{ ما أنت بنعمة } بنبوة . { ربك بمجنون } هو جواب لقولهم { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون }( الحجر- 6 ) فأقسم الله بالنون والقلم وما يكتب من الأعمال فقال : { ما أنت بنعمة ربك } بنبوة ربك ، { بمجنون } هذا جواب القسم أي : إنك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة . وقيل : بعصمة ربك . وقيل : هو كما يقال : ما أنت بمجنون والحمد لله . وقيل : معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي : والحمد لك .
وجواب القسم قوله : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } .
أي : وحق القلم الذي يكتب به الكاتبون من مخلوقاتنا المتعددة ، إنك - أيها الرسول الكريم - لمبرأ مما اتهمك به أعداؤك من الجنون ، وكيف تكون مجنونا وقد أنعم الله - تعالى - عليك بالنبوة والحكمة .
فالمقصود بالآيات الكريمة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المشركين ، ودفع تهمهم الباطلة دفعا يأتي عليها من القواعد فيهدمها ، وإثبات أنه رسول من عنده - تعالى - .
وأقسم - سبحانه - بالقلم ، لعظيم شرفه ، وكثرة منافعه ، فبه كتبت الكتب السماوية ، وبه تكتب العلوم المفيدة . . وبه يحصل التعارف بين الناس . .
وصدق الله إذ يقول : { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم . الذى عَلَّمَ بالقلم . عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال القرطبى : أقسم - سبحانه - بالقلم . لما فيه من البيان كاللسان . وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، ومنه قول أبى الفتح البستى :
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم . . . وعدُّوه مما يُكْسِبُ المجد والكرَمْ
كفى قلم الكتاب عزا ورفعة . . . مدى الدهر أن الله أقسم بالقلَمْ
والضمير في قوله : { يَسْطُرُونَ } راجع إلى غير مذكور في الكلام ، إلا أنه معلوم للسامعين ، لأن ذكر القلم يدل على أن هناك من يكتب به .
ونفى - سبحانه - عنه صلى الله عليه وسلم الجنون بأبلغ أسلوب ، لأن المشركين كانوا يصفونه بذلك ، قال - تعالى - . { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } قال الآلوسي : قوله : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } . جواب القسم ، والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي . ومجنون خبر ما ، والباء الأولى للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير في الخبر ، والعامل فيها معنى النفي .
والمعنى : انتفى عنك الجنون في حال كونك ملتبسا بنعمة ربك أي : منعما عليك بما أنعم من حصافة الرأي ، والنبوة . .
وفي إضافته صلى الله عليه وسلم إلى الرب - عز وجل - مزيد إشعار بالتسلية والقرب والمحبة . ومزيد إشعار - أيضا - بنفي ما افتراه الجاهلون من كونه صلى الله عليه وسلم مجنونا ، لأن هذه الصفة لا تجتمع في عبد أنعم الله - تعالى - عليه ، وقربه ، واصطفاه لحمل رسالته وتبليغ دعوته .
( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . .
فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي . . يثبت نعمة الله على نبيه ، في تعبير يوحي بالقربى والمودة : حين يضيفه سبحانه إلى ذاته : ( ربك ) . وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة الله ، على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه . .
وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في قومه ، من قولتهم هذه عنه ، وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة . وهم الذين لقبوه بالأمين ، وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته ، بعد عدائهم العنيف له ، فقد ثبت أن عليا - كرم الله وجهه - تخلف عن رسول الله أياما في مكة ، ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده ؛ حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف . وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة . فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته ? قال أبو سفيان - وهو عدوه قبل إسلامه - لا ، فقال هرقل : ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله !
إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم ، المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم . ولكن الحقد يعمي ويصم ، والغرض يقذف بالفرية دون تحرج ! وقائلها يعرف قبل كل أحد ، أنه كذاب أثيم !
( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . . هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم ، ردا على ذلك الحقد الكافر ، وهذا الافتراء الذميم .
وقوله { بنعمة ربك } جعله في الكشاف حالا من الضمير الذي في مجنون المنفي . والتقدير : انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك . والباء للملابسة أو السببية ، أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص . والذي أرى أن تكون جملة معترضة وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره : أن ذلك بنعمة ربك ، على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله باسم الله وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي الفضل بن عباس اللهبي :
كل له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتقلـونـا
وذهب ابن الحاجب في أماليه أن { بنعمة ربك } متعلق ما يتضمنه حرف { ما } النافية من معنى الفعل وقدره : انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك . ولا يصح تعلقه بقوله { مجنون } إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله وليس ذلك بمستقيم . واستحسن هذا ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الثالث لولا أنه مخالف لاتفاق أن النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلا أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك : يا لزيد يريد في الاستغاثة ، وتقدم نظيره في قوله { فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } في سورة الطور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.