البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

وجواب القسم : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } .

ويظهر أن { بنعمة ربك } قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن عطية : { بنعمة ربك } اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل . انتهى .

ولم يبين ما تتعلق به الباء في { بنعمة } .

وقال الزمخشري : يتعلق { بمجنون } منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي ، والمعنى : استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة . انتهى .

وما ذهب إليه الزمخشري من أن { بنعمة ربك } متعلق { بمجنون } ، وأنه في موضع الحال ، يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط ، والآخر : أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك ، تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع .

والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي لا قيام فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه ، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى الله عليه وسلم .

وقيل معناه : ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي والحمد لله ، ومنه قول لبيد :

وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي *** وفارقني جار بأربد نافع

أي : وهو أربد . انتهى .

وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب .

وفي المنتخب ما ملخصه المعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، أي حصول الصفة المحمودة ، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك .

ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها ، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم : إنه مجنون .