اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

قوله { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } .

قد تقدم الكلام على نظيره في «الطُّور » في قوله { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ }[ الطور : 29 ] .

إلا أن الزمخشري قال هنا{[57510]} : «فإن قلت : بم تتعلق الباء في " بِنعْمَةِ ربِّك " وما محله ؟ قلت : متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك : أنت بنعمة ربِّك عاقل ، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً ، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال كأنه قال : ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل " مَجْنُون " فيما قبله ، لأنها زائدة لتأكيد النفي » .

قال أبو حيَّان{[57511]} : «وما ذهب إليْهِ الزمخشريُّ ، من أن الباء تتعلق بمجنون ، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان :

أحدهما : أن النفي يسلط على المعمول فقط .

والآخر : أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه ، ببيان ذلك أن تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع ، والوجه الآخر : أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي : لا قيام ، فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري ، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم » انتهى .

واختار أبو حيان أن يكون «بِنعمَةِ » قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم{[57512]} .

وقال ابن عطية{[57513]} : «بنِعْمةِ ربِّك » اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل ، قال : ولم يبين ما تتعلق به الباء في «بِنعْمَةِ » .

قال شهاب الدين{[57514]} : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله ، والباء سببية ، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى ، وأما المثال الذي ذكره ، فالباء تتعلق فيه بلفظ «فاضل » وقد نحا صاحب «المُنَتخَب » إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك .

وقيل : معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي : والحمد لله ؛ وقول لبيد : [ الطويل ]

4808 - وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي***وفَارقَنِي جارٌ بأربدَ نَافِعُ{[57515]}

أي وهو أربد ، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى .

فصل في إعراب الآية

قوله تعالى : { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } . هذا جواب القسم ، وهو نفي .

قال الزجاج{[57516]} : «أنت » هو اسم «مَا » و «مَجْنُون » الخبر ، وقوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل .

روى ابن عباس : أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء ، وطلبته ، فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار ، فقالت : ما لك ؟ .

فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له : { اقرأ باسم رَبِّكَ }[ العلق : 1 ] ، فهو أول ما نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضأ ، وتوضأت ، ثم صلى ، وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمداً ، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل - عليه السلام - أن تدعو أحداً ؟ فقال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ، ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش ، فقالوا : إنه مجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آياتٍ من أول هذه السورة{[57517]} ، قال ابن عباسٍ : أول ما نزل قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ }[ الأعلى : 1 ] ، وهذه الآية هي الثانية{[57518]} ، نقله ابن الخطيب{[57519]} .

وذكر القرطبيُّ{[57520]} : أن المشركين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : مجنون به شيطان وهو قوله { يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } أي : برحمة ربك ، والنعمة هاهنا الرحمة . وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربِّك عليك بالإيمان والنبوة .

قال القرطبي{[57521]} : «ويحتمل أن النعمة - هاهنا - قسم ، تقديره : ما أنت ، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم » وقد تقدم .

فصل

قال ابن الخطيب{[57522]} : اعلم أنه تعالى وصفه - هاهنا - بصفات ثلاث :

الأولى : نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها ، لأن قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } يدل على أن نعم اللَّه تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة ، والعقل الكامل ، والسيرة المرضية ، والبراءة من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة ، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنونِ ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم : «إنه مجنُون » .


[57510]:ينظر: الكشاف 4/584.
[57511]:ينظر: البحر المحيط 8/302.
[57512]:ينظر السابق.
[57513]:ينظر: المحرر الوجيز 5/346.
[57514]:ينظر: الدر المصون 6/350.
[57515]:البيت للبيد بن ربيعة، ينظر ديوانه (168)، القرطبي 18/148، والبحر 8/303 والدر المصون 6/350 ورواية الديوان: وقد كنت في أكناف جار مضنة *** ففارقني جار بأربد نافع.
[57516]:ينظر معاني القرآن للزجاج 5/204.
[57517]:ذكره الرازي في "تفسيره" (30/70).
[57518]:ينظر المصدر السابق.
[57519]:ينظر: الفخر الرازي 30/70.
[57520]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/148.
[57521]:السابق.
[57522]:ينظر: الفخر الرازي 30/70.