الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَٱلَّـٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا} (15)

قوله : ( وَاللاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ ) الآية [ 15 ] .

" اللاتي " لا تكون( {[11804]} ) إلا للنساء( {[11805]} )( {[11806]} ) . والمعنى : والنساء اللاتي يأتين الفاحشة ، فاستشهدوا عليهن فيما آتين أربعة رجال ، فإن شهدوا عليهن بالفاحشة ( فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ) حتى يمتن ( أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) أي : طريقاً إلى النجاة فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، وكان هذا قبل نزول الحدود ، فلما نزل : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ )( {[11807]} ) ، نسخ ذلك( {[11808]} ) .

قال عطاء : السبيل : الحدود والرجم ، والجلد( {[11809]} ) .

قال السدي : نزلت هذه الآية في التي دخل بها إذا زنت ، فنها تحبس في البيت ويأخذ زوجها مهرها .

قال الله تعالى : ( وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَّاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ) قال : هي الزنا( {[11810]} ) ، ثم جاءت الحدود فنسختها فجلدت ورجمت وصار مهرها ميراثاً فكان السبيل هو الحد الذي نزل( {[11811]} ) .

وقيل : إن حكم الزاني والزانية الثيبين والبكرين( {[11812]} ) كان أن يحبسا حتى يموتا ، فنسخ الله ذلك بالآية التي بعدها وصار حكمهما أن يؤذيا بالسب والتعيير لقوله " فآذوهما " ثم نسخ ذلك بالحدود( {[11813]} ) ، هذا قول الحسن وعكرمة وروي عن عبادة( {[11814]} ) بن الصامت .

وقال قتادة كان حكم البكرين الزانيين أن يؤذيا بالتعيير ، وحكم المحصنيين أن يحبسا حتى يموتا ، فنسخ بالحدود ، : الجلد للبكرين ونفي الرجل بعد الجلد عاماً ، والرجم على الثيبين بعد الجلد ، والجلد في جميعهم مائة( {[11815]} ) .

وقال مجاهد : ( وَالتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ ) عام لكل ثيب وبكر من النساء ( وَالذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنكُمْ ) عام لكل من زنى من الرجال خاصة ثيباً كان أو بكراً( {[11816]} ) ، وهو مروي عن ابن عباس( {[11817]} ) . واختاره النحاس وغيره( {[11818]} ) ، لأنه قال ( وَالتِي يَاتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ ) ولم يقل منكم ، وقال ( وَاللذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنْكُمْ ) أي يأتين الفاحشة منكم يريد الرجال بعد ذكر النساء ، ثم نسخت الآيتان بالحدود( {[11819]} ) .

وقد اختلف في الحد على الثيب فقال علي رضي الله عنه( {[11820]} ) : الجلد ثم الرجم ، وقال( {[11821]} ) : أجلد بكتاب الله ، وأرجم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم( {[11822]} ) . وبه قال الحسن وإسحاق( {[11823]} ) . وأكثر العلماء على أن عليه الرجم دون الجلد ، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه( {[11824]} ) وهو [ قول ]( {[11825]} ) مالك ، والشافعي( {[11826]} ) ، والكوفيين والأوزاعي والنخعي( {[11827]} ) ، فمنهم من قال : إن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم جعل سنة تنسخ القرآن( {[11828]} ) ، ومنهم من قال هو منسوخ بما حفظ لفظه ونسخ رسمه في المصحف من قوله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة( {[11829]} ) .

واختلف في نفي البكر( {[11830]} ) : فقال العمران( {[11831]} ) ما : يجلد ولا ينفى ، وكذلك قال عثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم وهو قول عطاء وسفيان( {[11832]} ) ومالك ، والشافعي ، وابن أبي ليلى( {[11833]} ) ، وأحمد وإسحاق وغيرهم .

واختلف في المعترف في الزنا . فقال الحسن إذا اعترف ( يحد )( {[11834]} ) وهو قول الشافعي( {[11835]} ) وأبي ثور( {[11836]} ) ، وروي عن مالك أنه قال : إذا اعترف من غير محنة يحد ، وإن اعتذر ، وذكر عذراً يمكن قُبِل منه ، وإن اعترف بمحنة قبل منه الرجوع عن اعترافه( {[11837]} ) .

وقال قوم : لا يحد حتى يعترف أربع مرات في موضع أو في مواضع( {[11838]} ) قال مالك : لا يقام عليه الحد إن كان بعذر وهو مذهب الأوزاعي .

وأما الإحصان( {[11839]} ) الذي يجب معه الرجم فهو الوطء للمسلمة الحرة بنكاح صحيح( {[11840]} ) ، فإن كان فاسداً( {[11841]} ) لم يكن محصناً بذلك النكاح في قول عطاء وقتادة والليث ومالك( {[11842]} ) ، والشافعي( {[11843]} ) وغيرهم ، وقال غيرهم من الفقهاء : يحصن بذلك النكاح( {[11844]} ) .

وروي عن علي وجابر بن عبد الله في الذمية إذا دخل بها ، والمسلمة سواء( {[11845]} ) ، وعند الحسن البصري وعطاء والزهري ، وقتادة ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق يحصن ( المسلم ) ( {[11846]} ) ، ولا يحصن المسلم الذمية( {[11847]} ) .

وروي عن ابن عمر أنها لا تحصنه ( وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي ومجاهد والثوري( {[11848]} ) .

والأمة يدخل بها الحر تحصنه( {[11849]} ) عند ابن المسيب والزهري ، ومالك ، والشافعي . وقال عطاء والحسن البصري وابن سيرين ، وقتادة ، والثوري وغيرهم : لا تحصنه( {[11850]} ) فأما الحرة تكون تحت العبد فهو يحصنها عند ( ابن )( {[11851]} ) المسيب والحسن البصري ، ومالك ، والشافعي ، وأبي ثور وغيرهم( {[11852]} ) .

وقال عطاء والنخعي ، وأصحاب الرأي : لا يحصنها .

ومذهب مالك والشافعي والأوزاعي في الصبية( {[11853]} ) التي لم تبلغ ( يدخل بها البالغ الحر : أنها تحصنه ، ولا يحصنها ، وقال أصحاب الرأي لا تحصنه( {[11854]} ) الصبية ، ولا المجنونة )( {[11855]} ) .

وقال الشافعي تحصنه المجنونة إذا دخل بها .

وقال مالك في الصبي : إذا جامع امرأته لا يحصنها( {[11856]} ) .

وقال ابن عبد الحكم( {[11857]} ) : لا يحفر للمرجوم ويرجم على وجه الأرض وهو قول أصحاب الرأي ، وقال غيره : يحفر له ، وكلهم قالوا : يرجم حتى يموت( {[11858]} ) .


[11804]:- (د): لا يكون.
[11805]:- (أ): النساء.
[11806]:- انظر: معاني الزجاج 2/28 وإعراب النحاس 1/401.
[11807]:- النور آية 2.
[11808]:- انظر: الإيضاح في الناسخ 179، وذهب ابن العربي إلى أن الآية ليست بمنسوخة. انظر: أحكام ابن العربي 1/354.
[11809]:- انظر: جامع البيان 4/239.
[11810]:- (أ): الزاني.
[11811]:- انظر: جامع البيان 4/293 والدر المنثور 2/456.
[11812]:- (ج): البكريين.
[11813]:- انظر: أحكام القرآن للشافعي 1/304.
[11814]:- هو أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي، توفي 34 هـ صحابي، وأحد النقباء، حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموصوفين بالورع. انظر: طبقات ابن سعد 7/387، أسد الغابة 3/56.
[11815]:- انظر: جامع البيان 4/292.
[11816]:- انظر: تفسير مجاهد 1/149-150.
[11817]:- انظر: جامع البيان 4/292، والدر المنثور 2/457.
[11818]:- انظر: جامع البيان 4/295، وإعراب النحاس 1/402.
[11819]:- انظر: الناسخ لقتادة 39 والإيضاح في النسخ 179.
[11820]:- (أ) (ج): عنه عليه.
[11821]:- (ج): فقال.
[11822]:- انظر: الأم للشافعي 7/190، وبداية المجتهد 2/435.
[11823]:- هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي المروزي ابن راهويه توفي 238 هـ عالم ثقة فقيه أخذ عنه أحمد والبخاري ومسلم. انظر: طبقات الفقهاء 108 وميزان الاعتدال 1/182 والتهذيب 1/216.
[11824]:- انظر: الأم للشافعي 8/644.
[11825]:- ساقط من (أ).
[11826]:- انظر: الأم للشافعي 6/144-166.
[11827]:- انظر: أحكام الجصاص 1/107.
[11828]:- وهو جائز عند جمهور الفقهاء والمتكلمين. انظر: كشف الأسرار 3/177، والنسخ في القرآن 2/828.
[11829]:- إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه في قوله: الشيخ والشيخة. وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة. انظر: الموطأ (686)، ومسلم 5/116 والإيضاح في الناسخ 179، ونواسخ القرآن 120، والنسخ عند الأصوليين 455.
[11830]:- اختلف الفقهاء في التغريب مع الجلد، فقال أبو حنفية وأصحابه لا تغريب أصلاً. انظر: أحكام الجصاص 2/106، 3/255 وقال الشافعي: لابد من التغريب مع الجلد لكل زان. انظر: الأم 6/144. وقال مالك: يغرب الرجل ولا تغرب المرأة وبه قال الأوزاعي. انظر: أحكام ابن العربي 1/358.
[11831]:- العمران: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.
[11832]:- هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي توفي 116 أمير المؤمنين في الحديث، سيد أهل زمانه في الدين والتقوى أعرض عن القضاء. انظر: تاريخ الثقات 190 والمعارف 217 وطبقات الفقهاء 84 والتهذيب 45/15.
[11833]:- وهو محمد بن عبد بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي توفي 148 من أصحاب الرأي أخذ عن حمزة والكسائي ووكيع. انظر: تاريخ الثقات 407 وطبقات الفقهاء 84 والتهذيب.
[11834]:- ساقط من (أ).
[11835]:- انظر: الأم 6/144.
[11836]:- هو أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي توفي 240 هـ، كان ورعاً فاضلاً عالماً وفقيهاً، وثقه النسائي وهو صاحب الشافعي. انظر: طبقات الفقهاء 101 وميزان الاعتدال 1/290.
[11837]:- انظر: الموطأ 688، والرسالة 85، وبداية المجتهد 2/438.
[11838]:- يشترط أبو حنيفة وأحمد أن يقر الزاني أربع مرات قياساً على اشتراط الشهود الأربعة، وأن يكون الإقرار في مجلس أو مجالس كما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز. انظر: تخريج الفروع على الأصول 430. والمغني لابن قدامة 10/165 وأما مالك والشافعي فمذهبهما الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة، لأن الإقرار إخبار، والخبر لا يزيد بالتكرار، إن ثبت على ذلك ولم يرجع. انظر: المدونة الكبرى 4/383 وبداية المجتهد 2/438.
[11839]:- أصل الإحصان المنع، والمراد هنا إحصان الفرج بالزواج. انظر: المفردات 120، واللسان "حصن" 13/119.
[11840]:- أي العقد الصحيح اللازم ما ترتب عليه للطرفين انظر: المنتقى للباجي 3/332.
[11841]:- (أ): فاسد وهو خطأ.
[11842]:- قال ابن حبيب: كل نكاح كان حراماً أو فاسداً يفسخ قبل الدخول أو بعده، فلا يحصن الوطء فيه. انظر: المدونة الكبرى 4/398، وبداية المجتهد 2/3 و59.
[11843]:- انظر: الأم 5/265.
[11844]:- مذهب مالك أن يفسخه قبل الدخول ويثبته بعده، والأصل فيه عنده أن لا فسخ، ولكن يحتاط وهو بمنزلة ما يرى في كثير من البيوع الفاسدة التي تفوت بحوالة الأسواق وغير ذلك انظر: بداية المجتهد 2/59.
[11845]:- المراد أن المسلم يحصن بزواجه من الذمية والمسلمة. انظر: الأم 5/8 و9.
[11846]:- ساقط من (أ).
[11847]:- إذا نكح المسلم الذمية أحصنته وهو، لا يحصنها حتى تنكح بعد عتقها لأن من تمام الإحصان بين الزوجين أن يكونا حرين. انظر: الموطأ 443 والمنتقى 3/334 والأم 5/8 و6/167.
[11848]:- المسلم الحر لا يحصن الذمية لأنها ليست كفؤاً له. انظر: المصدر السابق.
[11849]:- ساقط من (أ).
[11850]:- حكم الذمية هو حكم الأَمَة في هذه المسألة.
[11851]:- ساقط من (أ).
[11852]:- إن العبد يحصن زوجته الحرة إذا كانت مسلمة، وبه قال جمهور الفقهاء، وقال عطاء والحنفية: لا يحصن ودليل الجمهور أنها موطوءة بنكاح عار عن الفساد، وقد وجدت منه صفات الإحصان، فوجب أن تكون محصنة كما لو كان زوجها حراً، ودليل عطاء والحنفية أن هذا العقد فاسد لانعدام التكافؤ في الحرية بين الطرفين. انظر: المدونة الكبرى 4/398 والمنتقى 3/333.
[11853]:- (أ) (د): المصية.
[11854]:- لا تحته.
[11855]:- ساقط من (أ).
[11856]:- إذا كان الناكح كبيراً، والمنكوحة صغيرة فله حكم الجماع التام فيجب أن يؤثر في حق من تمت له صفات الإحصان دون غيره، ولا يؤثر في حق من عدم فيه شرط من شروط الإحصان كالصبية التي عدم فيها البلوغ. أما الصغير فإنه يكون محصناً بجماعه ويحصن الكبيرة، ولا يحصن الصغيرة. ووجه ذلك أن الفعل مضاف إلى فاعله وهو الرجل، فيجب أن يعتبر بحاله، فإن كان كبيراً فهو جماع، وإن كان صغيراً فليس بجماع. انظر: الأم 6/159، والمنتقى 3/331. وأما نكاح المجنونة فالاعتبار في ذلك بحال الزوج فإن كان مفيقاً دونها فهما محصنان وإن كان مجنوناً دونها فلا يحصن بذلك أحدهما. وبهذا قال أشهب ووجهه أن الجنون لا ينقص من الحرية، وما لا ينقص من الحرية فالمعتبر فيه حال الزوج وإن كان مجنوناً، وهي المفيقة فهي المحصنة دونه. انظر: المنتقى 3/323.
[11857]:- هو أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم توفي 214، وكان من أصحاب مالك. انظر: تاريخ الثقات 266 وترتيب المدارك 3/363.
[11858]:- إذا كان المرجو رجلاً أقيم عليه الحد قائماً، ولا يوثق بشيء ولا يحفر له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز أو غيره، وأما إذا كانت المرجومة امرأة فأبو حنيفة والشافعي يجيزان الحفر لها إلى صدرها. لأن ذلك أستر لها، ومذهب مالك عدم الحفر. انظر: المدونة الكبرى 4/400.