السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

وقوله تعالى : { ما أنت } أي : يا أعلى المتأهلين لخطابنا { بنعمة } أي : بسبب إنعام { ربك } أي : المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة ، بأن خصك بالقرآن الذي هو الجامع لكل علم وحكمة { بمجنون } جواب القسم ، وهو نفي ، قال الزجاج : أنت هو اسم ما وبمجنون الخبر . وقوله تعالى : { بنعمة ربك } كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى ذلك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد ربك عاقل بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون ، وقال البغوي : ما أنت بنعمة ربك بنبوة ربك بمجنون ، أي : إنك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله تعالى عليك بالنبوة والحكمة ، وقيل : بعصمة ربك ، وقيل : هو كما يقال : ما أنت بمجنون والحمد لله ، وقيل : معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أي : والحمد لك .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير امتلأ غباراً ، فقالت له : ما لك ، فذكر جبريل عليه السلام وأنه قال له : { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] فهو أول ما نزل من القرآن قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة فذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمها ، وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إلي محمداً فأرسلته ، فقال : هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو أحداً ، قال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ، ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم . ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا : إنه مجنون ، وأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آيات من أول هذه السورة .

وقال ابن عباس : أول ما نزل قوله تعالى : «سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى : 1 ] وهذه الآية هي الثانية نقله الرازي ، وذكر القرطبي أن المشركين كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم مجنون به شيطان ، وهو قولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم : { فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } [ الطور : 29 ] ، أي : برحمة ربك والنعمة هاهنا الرحمة ، وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة ، وقال القرطبي : يحتمل أن النعمة هاهنا قسم ، تقديره ما أنت ونعمة ربك بمجنون ، لأن الواو والباء من حروف القسم .

وقال الرازي : إنه تعالى وصفه بصفات ثلاث :

الأولى : نفي الجنون عنه ، ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها ، لأن قوله : { بنعمة ربك } يدل على أن نعم الله تعالى ظاهرة في حقه ، من الفصاحة التامة والعقل الكامل ، والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، وإذا كانت هذه النعم المحسوسة ظاهرة ووجودها ينافي حصول الجنون ، فالله تعالى نبه على أن هذه الدقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم : مجنون .