الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } : قد تقدَّم نظيرُ هذا في الطور في قولِه { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ } [ الطور : 29 ] وتقدَّم تحقيقُه . إلاَّ أن الزمخشريَّ قال هنا : " فإنْ قلتَ : بِمَ تتعلَّقُ الباءُ في " بنعمة ربك " وما محلُّه ؟ قلت : تتعلَّق بمجنون منفياً ، كما تتعلَّقُ بعاقل مثبتاً كقولك : " أنت بنعمةِ اللِّهِ عاقلٌ " ، مستوياً في ذلك الإِثباتُ والنفيُ استواءَهما في قولِك : " ضَرَبَ زيدٌ عَمْراً " و " ما ضَرَبَ زيدٌ عمراً " تُعْمِلُ الفعلَ منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً . ومحلُّه النصبُ على الحالِ ، كأنه قال : ما أنت مجنونٌ مُنْعِماً عليكَ بذلك ، ولم تَمْنَع الباءُ أَنْ يعملَ " مجنون " فيما قبلَه لأنها زائدةٌ لتأكيدِ النفي " .

قال الشيخ : " وما ذهب إليه الزمخشريُّ مِنْ أنَّ الباءَ تتعلَّقُ بمجنون ، وأنه في موضعِ الحالِ يحتاج إلى تأمُّلِ ، وذلك أنَّه إذا تَسَلَّط النفي على محكوم به ، وذلك له معمولٌ ، ففي ذلك طريقان ، أحدهما : أنَّ النفيَ تَسَلَّطَ على ذلك المعمولِ فقط ، والآخر : أَنْ يُسَلَّط النفيُ على المحكوم به ، فينتفيَ مَعمولُه لانتفائه . بيان ذلك : تقولُ : " ما زيدٌ قائمٌ مُسْرعاً " فالمتبادَرُ إلى الذهن أنَّه مُنْتَفٍ إسراعُه دونَ قيامِه فيكونُ قد قامَ غيرَ مُسْرِع . والوجهُ الآخَرُ : أنَّه انتفَى قيامُه فانتفى إسراعُه ، أي : لا قيامَ فلا إسراعَ . وهذا الذي قَرَّرْناه لا يتأتَّى معه قولُ الزمخشريِّ بوجهٍ ، بل يؤديِّ إلى ما لا يجوزُ النطقُ به في حَقِّ المعصوم " انتهى .

واختار الشيخ أنْ يكونَ " بنعمة " قَسَماً مُعْتَرِضاً به بين المحكوم عليه والحُكم على سبيلِ التأكيدِ والتشديدِ والمبالغةِ في انتفاءِ الوصفِ الذمَّيم . وقال ابن عطية : " بنعمةِ ربِّك " اعتراضٌ كما تقول للإِنسان : " أنت بحمد اللَّهِ فاضلٌ " قال : " ولم يُبَيِّنْ ما تتعلَّقُ به الباءُ في " بنعمة " . قلت : والذي تتعلَّق به الباءُ في هذا النحو معنى مضمونِ الجملةِ نفياً وإثباتاً ، كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد اللَّهِ ، والباءُ سببيةٌ ، وثَبَتَ لك الفَضْلُ بحمدِ اللَّهِ تعالى ، وأمَّا المثالُ الذي ذكرَه فالباءُ تتعلَّق فيه بلفظ " فاضل " . وقد نحا صاحب " المنتخب " إلى هذا فقال : " المعنى : انتفى عنك الجنونُ بنعمةِ ربك . وقيل : معناه : ما أنت بمجنونٍ ، والنعمة لربِّك ، كقولِهم : " سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك " ، أي : والحمدُ لله . ومنه قولُ لبيدٍ :

وأُفْرِدْتُ في الدنيا بفَقْدِ عشيرتي *** وفارقني جارٌ بأَرْبَدَ نافِعُ

أي : وهو أَرْبَدُ " . وهذا ليس بتفسير إعرابٍ بل تفسيرُ معنى .