معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } ، الآية . سبب نزول هذه الآية أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا لما نزل تحريم الخمر : يا رسول الله ، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر { ويأكلون } من مال الميسر ؟ ؟ فأنزل الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } ، وشربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر .

قوله تعالى : { إذا ما اتقوا } الشرك .

قوله تعالى : { وآمنوا } ، وصدقوا .

قوله تعالى : { وعملوا الصالحات ثم اتقوا } ، الخمر والميسر بعد تحريمهما .

قوله تعالى : { وآمنوا ثم اتقوا } ، ما حرم الله عليهم أكله .

قوله تعالى : { وأحسنوا والله يحب المحسنين } ، وقيل : معنى الأول إذا ما اتقوا الشرك ، وآمنوا وصدقوا ثم اتقوا ، أي : داوموا على ذلك التقوى ، وآمنوا ازدادوا إيماناً ، ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا ، وقيل : أي : اتقوا بالإحسان ، وكل محسن متق ، { والله يحب المحسنين } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

وقد أتبع - سبحانه - ذلك ببيان حكم من شربها ومات قبل أن ينزل تحريمها فقال - تعالى - :

{ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ . . . }

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات متقاربة في معناها ، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن البراء بن عازب قال : ما تناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر . فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها قال : فنزلت { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .

وعن ابن عباس قال : قالوا يا رسول الله ، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر " لما نزل تحريم الخمر " فنزلت { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ } الآية .

وروى الإِمام أحمد من حديث أبي هريرة أنه بعد أن نزل قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } الآيات ، قال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم ، كانوا يربون الخمر ويأكلون مال الميسر ؛ وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان ؟ فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية .

قال القرطبي : وهذه الآية وتلك الأحاديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء ، لا إثم ول مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح ، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع ، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها ، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإِباحة فلم يخطر له ، أو يكون لغلبة خوفه من الله - تعالى - وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم ، فرفع الله التوهم بقوله : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية .

وقال الآلوسي : وقيل إن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار .

وقوله - تعالى - { فِيمَا طعموا } أي : ذاقوا ، مأخوذ من الطعم - بالفتح - وهو تذوق الشيء والتلذذ به ، سواء أكان مأكولا أم مشروبا وهو المراد هنا .

قال القرطبي : وأصل هذه الكلمة في الأكل . يقال : " طعم الطعام وشرب الشراب لكن قد تجوز في ذلك فيقال : لم أطعم خبزاً ولا ماء ولا نوماً " .

والمعنى : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } أي : حرج أو إثم { فِيمَا طعموا } أي فيما تناولوه من خمر أو ما يشبهها من محرمات قبل أن يحرمها الله - تعالى - وكذلك لا إثم ولا حرج على من مات قبل التحريم .

وقوله : { إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } تحريض للمؤمنين على الأزدياد من الإِيمان والتقوى والعمل الصالح .

أي : إذا ما اتقوا الله وخافوه وتلقوا أوامره بالقبول ، وثبتوا على الإِيمان ، وأكثروا من الأعمال الصالحات .

وقوله : { ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ } معطوف على ما قبله .

أي : ثم اسصتمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله ، والإِيمان الحق به - سبحانه - فتكرير التقوى والإِيمان هنا لبيان أنه يجب استمرارهم ومواظبتهم على ذلك ، مع تمسكهم بما يقتضيه الإِيمان والتقوى من فعل الخير وابتعاد عن الشر .

وقوله : { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } معطوف على ما قبله - أيضاً - لتأكيد معنى الاستمرار على هذه التقوى طول مدة حياتهم مع إحسانهم إلى أنفسهم بالإِكثار من العمل الصالح ، وإلى غيرهم بما يستطيعونه من إسداء الخير إليه .

وقوله : { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الحض على الإِيمان والتقوى والإِحسان ، ومدح المتمسكين بتلك الصفات الحميدة .

أي : والله - تعالى - يحب المحسنين إلى أنفسهم بإلزامهم بالوقوف عند حدود الله ، والاستجابة له فيما أمر أو نهى أو أحل أو حرم يرغبة ومسارعة ، وإلى غيرهم بمد يد العون إليهم .

فالآية الكريمة من مقاصدها بيان جانب من مظاهر رحمة الله بعباده ، ورأفته بهم ؛ حيث بين لهم : أن من شرب الخمر أو لعب الميسر أو فعل ما يشبههما من محرمات ، ثم مات قبل أن ينزل الأمر بتحريم هذه الأشياء فإن الله - تعالى - لا يؤاخذه على ذلك . لأن المؤاخذة على الفعل تبدأ من وقت تحريمه لا من قبل تحريمه .

وكذلك الحال بالنسبة لمن وقع في هذه الأشياء قبل أن تحرم فإن الله لا يؤاخذه عليها ، وإنما يؤاخذه عليها بعد نزول تحريمها وهذا من فضل الله على عباده ، ورحمته بهم .

هذا ، وقد تعددت أقوال المفسرين حول مسألتين تتعلقان بهذه الآية الكريمة .

أما المسألة الأولى فهي : كيف شرط الله في رفع الجناح أي الإِثم عن المطعوعات والمشروبات الإِيمان والتقوى ، مع أن الجناح مرفوع عن المباح من هذه الأشياء حتى عن الكافرين ؟

وقد قالوا في الإِجابة على ذلك : إن تعليق نفي الجناح أي الإِثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها ؛ فإن نفي الإِثم عن الذي يتناول المباح قبل أن يحرم لا يتشرط بشرط ، وإنما تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال - وهي التقوى والإِيمان - وارد على سبيل المدح لهم ، والثناء عليهم ؛ والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات ، ولإِدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقونوا بأن من تعاطي شيئا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك ، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاهاه بعد تحريمها .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة : يا رسول الله ! ! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر ؟ فنزلت الآية { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } .

. إلخ يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا ، على معنى : أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإِحسان . ومثاله أن يقال لك : هل على زيد جناح فيما فعل ؟ فتقول : وقد علمت أن ذلك أمر مباح : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم ، وكان مؤمنا محسناً . تريد : أن زيداً تقي مؤمن محسن ، وأنه غير مؤاخذ بما فعل .

وقال أبو السعود ما ملخصه : ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح . وإنما ذكرت في حيز { إذا } شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها ، ومدحا لهم بذلك ، وحمداً لأحوالهم . فكِأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى : مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال ، وإنما كننوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك ، ولو حرما في عصرهم لا تقوهما بالمرة " .

وأما المسألة الثانية التي كثرت أقوال المفسرين فيها فهي : تكرار التقوى مرة مع الإِيمان والعمل الصالح . ومرة مع الإِيمان ومرة مع الإِحسان ؟

وقد ذكر القرطبي في ذلك أربعة أقوال فقال :

الأول : أنه ليس في ذكر التقوى تكرار ، والمعنى : اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها ، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم ، أو على معنى إضافة الإِحسان إلى الاتقاء .

والثاني : اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات ، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم وأحسنوا العمل .

الثالث : اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله ، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر ، وازدادوا إيمانا ، والمعنى الثالث ، ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا .

الرابع : قال ابن جرير : الاتقاء الأول : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق ، والدينونة به العمل . والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق ، والثالث : الاتقاء بالإِحسان والتقرب بالنوافل .

والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن جرير أقرب إلى الصواب ، وأن تكرير التقوى إنما هو لتأكيد وجوب امتلاء قلب المؤمن بها ، واستمراره على ذلك حتى يلقى الله . فإن المؤمن بمداومته على خشيته - سبحانه - يتدرج من الكمال إلى الأكمل حتى يصل في إيمانه وتقواه إلى مرتبة الإِحسان التي ترفعه إلى أعلى عليين ، والتي عرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

ولقد بين لنا القرآن في مواطن كثيرة أن المؤمن يقوى إيمانه ويزداد ، بكثرة تدبره ما أنزله الله من شرائع وهدايات . ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }

وقال تعالى - { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد طمأنت المؤمنين إلى أن الله - تعالى - لن يؤاخذهم بما تعاطوه محرمات قبل تحريمها ، وأن الواجب عليهم أن يستمروا على مراقبتهم له ، وخشيتهم منه حتى لقوه - عز وجل - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات ، وذكر فيها تحريم الخمر ، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة ، مختلفتان في الباعث والهدف .

قال بعض المتحرجين من الصحابة : كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا : فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .

وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ؛ يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع ، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ؛ وهي رجس من عمل الشيطان ، ماتوا والرجس في بطونهم !

عنذئذ نزلت هذه الآية :

( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين ) . .

نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ؛ وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ؛ وأنه لا يحرم بأثر رجعي ؛ فلا عقوبة إلا بنص ؛ سواء في الدنيا أو في الآخرة ؛ لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم ، وهي لم تحرم بعد ، ليس عليهم جناح ؛ فإنهم لم يتناولوا محرما ؛ ولم يرتكبوا معصية . . لقدكانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .

ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس : هل هو ناشى ء عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها ، أم إنه ناشى ء عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها ، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم ، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته ، أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ؛ والطاعة لأمره واجبة ، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد : إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه ! ! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ؛ وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها ، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ؟

ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب :

( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) . .

ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إلية النفس في صياغة العبارة القرآنية على النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح ، ومرة مع الإيمان ، ومرة مع الإحسان . . كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما يستريح إليه نفسي الأن . . وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو قاله ابن جرير الطبري : " الاتقاء الاول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل . والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل " . .

وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو : " إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال . فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى . ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية ، ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة . . ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى . ولابراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني . فالتقوى . . تلك الحساسية المرهفة برقابة الله ، والاتصال به في كل لحظة . والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه ، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة . والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها . . هذه هي مناط الحكم ، لا الظواهر والأشكال . . وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان " .

وأنا ، اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا . . ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر . . والله المستعان .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ إِذَا مَا اتّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } . .

يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذ أنزل الله تحريم الخمر بقوله : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِر والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ : كيف بمن هلك من إخواننا وهمُ يشربونها وبنا وقد كنا نشربها : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ منكم حرج فيما شربوا من ذلك في الحال التي لم يكن الله تعالى حرّمه عليهم ، إذَا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : إذا ما اتقى الله الأحياء منهم ، فخافوه وراقبوه في اجتنابهم ما حرّم عليهم منه وصدّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهاهم ، فأطاعوهما في ذلك كله . وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ يقول : واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربهم . ثُمّ اتّقَوْا وآمَنُوا يقول : ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه بعد ذلك التكليف أيضا ، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به ، ولم يغيروا ولم يبدّلوا . ثُمّ اتّقَوْا وأحْسَنُوا يقول : ثم خافوا الله ، فدعاهم خوفهم الله إلى الإحسان . وذلك الإحسان هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال ، ولكنه نوافل تقرّبوا بها إلى ربهم طلب رضاه وهربا من عقابه . وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ يقول : والله يحبّ المتقرّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها . فالاتقاء الأوّل : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق وترك التبديل والتغيير والاتقاء الثالث : هو الاتقاء بالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال .

فإن قال قائل : ما الدليل على أن الاتقاء الثالث هو الاتقاء بالنوافل دون أن يكون ذلك بالفرائض ؟ قيل : إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إياها إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمها ، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها ، وعملوا الصالحات من الفرائض . ولا وجه لتكرير ذلك ، وقد مضى ذكره في آية واحدة .

وبنحو الذي قلنا من أن هذه الاية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه ، جاءت الأخبار عن الصحابة والتابعين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السري وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : يا رسول الله ، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ . . . الاية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل بإسناده ، نحوه .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثني عبد الكبير بن عبد المجيد ، قال : أخبرنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : بينا أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجرّاح ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبي دجانة ، حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر ، فسمعنا مناديا ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت ، قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال . وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا ، فأصبنا من طيب أمّ سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات منا وهو يشربها ؟ فأنزل الله تعالى : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا . . . الاية . فقال رجل لقتادة : سمعته من أنس بن مالك ؟ قال : نعم ، وقال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : لما حرّمت الخمر قالوا : كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا . . . الاية .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : قال البراء : مات ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر ، فلما نزل تحريمها ، قال أناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فنزلت هذه الاية : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الاية .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : نزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا فيمن قُتل ببدر وأُحد مع محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قِيلَ لي أنْتَ مِنْهُمْ » .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا . . . إلى قوله : وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ ، لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في سورة المائدة بعد سورة الأحزاب ، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أُحد وهم يشربونها ، فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة ، فأنزل الله تعالى ذكره : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا إذَا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمّ اتّقَوْا وآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وأحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ ، يقول : شربها القوم على تقوى من الله وإحسان وهي لهم يومئذٍ حلال ، ثم حرّمت بعدهم ، فلا جناح عليهم في ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا قالوا : يا رسول الله ، ما نقول لإخواننا الذين مضوا ، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ؟ فأنزل الله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا يعني قبل التحريم إذا كانوا محسنين متقين . وقال مرّة أخرى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا من الحرام قبل أن يحرّم عليهم إذا ما اتقوا وأحسنوا بعد ما حرّم وهو قوله : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى فَلَهُ ما سَلَفَ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا يعني بذلك رجالاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرّم الخمر ، فلم يكن عليهم فيها جناح قبل أن تحرّم ، فلما حرّمت قالوا : كيف تكون علينا حراما وقد مات إخواننا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله تعالى لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُواإذا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرّمها إذا كانوا محسنين متقين ، والله يحب المحسنين .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا لمن كان يشرب الخمر ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدر وأُحد .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُنَاحٌ . . . الاية : هذا في شأن الخمر حين حُرّمت ، سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله هذه الاية .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك : أنه لما نزل تحريم الخمر ، قال قوم من الصحابة : يا رسول الله ، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول ؟ فنزلت هذه الآية{[4705]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى ، ونزلت { وما كان الله ليضيع إيمانكم }{[4706]} ولما كان أمر القبلة خطيراً ومعلماً من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته ، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم ، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات ، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي ، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم ، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها ، و «الجناح » الإثم والحرج ، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي و { طعموا } معناه ذاقوا فصاعداً في رتب الأكل والشرب وقد يستعار للنوم وغيره ، وحقيقته في حاسة الذوق ، والتكرار في قوله { اتقوا } يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم ، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال قوم : الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات ، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة ، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك ، وهو الإحسان ، وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن ، والثانية للحال ، والثالثة للاستقبال ، وقال قوم : الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع ، والثاني في الكبائر ، والثالث في الصغائر .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليست هذه الآية وقفاً على من عمل الصالحات كلها ، واتقى كل التقوى . بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصياً أحياناً إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن ، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه ، وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه ، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله ، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً وعمرّ ، وكان ختن{[4707]} عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة ، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر ، فقال له عمر : ومن يشهد معك ؟ فقال : أبو هريرة ، فجاء أبو هريرة فقال له عمر : بم تشهد ؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء ، فقال له عمر : لقد تنطعت في الشهادة ، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه ، فقدم ، فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله ، فقال له عمر : أخصم أنت أم شهيد ، قال : بل شهيد : قال : قد أديت شهادتك ، فصمت الجارود ثم غدا على عمر ، فقال أقم على قدامة كتاب الله ، فقال له عمر : ما أراك إلا خصماً وما شهد معك إلا رجل واحد ، قال الجارود : إني أنشدك الله ، قال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسوأنك ، فقال الجارود : ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني ، فقال أبو هريرة : إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها ، وهي امرأة قدامة ، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله ، فأقامت الشهادة على زوجها ، فقال عمر لقدامة إني حادك ، فقال : لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني ، قال عمر لم ؟ قال : لأن الله تعالى يقول { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } الآية ، فقال له عمر : أخطأت التأويل ، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك ، ثم حده عمر وكان مريضاً فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضاً ، فأصبح يوماً وقد عزم على جلده ، فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة ؟ قالوا : لا نرى ذلك ما دام وجعاً ، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إليَّ من أن ألقاه وهو في عنقي ، وأمر بقدامة فجلد ، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضباً له ، فلما كان عمر بالسقيا{[4708]} نام ثم استيقظ فقال : عجلوا عليَّ بقدامة ، فقد أتاني آت في النوم فقال : سالم قدامة فإنه أخوك ، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبى فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا ، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره{[4709]} .


[4705]:- أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان- عن ابن عباس رضي الله عنهما. (الدر المنثور 2/ 320).
[4706]:- من الآية (143) من سورة (البقرة).
[4707]:- الختن: كل من كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها- وقد ذكر ابن عطية أنه خال عبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[4708]:- السقيا بضم السين: موضع بين المدينة ووادي الصفراء. (عن معلق تفسير القرطبي).
[4709]:- ساق القرطبي هذا الخبر قائلا: "وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم الجارود...الخ". وفي نهاية الخبر قال القرطبي: "وهو صحيح".