{ فإذا بلغن أجلهن } أي قربن من انقضاء عدتهن ، { فأمسكوهن } أي راجعوهن ، { بمعروف أو فارقوهن بمعروف } أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم ، { وأشهدوا ذوي عدل منكم } على الرجعة أوالفراق . أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق . { وأقيموا الشهادة لله } أيها الشهود { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر . ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } قال عكرمة والشعبي والضحاك : يجعل له مخرجاً إلى الرجعة ومن يتق الله فليطلق للسنة . وأكثر المفسرين قالوا : نزلت في عوف ابن مالك الأشجعي ، أسر المشركون ابناً له يسمى مالكاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أسر العدو ابني ، وشكا إليه أيضاً إليه الفاقة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " اتق الله واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " ، ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه ، وقد غفل عنه العدو ، فأصاب إبلاً وجاء بها إلى أبيه . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فتغفل عنه العدو ، فاستاق غنمهم ، فجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاة . فنزلت : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } في ابنه .
ثم بين - سبحانه - حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال - تعالى - : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } .
والفاء فى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ . . } للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة .
والمراد ببلوغ أجلهن ، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده ، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها ، لأن الإمساك يكون قبل انقضائها .
فالكلام من باب المجاز ، لمشابهة مقاربة الشىء ، بالحصول فيه ، والتلبس به .
والمراد بالإمساك المراجعة وعدم السير فى طريق مفارقتها .
والمعروف : ما أم به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين ، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق .
والمعنى : لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التى تتعلق بعدة النساء ، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن ، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة ، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة ، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء .
والأمر فى قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } و { فَارِقُوهُنَّ } للإباحة ، و " أو " للتخيير .
والتعبير بالإمساك للإشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة ، ما عدا الاستمتاع بها ، فعليه أن يستمسك بها ، ولا يتسرع فى فراقها ، فهى ما زالت فى عصمته .
وقدم - سبحانه - الإمساك على الفراق ، للإشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية ، وإبقاء للمودة والرحمة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } ثم قال - سبحانه - : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى : وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لأن الإشهاد يقطع التنازع ، ويدفع الريبة ، وينفى التهمة .
والأمر فى قوله : { وَأَشْهِدُواْ } للندب والاستحباب فى حالتى المراجعة والمفارقة ، فهو كقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وقال الشافعى فى القديم : إنه للوجوب فى الرجعة . وزعم الطبرسى أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق ، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت ، وأنه للوجوب ، وشرط فى صحة الطلاق .
وقوله : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } معطوف على ما قبله ، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة .
والمراد بإقامة الشهادة : أداؤها بالعدل والصدق .
أى : وعليكم - أيها المؤمنون - عند أدائكم للشهادة ، أن تؤدوها بالعدل والأمانة ، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله - تعالى - وامتثالا لأمره .
والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم ، أمر واجب ، لأن الشهادة هنا اسم للجنس ، ولأن الله - تعالى - يقول فى آية أخرى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ . . } والإشارة فى قوله - سبحانه - : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام ، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهى عدتها ، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل .
والوعظ معناه : التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر فى القلوب ، وتهدى النفوس إلى الرشد .
أى : ذلك الذى ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به ، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله - تعالى - وباليوم الآخر إيمانا حقا .
وخص - سبحانه - الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام ، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا .
ثم بشر - سبحانه - عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
والجملة الكريمة اعتراض بين قوله - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } وبين قوله - سبحانه - بعد ذلك : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض } وجىء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته - تعالى - وآدابه ، ولحض الزوجين على مراقبته - سبحانه - وتقواه .
أى : ومن يتق الله - تعالى - فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته . يجعل له - سبحانه - مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها ، ومن شدائد الموت وغمراته ، ومن أهوال الآخرة وعذابها ، ويزرقه الفوز بخير الدارين ، من طرق لا تخطر له على بال ، ولا ترد له على خاطر ، فإن أبواب رزقه - سبحانه - لا يعلمها أحد إلا هو - عز وجل - .
وفى هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن ، حتى يثبت فؤاده ، ويستقيم قلبه ، ويحرص على طاعة الله - تعالى - فى كل أحواله .
قال القرطبى : قال أبو ذر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ، ثم تلا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
وعن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية فى عوف بن مالك الأشجعى ، أسر المشركون ابنا له ، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك . فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " اتق الله واصبر ، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " .
فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى وإياك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله . فقالت : نعم ما أمرنا ، فجعلا يقولان ذلك ، فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف ، فنزلت الآية . .
ثم قال - تعالى - : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
ولفظ { حَسْبُ } بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر ، ومعنى { بَالِغُ أَمْرِهِ } بإضافة الوصف إلى مفعوله ، أى : يبلغ ما يريده - سبحانه - ، وقرأ الجمهور { بَالِغُ أَمْرِهِ } بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية ، والمراد بأمره ، شأنه ومراده .
أى : ومن يفوض أمره إلى الله - تعالى - ويتوكل عليه وحده ، فهو - سبحانه - كافيه فى جميع أموره ، لأنه - سبحانه - يبلغ ما يريده ، ولا يفوته مراد ، ولا يعجزه شىء ، ولا يحول دون أمره حائل . . . ومن مظاهر حكمه فى خلقه ، أنه عز وجل - قد جعل لكل شىء تقديرا قبل وجوده ، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقوله - سبحانه - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } وقوله - عز وجل - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } قال بعض العلماء ما ملخصه : ولهذه الجملة ، وهى قوله - تعالى - : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن ، فى ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض . . . فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البيانى الناشىء عما اشتملت عليه جمل : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . . } إلى قوله : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت ، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله ، فيقول : أين أنا من تحصيل هذا الشىء . . . ويتملكه اليأس . . . فيقول الله - تعالى - له : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أى : فلا تيأس أيها الإنسان .
ولها موقع التعليل الجملة { وَأَحْصُواْ العدة } فإن العدة من الأشياء التى تعد ، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
ولها موقع التذبيل لجملة { وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى : الذى وضع تلك الحدود ، قد جعل الله لكل شىء قدرا لا يعدوه ، كما جعل الحدود .
ولها موقع التعليل لجملة : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذى جعله الله لمدة العدة ، فقد حصل المقصد الشرعى ، الذى أشار إليه بقوله - تعالى - : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .
ولها موقع التعليل لجملة : { وَأَقِيمُواْ الشهادة } فإن الله - تعالى - جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع .
والنفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة ، وما فيها من أوضاع وملابسات ، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل ، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة ، وتشعر أنها سرمد ، وأنها باقية ، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها . . وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان .
وليست هذه هي الحقيقة . فقدر الله دائما يعمل ، ودائما يغير ، ودائما يبدل ، ودائما ينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع . فرج بعد ضيق . وعسر بعد يسر . وبسط بعد قبض . والله كل يوم هو في شأن ، يبديه للخلق بعد أن كان عنهم في حجاب .
ويريد الله أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس البشر ، ليظل تطلعهم إلى ما يحدثه الله من الأمر متجددا ودائما . ولتظل أبواب الأمل في تغيير الأوضاع مفتوحة دائمة . ولتظل نفوسهم متحركة بالأمل ، ندية بالرجاء ، لا تغلق المنافذ ولا تعيش في سجن الحاضر . واللحظة التالية قد تحمل ما ليس في الحسبان . . ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . .
( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ، وأشهدوا ذوي عدل منكم ، وأقيموا الشهادة لله . ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر . ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب . ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره . قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .
وهذه هي المرحلة الثانية وهذا هو حكمها . وبلوغ الأجل آخر فترة العدة . وللزوج ما دامت المطلقة لم تخرج من العدة - على آجالها المختلفة التي سبق بيانها - أن يراجعها فتعود إلى عصمته بمجرد مراجعتها - وهذا هو إمساكها - أو أن يدع العدة تمضي فتبين منه ولا تحل له إلا بعقد جديد كالزوجة الجديدة . وسواء راجع أم فارق فهو مأمور بالمعروف فيهما . منهي عن المضارة بالرجعة ، كأن يراجعها قبيل انتهاء العدة ثم يعود فيطلقها الثانية ثم الثالثة ليطيل مدة بقائها بلا زواج ! أو أن يراجعها ليبقيها كالمعلقة ، ويكايدها لتفتدي منه نفسها - وكان كلاهما يقع عند نزول هذه السورة ، وهو ما يزال يقع كلما انحرفت النفوس عن تقوى الله . وهي الضمان الأول لأحكامه في المعاشرة والفراق . كذلك هو منهي عن المضارة في الفراق بالسب والشتم والغلظة في القول والغضب ، فهذه الصلة تقوم بالمعروف وتنتهي بالمعروف استبقاء لمودات القلوب ؛ فقد تعود إلى العشرة ، فلا تنطوي على ذكرى رديئة ، لكلمة نابية ، أو غمزة شائكة ، أو شائبة تعكر صفائها عندما تعود . ثم هو الأدب الإسلامي المحض الذي يأخذ الإسلام به الألسنة والقلوب .
وفي حالتي الفراق أو الرجعة تطلب الشهادة على هذه وذاك . شهادة اثنين من العدول . قطعا للريبة . فقد يعلم الناس بالطلاق ولا يعلمون بالرجعة ، فتثور شكوك وتقال أقاويل . والإسلام يريد النصاعة والطهارة في هذه العلاقات وفي ضمائر الناس وألسنتهم على السواء . والرجعة تتم وكذلك الفرقة بدون الشهادة عند بعض الفقهاء ولا تتم عند بعضهم إلا بها . ولكن الإجماع أن لا بد من الشهادة بعد أو مع الفرقة أو الرجعة على القولين .
وعقب بيان الحكم تجيء اللمسات والتوجيهات تترى :
فالقضية قضية الله ، والشهادة فيها لله ، هو يأمر بها ، وهو يراقب استقامتها ، وهو يجزي عليها . والتعامل فيها معه لا مع الزوج ولا الزوجة ولا الناس !
( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) .
والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر . فهو يقول لهم : إنه يعظهم بما هو من شأنهم . فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون . وهذا هو محك إيمانهم ، وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان !
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي : شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده . { بِمَعْرُوفٍ } أي : محسنًا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها { بِمَعْرُوفٍ } أي : من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن .
وقوله : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : على الرجعة إذا عَزَمتم عليها ، كما رواه أبو داود وابن ماجة ، عن عمران {[28956]} بن حُصَين : أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال : طَلَّقتَ لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ، ولا تَعُدْ{[28957]} {[28958]}
وقال ابن جريج : كان عطاء يقول : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله ، عز وجل ، إلا أن يكون من عذر .
وقوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا ، ومن يخاف عقاب{[28959]} الله في الدار الآخرة .
ومن ها هنا ذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى وجوب الإشهاد في الرجعة ، كما يجب عنده في ابتداء النكاح . وقد قال بهذا طائفة من العلماء ، ومن قال بهذا يقول : إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها .
وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي : ومن يتق الله فيما أمره به ، وتَرَك ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجًا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : من جهة لا تخطر بباله .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا كَهمس بن الحسن ، حدثنا أبو السليل ، عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عَلَيَّ هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } حتى فرغ من الآية ، ثم قال : " يا أبا ذر ، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم " . وقال : فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى نَعَست ، ثم قال : " يا أبا ذر ، كيف تصنع إن{[28960]} أخرجت من المدينة ؟ . " قلت : إلى السعة والدّعة{[28961]} أنطلق ، فأكون حمامة من حمام مكة . قال : " كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟ " . قال : قلت : إلى السعة والدّعة ، وإلى الشام والأرض المقدسة . قال : " وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام ؟ " . قلت : إذا - والذي بعثك بالحق{[28962]} - أضع سيفي على عاتقي . قال : " أو خير من ذلك ؟ " . قلت : أو خير من ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع ، وإن كان عبدًا حبشيًّا " {[28963]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا زكريا ، عن عامر ، عن شُتَير{[28964]} بن شكَل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وإن أكثر آية في القرآن فرجًا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الحكم بن مصعب ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا ، ومن كل ضيق مخرجًا ، ورزقه من حيث لا يحتسب " {[28965]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
وقال الربيع بن خثيم : { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من كل شيء ضاق على الناس .
وقال عكرمة : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا . وكذا روي عن ابن عباس ، والضحاك .
وقال ابن مسعود ، ومسروق : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يعلم أن الله إن شاء منع ، وإن شاء أعطى { مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي{[28966]} من حيث لا يدري .
وقال قتادة : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من شبهات الأمور والكرب{[28967]} عند الموت ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل .
وقال السدي : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : " عوف بن مالك الأشجعي " كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ، ويقول له : " إن الله سيجعل لك فرجًا " {[28968]} فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنى{[28969]} قد أصابه من الغنم ، فنزلت فيه هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
رواه ابن جرير ، {[28970]} وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه{[28971]}
وقال الإمام أحمد ، حدثنا وكَيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد لَيُحْرَمُ الرزق بالذنب يُصيبُه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " .
ورواه النسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان - وهو الثوري - به{[28972]}
وقال محمد بن إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : له أسر ابني عوف . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " . وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها ، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة . فقالت أمه : واسوأتاه . وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعًا بمالك " . ونزل : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن هشام بن حسان{[28973]} عن عمران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مَئُونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها " {[28974]}
وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } قال الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، حدثنا قيس بن الحجاج ، عن حَنَش الصنعاني ، عن عبد الله بن عباس : أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام ، إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك ، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " .
وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد ، وابن لَهِيعة ، به{[28975]} وقال : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا بشير بن سلمان ، عن سيار أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا أن لا تُسَهَّل حاجته ، ومن أنزلها بالله أتاه الله برزق عاجل ، أو بموت آجل " .
ثم رواه عن عبد الرزاق ، عن سفيان ، عن بشير ، عن سيار أبي حمزة ، ثم قال : وهو الصواب ، وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق{[28976]}
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } كقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ]
وقوله : فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ يقول تعالى ذكره : فإذا بلغ المطلقات اللواتي هنّ في عدة أجلهنّ وذلك حين قرب انقضاء عددهنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ يقول : فأمسكوهنّ برجعة تراجعوهن ، إن أردتم ذلك بمعروف يقول : بما أمرك الله به من الإمساك وذلك باعطائها الحقوق التي أوجبها الله عليه لها من النفقة والكسوة والمسكن وحُسن الصحبة ، أو فارقوهنّ بمعروف ، أو اتركوهنّ حتى تنقضي عددهنّ ، فتبين منكم بمعروف ، يعني بإيفائها ما لها من حق قبله من الصداق والمتعة على ما أوجب عليها لها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن عبد الأعلى ، قال : ثني المحاربي عبد الرحمن بن محمد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قوله : فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ يقول : إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة ، أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض ، يقول : فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف ، والمعروف أن تحسن صحبتها أوْ تَسْريحٌ بإحْسانٍ والتسريح بإحسان : أن يدعها حتى تمضي عدتها ، ويعطيها مهرا إن كان لها عليه إذا طلقها ، فذلك التسريح بإحسان ، والمُتعة على قدر الميسرة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُن قال : إذا طلقها واحدة أو ثنتين ، يشاء أن يمسكها بمعروف ، أو يسرّحها بإحسان .
وقوله : وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ ، وذلك هو الرجعة ذوي عدل منكم ، وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما .
وقد بيّنا فيما مضى قبل معنى العدل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وذكرنا ما قال أهل العلم فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها ، أشهد رجلين كما قال الله : وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند الطلاق وعند المراجعة ، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين ، وإن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت منه بواحدة ، وهي أملك بنفسها ، ثم تتزوّج من شاءت ، هو أو غيره .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال : على الطلاق والرجعة .
وقوله : وأقِيمُوا الشّهادَةَ لِلّهِ يقول : وأشهدوا على الحقّ إذا استشهدتم ، وأدّوها على صحة إذا أنتم دُعيتم إلى أدائها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وأقِيمُوا الشّهادَةَ لِلّهِ قال : أشهدوا على الحقّ .
وقوله : ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ يقول تعالى ذكره : هذا الذي أمرتكم به ، وعرّفتكم من أمر الطلاق ، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق والإمساك عظة منا لكم ، نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر ، فيصدّق به .
وعُنِي بقوله : مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ من كانت صفته الإيمان بالله ، كالذي :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْم الاَخِرِ قال : يؤمن به .
وقوله : وَمَنْ يَتّق اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا يقول تعالى ذكره : من يخف الله فيعمل بما أمره به ، ويجتنب ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجا بأن يعرّفه بأن ما قضى فلا بدّ من أن يكون ، وذلك أن المطلق إذا طلّق ، كما ندبه الله إليه للعدّة ، ولم يراجعها في عدتها حتى انقضت ثم تتبعها نفسه ، جعل الله له مخرجا فيما تتبعها نفسه ، بأن جعل له السبيل إلى خطبتها ونكاحها ، ولو طلقها ثلاثا لم يكن له إلى ذلك سبيل .