

« الثيب ترجم والبكر تجلد » فدل على أن ذلك في الزناة .

وأجاب بأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز .

وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللوطية ولم يتمسك أحد منهم بقوله : واللذان يأتيانها منكم ، فدل على أنها ليست فيهم .

وأجاب بأن مطلوب الصحابة : هل يقام الحد على اللوطي وليس فيها دلالة على ذلك لا بالنفي ولا بالإثبات ؟ فلهذا لم يرجعوا إليه . انتهى .

ما احتج به أبو مسلم ، وما ردّ به عليه ، وما أجاب به .

والذي يقتضيه ظاهر اللفظ هو قول مجاهد وغيره : أن اللاتي مختص بالنساء ، وهو عام أحصنت أو لم تحصن .

وإن واللذان مختص بالذكور ، وهو عام في المحصن وغير المحصن .

فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى .

ويكون هاتان الآيتان وآية النور قد استوفت أصناف الزناة ، ويؤيد هذا الظاهر قوله : من نسائكم وقوله : منكم ، لا يقال : إن السحاق واللواط لم يكونا معروفين في العرب ولا في الجاهلية ، لأن ذلك كان موجوداً فيهم ، لكنه كان قليلاً .

ومن ذلك قول طرفة بن العبد :

ملك النهار وأنت الليل مومسة *** ماء الرجال على فخذيك كالقرس

وقال الراجز :

يا عجباً لساحقات الورس *** الجاعلات المكس فوق المكس

وقرأ عبد الله : واللاتي يأتين بالفاحشة ، وقوله : من نسائكم اختلف ، هل المراد الزوجات أو الحرائر أو المؤمنات أو الثيبات دون الأبكار ؟ لأن لفظ النساء مختص في العرف بالثيب ، أقوال .

الأول : قاله قتادة والسدي وغيرهما .

قال ابن عطية : قوله من نسائكم إضافة في معنى الإسلام ، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين ينسب ولا يلحقها هذا الحكم انتهى .

وظاهر استعمال النساء مضافة للمؤمنين في الزوجات كقوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } { والذين يظاهرون من نسائهم } وكون المراد الزوجات وأن الآية فيهم ، هو قول أكثر المفسرين .

وأمر تعالى باستشهاد أربعة تغليظاً على المدعي ، وستراً لهذه المعصية .

وقيل : يترتب على كل واحد شاهدان .

وقوله : عليهن ، أي على إتيانهن الفاحشة .

والظاهر أنه يختص بالذكور المؤمنين لقوله : أربعة منكم ، وأنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا .

وإن تعمد النظر إلى الفرج لا يقدح في العدالة إذا كان ذلك لأجل الزنا .

وإعراب اللاتي مبتدأ ، وخبره فاستشهدوا .

وجاز دخول الفاء في الخبر ، وإن كان لا يجوز زيد فاضربه على الابتداء والخبر ، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر ، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره ، فأجرى الموصول لذلك مجرى اسم الشرط .

وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا ، فيكون من باب الاشتغال ، لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط ، فلا يصح أن يفسر هكذا .

قال بعضهم : وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره : اقصدوا اللاتي .

وقيل : خير اللاتي محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين ، كقول سيبويه في قوله :

{ والسارق والسارقة } وفي قوله : { الزانية والزاني } وعلى ذلك جملة سيبويه .

ويتعلق من نسائكم بمحذوف ، لأنه في موضع الحال من الفاعل في : يأتين ، تقديره : كائنات من نسائكم .

ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله : فاستشهدوا ، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة ، أي : كائنين منكم .

{ فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً } أي : فإن شهد أربعة منكم عليهن .

والمخاطب بهذا الأمر : أهم الأزواج أمروا بذلك إذا بدت من الزوجة فاحشة الزنا ، ولا تقربوهن عقوبة لهن وكانت من جنس جريمتهن ؟ أم الأولياء إذا بدت ممن لهم عليهن ولاية ونظر يحبسن حتى يمتن ؟ أو أولوا الأمر من الولاة والقضاة إذ هم الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش ؟ أقوال ثلاثة .

والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغاية المذكورة كان على سبيل الحدِّ لهن ، وأنَّ حدهن كان ذلك حتى نسخ ، وهو الصحيح ، قاله : ابن عباس ، والحسن .

والحبس في البيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة ، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي ، لأن ألم الحبس مستمر ، وألم الضرب يذهب .

قال ابن زيد : منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه .

وقال قوم : ليس بحدٍ بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهنّ الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ما جرى لهن بسبب الخروج من البيوت ، وعلى هذا لا يكون الإمساك حداً .

وإذا كان يتوفى بمعنى يميت ، فيكون التقدير حتى يتوفاهن ملك الموت .

وقد صرح بهذا المضاف المحذوف ، وهنا في قوله : قل يتوفاكم ملك الموت .

وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، إذ يصير التقدير : حتى يأخذهن الموت .

والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المراد بالآية .

فقيل : هو النكاح المحصن لهن المغنى عن السفاح ، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة ، دون الأزواج .

وقيل : السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد ، وهو « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب » رمي بالحجارة .

وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجب المصير إليه .

وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية ، ولا لأنه الجلد ، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً ، وهو مخصص لعموم آية الجلد .

وعلى هذا لا يصح طعن أبي بكر الرازي على الشافعي في قوله : إن السنة لا تنسخ القرآن ، بدعواه أنَّ آية الحبس منسوخة ، بحديث عبادة ، وحديث عبادة منسوخ بآية الجلد ، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة ، والسنة بالقرآن ، خلاف قول الشافعي ، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاء نسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة ، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث ، وأن الحديث منسوخ بآية الجلد ، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم .

/خ28