قوله تعالى : { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } . أي ما سنها .
قوله تعالى : { إنه يقول } . يعني فسأل الله تعالى فقال : إنه يعني أن الله تعالى يقول .
قوله تعالى : { إنها بقرة لا فارض ولا بكر } . أي لا كبيرة ولا صغيرة ، والفارض المسنة التي لا تلد ، يقال منه : فرضت تفرض فروضاً ، والبكر الفتية الصغيرة التي لم تلد قط ، وحذفت الهاء منهما للاختصاص بالإناث كالحائض .
قوله تعالى : { عوان } . وسط نصف .
قوله تعالى : { بين ذلك } . أي بين السنين يقال عونت المرأة تعويناً : إذا زادت على الثلاثين ، قال الأخفش : العون التي نتجت مراراً وجمعها عون .
قوله تعالى : { فافعلوا ما تؤمرون } . من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال .
هذا وما أرشدهم إليه نبيهم - عليه السلام - كان كافياً لحملهم على أن يذبحوا أي بقرة تنفيذاً لأمر ربهم ، ولكن طبيعتهم الملتوية المعقدة لم تفارقهم ، فأخذوا يسألون كما أخبر القرآن عنهم بقوله : { ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } ؟
أي : قال بنو إسرائيل لموسى اطلب لنا من ربك أن يبين لنا حالها وصفاتها . وسبب سؤالهم عن صفتها ، تعجبهم من بقرة مذبوحة بأيديهم ، يضرب ببعضها ميت لتعود إليه الحياة ، وكأنهم - لقلة فهمهم - قد توقعوا أن البقرة التي يكون لها أثر في معرفة قاتل القتيل ، لا بد أن تكون لها صفة متميزة عن سائر جنسها .
وسؤالهم بهذه الطريقة يوحى بسوء أدبهم مع الله - تعالى - ومع نبيهم موسى - عليه السلام - لأنهم قالوا { ادع لَنَا رَبَّكَ } فكأنما هو رب موسى وحده ، لا ربهم كذلك ، وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه ومع هذا فقد أجابهم إجابة المربى الحكيم للأنباع السفهاء الذين ابتلى بهم فقال : { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ } .
أي : قال لهم موسى بعد أن أخبره الله بصفتها : إنه - تعالى - يقول : إن البقرة التي آمركم بذبحها لا مسنة ولا صغيرة ، بل نصف بينهما ، فاتركوا الإِلحاح في الأسئلة ، وسارعوا إلى امتثال ما أمرتم به .
وقد أكد - سبحانه - جملة { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ } تنزيلا لهم منزلة المنكرين لتعنتهم في السؤال ومحاولتهم التنصل مما أمروا به .
ولم يقل القرآن الكريم من أول الأمر : إنها بقرة عوان بل جاء بالوصفين السابقين { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } للتعريض بغباوتهم ، والتلميح بعدم فهمهم للأساليب الموجزة ، لذا لجأ في جوابهم إلى تكنير التوصيف حتى لا يعودوا إلى تكرار الأسئلة .
وقوله تعالى : { فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ } يقصد به قطع العذر مع الحض على الطاعة والامتثال .
وما موصولة ، والعائد محذوف بعد حذف جاره ، على طريقة التوسع ، أي : إذا كان الأمر كذلك ، فبادروا إلى تنفيذ ما تؤمرون به ، لتصلوا إلى معرفة القاتل الحقيقي بأيسر طريق ، ولا تضيقوا على أنفسكم ما وسعه الله لكم ، ولا تكثروا من المراجعة ، فإنها ليست في مصلحتكم .
ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم ، فإذا هم يسألون : ( قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ ) . . والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئا فيما أنهى إليهم ! فهم أولا : يقولون : ( ادع لنا ربك ) . . فكانما هو ربه وحده لا ربهم كذلك ! وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه ! وهم ثانيا : يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم : ( ما هي ؟ ) والسؤال عن الماهية في هذا المقام - وإن كان المقصود الصفة - إنكار واستهزاء . . ما هي ؟ إنها بقرة . وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة . بقرة وكفى !
هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة ، بأن يسلك في الإجابة طريقا غير طريق السؤال . إنه لا يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي . . إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين . يجيبهم عن صفة البقرة :
قال : إنها بقرة لا فارض ولا بكر ، عوان بين ذلك . .
إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة ، وسط بين هذا وذاك . ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة :
ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية ؛ وكان حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين ، ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي . أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم ، لا عجوز ولا صغيرة ، متوسطة السن ، فيخلصوا بها ذمتهم ، وينفذوا بذبحها أمر ربهم ، ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق . . ولكن إسرائيل هي إسرائيل !
( قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنَ لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ )
قال أبو جعفر : فقال الذين قيل لهم : إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذبَحُوا بَقَرَةً بعد أن علموا واستقرّ عندهم أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة جدّ وحق : ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَيّنُ لَنا مَا هِيَ ، فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم : اذبحوا بقرة ، لأنه جل ثناءه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر أيّ بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف ، فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم وسوء أفهامهم ، وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤنته ، تعنتا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني ، أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما قال لهم موسى : أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِين قالوا له يتعنتونه : ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنُ لَنا ما هيَ فلما تكلفوا جهلاً منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها تعنتا منهم بنبيهم موسى صلوات الله عليه بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه بقولهم : ( أتَتّخِذُنا هُزُوا ) عاقبهم عز وجل بأن خصّ بذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر على نوع منها دون نوع ، فقال لهم جل ثناؤه إذ سألوه فقالوا : ما هي صفتها وما حليتها ؟ حَلّها لنا لنعرفها قالَ : ( إنّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْر )ٌ يعني بقوله جل ثناؤه : لا فارض : لا مسنة هرمة ، يقال منه : فرضت البقرة تفرض فروضا ، يعني بذلك أسنّت ، ومن ذلك قول الشاعر :
يا رُبّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيّ فارِضِ *** لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الحائِضِ
يعني بقوله فارض : قديم يصف ضغنا قديما . ومنه قول الاَخر :
لَهُ زِجاجٌ ولَهَاةُ فارُِض *** هَدْلاء كالوَطْبِ نَحَاهُ المَاخِضُ
وبمثل الذي قلنا في تأويل فارض قال المتأوّلون . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن خصيف ، عن مجاهد : لا فارِض قال : لا كبيرة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أو عن عكرمة ، شك شريك لا فَارِضٌ قال : الكبيرة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لا فارِضٌ الفارض : الهرمة .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : لا فارِضٌ يقول : ليست بكبيرة هرمة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : لا فارِضٌ الهرمة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الفارض : الكبيرة .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد قوله : لا فارِض قال : الكبيرة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : لا فارِضٌ يعني لا هرمة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : الفارض : الهرمة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال معمر ، قال قتادة : الفارض : الهرمة يقول : ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : الفارض : الهرمة التي لا تلد .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الفارض : الكبيرة .
القول في تأويل قوله تعالى : ولا بِكْر .
والبكر من إناث البهائم وبني آدم ما لم يفتحله الفحل ، وهي مكسورة الباء لم يسمع منه «فَعَل » ولا «يفعل » . وأما «البَكْر » بفتح الباء فهو الفتى من الإبل . وإنما عنى جل ثناؤه بقوله وَلا بِكْر ولا صغيرة لم تلد . كما :
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَلا بِكْر صغيرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : البكر : الصغيرة .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الحسن بن عطية ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن سعيد ، عن ابن عباس أو عكرمة شك : ولا بِكْر قال : الصغيرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : ولا بِكْر الصغيرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : ولا بِكْرٌ ولا صغيرة .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وَلا بكْرٌ ولا صغيرة ضعيفة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع : عن أبي العالية : وَلا بِكْرٌ يعني ولا صغيرة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : في «البكر » لم تلد إلا ولدا واحدا .
القول في تأويل قوله تعالى : عَوَانٌ .
قال أبو جعفر : العوان : النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن ، وليست بنعت للبكر ، يقال منه : قد عوّنت إذا صارت كذلك . وإنما معنى الكلام أنه يقول : إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان بين ذلك . ولا يجوز أن يكون عوان إلا مبتدأ ، لأن قوله : بَيْنَ ذَلِكَ كناية عن الفارض والبكر ، فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما . ومنه قول الأخطل :
وَما بِمَكّةَ مِنْ شُمْطٍ مُحَفّلَةٍ وَما بِيَثْرِبَ مِنْ عُونٍ وأبْكارٍ
وجمعها عون يقال : امرأة عَوَانٌ من نسوة عُونٍ . ومنه قول تميم بن مقبل :
وَمأتم كالدّمَى حُورٍ مَدَامِعُها *** لَمْ تَيْأسِ العَيْشَ أبْكارا وَلا عُونَا
وبقرة عوان وبقر عون . قال : وربما قالت العرب : بقرٌ عُون ، مثل رسل يطلبون بذلك الفرق بين جمع عوان من البقر ، وجمع عانة من الحمر . ويقال : هذه حرب عوان : إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرّة بعد مرة ، يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن . وكذلك يقال : حالة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب أن ابن زيد أنشده :
قُعُود لَدَى الأبْوَابِ طُلاّبُ حاجَةٍ *** عَوَانٍ مِنَ الحاجاتِ أوْ حاجَةً بِكْرا
قال أبو جعفر : والبيت للفرزدق . وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا عليّ بن سعد الكندي ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن خصيف ، عن مجاهد : عَوَانٌ بينَ ذلكَ : وسط قد ولدن بطنا أو بطنين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : عَوانٌ قال : العوان : العانس النصف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : العوان : النصف .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أو عكرمة ، شكّ شريك : عَوَانٌ قال : بين ذلك .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : عَوَانٌ قال بين الصغيرة والكبيرة ، وهي أقوى ما تكون من البقر والدوابّ وأحسن ما تكون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : عَوَانٌ قال : النصف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : عَوَانٌ نصف .
وحدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : العوان : نصف بين ذلك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : عَوَانٌ التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : العوان : النصف التي بين ذلك ، التي قد ولدت وولد ولدها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : العوان : بين ذلك ليست ببكر ولا كبير .
القول في تأويل قوله تعالى : بَيْن ذلكَ .
يعني بقوله : بينَ ذلكَ : بين البكر والهرمة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بينَ ذلكَ : أي بين البكر والهرمة .
فإن قال قائل : قد علمت أن «بين » لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين فصاعدا ، فكيف قيل بين ذلك وذلك واحد في اللفظ ؟ قيل : إنما صلحت مع كونها واحدة ، لأن «ذلك » بمعنى اثنين ، والعرب تجمع في «ذلك » و«ذاك » شيئين ومعنيين من الأفعال ، كما يقول القائل : أظنّ أخاك قائما ، وكان عمرو أباك ، ثم يقول : قد كان ذاك ، وأظن ذلك . فيجمع بذلك وذاك الاسم والخبر الذي كان لا بد ل«ظَنّ » و«كان » منهما . فمعنى الكلام : قال : إنه يقول أنها بقرة لا مسنة هرمة ولا صغيرة لم تلد ، ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن بين الهرم والشباب . فجمع ذلك معنى الهرم والشباب لما وصفنا ، ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين لم يجمع مع بين ذلك ، وذلك أن «ذلك » لا يؤدي عن اسم شخصين ، وغير جائز لمن قال : كنت بين زيد وعمرو ، أن يقول : كنت بين ذلك ، وإنما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص .
القول في تأويل قوله تعالى : فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ .
يقول الله لهم جل ثناؤه : افعلوا ما آمركم به تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي ، واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها ، تصلوا بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها إلى العلم بقاتل قتيلكم .
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي ما حالها وصفتها ، وكان حقهم أن يقولوا : أي بقرة هي ؟ أو كيف هي ؟ لأن { ما } يسأل به عن الجنس غالبا ، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه ، أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله . { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } لا مسنة ولا فتية ، يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض وهو القطع ، كأنها فرضت سنها ، وتركيب البكر للأولية ومن البكرة والباكورة .
{ عوان } نصف . قال : نواعم بين أبكار وعون .
{ بين ذلك } أي بين ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك أضيف إليه بين ، فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد ، وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة ، ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب ، ومن أنكر ذلك زعم أن المراد بها بقرة من شق البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ، ويلزمه النسخ قبل الفعل ، فإن التخصيص إبطال للتخيير الثابت بالنص والحق جوازهما ، ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام " لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم " . وتقريعهم بالتمادي وزجرهم على المراجعة بقوله : { فافعلوا ما تؤمرون } أي ما تؤمرونه ، بمعنى تؤمرون به من قولهم : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ، أو أمركم بمعنى مأموركم .