مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، وإن لك لأجرا غير ممنون ، وإنك لعلى خلق عظيم } . اعلم أن قوله : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } فيه مسألتان :

المسألة الأولى : روي عن ابن عباس أنه عليه السلام غاب عن خديجة إلى حراء ، فطلبته فلم تجده ، فإذا به وجهه متغير بلا غبار ، فقالت له مالك ؟ فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له : { اقرأ باسم ربك } فهو أول ما نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ، ثم صلى وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد ، فذكر عليه الصلاة والسلام ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمها ، وكان قد خالف دين قومه ، ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إلي محمدا ، فأرسلته فأتاه فقال له : هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو إلى الله أحدا ؟ فقال : لا ، فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا ، ثم مات قبل دعاء الرسول ، ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا : إنه لمجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آيات من أول هذه السورة ، ثم قال ابن عباس : وأول ما نزل قوله : { سبح اسم ربك } وهذه الآية هي الثانية .

المسألة الثانية : قال الزجاج : { أنت } هو اسم { ما } و { بمجنون } الخبر ، وقوله : { بنعمة ربك } كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون ( بنعمة ربك ) كما يقال : أنت بحمد الله عاقل ، وأنت بحمد الله لست بمجنون ، وأنت بنعمة الله فهم ، وأنت بنعمة الله لست بفقير ، ومعناه أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت ، والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه ، وقال عطاء وابن عباس : يريد ( بنعمة ربك ) عليك بالإيمان والنبوة ، وهو جواب لقولهم : { يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } واعلم أنه تعالى وصفه هاهنا بثلاثة أنواع من الصفات .

الصفة الأولى : نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله : { بنعمة ربك } يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية ، والبراءة من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون ، فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له : إنه مجنون .