الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فقد كان من فضل الله –عز وجل- على ، أن أعارتني جامعة الأزهر إلى قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
وقد امتدت هذه الإعارة لمدة أربع سنوات ، من سنة 1400 إلى 1404 ه 1980 – 1984م .
وقد وفقني الله –تعالى- خلال هذه المدة ، أن أكتب –وأنا في الجوار الطيب- تفسيراً محرراً ونافعاً –إن شاء الله- لسور : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل ، والإسراء .
وهأنذا –وأنا في الأشهر الأخيرة من الإعارة- انتهي من كتابة تفسير سورة الكهف .
أسأل الله –تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وأن يعينني على خدمة كتابه الكريم ، وعلى السير في تفسيره حتى النهاية ، وأن يزيل من طريقي كل عقبة تمنعني من ذلك .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المدينة المنورة – مساء الخميس 18 من رجب سنة 1404ه .
1- سورة الكهف هي السورة الثامنة عشرة في ترتيب سور المصحف ، فقد سبقتها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران . . إلخ .
أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثامنة والستون ، فقد ذكر قبلها صاحب الإتقان سبعا وستين سورة ، كما ذكر أن نزولها كان بعد سورة الغاشية( {[1]} ) .
ومما ذكره صاحب الإتقان يترجح لدينا ، أن سورة الكهف من أواخر السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ، إذ من المعروف عند العلماء أن السور المكية زهاء اثنتين وثمانين سورة .
قال الآلوسي : سورة الكهف ، ويقال لها سورة أصحاب الكهف . . وهي مكية كلها في الشهور ، واختاره الداني . . وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة واحدة .
وقيل : مكية إلا قوله –تعالى- [ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . ] الآية .
وقيل هي مكية إلا أولها إلى قوله –تعالى- [ جرزا ] وقيل : مكية إلا قوله –تعالى- [ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا . . ] إلى آخر السورة .
وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين . . . ( {[2]} ) .
والذين تطمئن إليه النفس أن سورة الكهف كلها مكية ، وقد ذكر ذلك دون أن يستثنى منها شيئا الإمام ابن كثير ، والزمخشري ، وأبو حيان ، وغيرهم ، وفضلا عن ذلك فالذين قالوا بأن فيها آيات مدنية ، لم يأتوا بما يدل على صحة قولهم ، كما سيتبين لنا عند تفسير الآيات التي قيل بأنها مدنية .
2- وقد صدر الإمام ابن كثير تفسيره لهذه السورة ، بذكر الأحاديث التي وردت في فضلها فقال ما ملخصه : ذكر ما ورد في فضلها ، والعشر الآيات من أولها وآخرها ، وأنها عصمة من الدجال .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ، عُصِم من الدجال " .
وفي رواية عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " .
وأخرج الحاكم عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " ( {[3]} ) .
( أ ) عندما نقرأ سورة الكهف ، نراها في مطلعها تفتتح بالثناء على الله –تعالى- وبالتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذي نزل عليه ثم تنذر الذين نسبوا إلى الله –عز وجل- مالا يليق به ، وتصمهم بأقبح ألوان الكذب ، ثم تنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التأسف عليهم ، بسبب إصرارهم على كفرهم .
قال –تعالى- : [ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما لينذر بأسا شديداً من لدنه ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسنا . ماكثين فيه أبدا . وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا . مالهم به من علم ولا لآبائهم ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ] .
( ب ) ثم ساقت السورة بعد ذلك فيما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف ، فحكت أقوالهم عندما التجأوا إلى الكهف ، وعندما استقروا فيه واتخذوه مأوى لهم ، كما حكت جانبا من رعاية الله ، تعالى ، لهم ، ورحمته بهم . . ثم صورت أحوالهم وهم رقود ، وذكرت تساؤلهم فيما بينهم بعد أن بعثهم الله –تعالى- من رقادهم الطويل ، وإرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار بعض الأطعمة ، وإطلاع الناس عليهم . وتنازعهم في أمرهم ، ونهى الله –تعالى- عن الجدال في شأنهم ، كما ذكرت المدة التي لبثوها في كهفهم .
قال –تعالى- [ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض . أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحداً ] .
( ج ) ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الفقراء من أصحابه . ومدحتهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . . كما أمرته بأن يجهر بكلمة الحق ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فإن الله –تعالى- قد أعد لكل فريق ما يستحقه من ثواب أو عقاب .
قال –تعالى- [ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ، ون يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ] .
( د ) ثم ضربت السورة الكريمة مثلا للشاكرين والجاحدين ، وصورت بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة الرائعة التي دارت بين صاحب الجنتين الغني المغرور ، وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور ، وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد .
استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك بأسلوبه فيقول : [ وأحبط بثمره ، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ، ويقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ] .
( ه ) ثم أتبعت السورة هذا المثل للرجلين ، بمثال آخر لزوال الحياة الدنيا وزينتها ، وببيان أحوال الناس يوم القيامة ، وأحوال المجرمين عندما يرون صحائف أعمالهم وقد خلت من كل خير .
قال –تعالى- : [ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدرا ، المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا . ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ] .
( و ) وبعد أن ذكرت السورة الكريمة طرفا من قصة آدم وإبليس ، وبينت أن هذا القرآن قد صرف الله فيه للناس من كل مثل ، وحددت وظيفة المرسلين عليهم الصلاة والسلام .
بعد كل ذلك ساقت في أكثر من عشرين آية قصة موسى مع الخضر –عليهما السلام- وحكت ما دار بينهما من محاورات . انتهت بأن قال الخضر لموسى : [ وما فعلته عن أمري ، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ] .
( ز ) ثم جاءت بعد قصة موسى والخضر –عليهما السلام- قصة ذي القرنين في ست عشرة آية ، بين الله ، تعالى ، فيها جانبا من النعم التي أنعم بها على ذي القرنين ، ومن الأعمال العظيمة التي مكنه –سبحانه- من القيام بها .
قال –تعالى- [ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا . قال ما مكني في ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ] .
( ح ) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ما أعده –سبحانه- للكافرين من سوء العذاب وما أعده للمؤمنين من جزيل الثواب ، وببيان مظاهر قدرته ، -عز وجل- التي توجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة .
قال –تعالى- : [ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا . ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا . خالدين فيها لا يبغون عنها حولا . قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا . قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد . فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ] .
4- وبعد : فهذا عرض إجمالي لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة الكهف ، ومن هذا العرض نرى :
( أ ) أن القصص قد اشتمل على جانب كبير من آياتها ، ففي أوائلها نرى قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من أعناب . ثم بعد ذلك جاء طرف من قصة آدم وإبليس ، ثم جاءت قصة موسى والخضر –عليهما السلام- ثم ختمت بقصة ذي القرنين .
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية ، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة .
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية ، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة .
( ب ) اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه ، وعلى إثبات أن هذا القرآن من عنده –تعالى- .
نرى ذلك في أمثال قوله –تعالى- [ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ] .
وقوله –تعالى- : [ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ] .
وفي غير ذلك من الآيات التي حكت لنا تلك القصص المتعددة .
( ج ) برز في السورة عنصر الموازنة والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، ترى ذلك في قصة أصحاب الكهف ، وفي قصة الرجلين وفي قصة ذي القرنين .
وفي الآيات التي ذكرت الكافرين وسوء مصيرهم ، ثم أعقبت ذلك بذكر المؤمنين وحسن مصيرهم كما برز فيها عنصر التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتهوين من شأن أعدائه [ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ] .
كما برز فيها التصوير المؤثر لأهوال يوم القيامة كما في قوله –تعالى- : [ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا . وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ] .
والخلاصة : أن سورة الكهف قد –ساقت- بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة – ألوانا من التوجيهات السامية ، التي من شأنها أنها تهدي إلى العقيدة الصحيحة ، وإلى السلوك القويم . وإلى الخلق الكريم ، وإلى التفكير السليم الذي يهدي إلى الرشد ، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة .
سورة الكهف هى إحدى السور الخمس ، التى افتتحت بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء التام ، هو الله رب العالمين .
والسور الأربع الأخرى التى افتتحت بقوله - تعالى - : { الحمد لله } هى : الفاتحة ، والأنعام ، وسبأ ، وفاطر .
وقد بينا عند تفسيرنا لسورة الأنعام ، أن هذه السورة وإن كانت قد اشتركت فى هذا الافتتاح ، إلا أن لكل سورة طريقتها فى بيان الأسباب التى من شأنها أن تقنع الناس ، بأن المستحق للحمد المطلق هو الله - تعالى - وحده .
وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة على الله - تعالى - ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ؛ إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو فى الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذى وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه .
وقد بين بعض المفسرين الحكمة فى افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه : أعلم أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر ، أما بيان أن المدح أعم من الحمد ، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، فقد يمدح الرجل لعقله ، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله .
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار ، على ما يصدر منه من الإِنعام ، فثبت أن المدح أعم من الحمد .
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام ، سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك ، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك ، فثبت أن الحمد أعم من الشكر .
وكان قوله { الحمد لله } تصريحا بأن المؤثر فى وجود العالم هو الفاعل المختار ، الذى وصلت نعمه إلى جميع خلقه ، لا إلى بعضهم . . ، .
وقوله : { الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً . . } بيان للأسباب التى توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله - تعالى - وحده ، إذ الوصف بالموصول ، يشعر بعلية ما فى حيز الصلة لما قبله .
والعوج - بكسر العين - أكثر ما يكون استعمالا فى المعانى ، تقول ، هذا كلام لا عوج فيه ، أى : لا ميل فيه .
أما العوج - بفتح العين - فأكثر ما يكون استعمالا فى الأعيان تقول : هذا حائط فيه عوج .
وقوله : { قيما } أى : مستقيما معتدلا لا ميل فيه ولا زيغ وهما - أى : عوجا وقيما - حالان من الكتاب ويصح أن يكون قوله { قيما } منصوبا بفعل محذوف أى : جعله قيما .
والمعنى : الحمد الكامل ، والثناء الدائم ، لله - تعالى - وحده ، الذى أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم ، ولم يجعل فيه شيئا من العوج أو الاختلاف أو التناقض ، لا فى لفظه ، ولا فى معناه ، وإنما جعله فى أسمى درجات الاستقامة والإِحكام .
وإنما أمر الله - تعالى - الناس بأن يحمدوه لإِنزال الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلم لأن فى هذا الكتاب من الهدايات ما يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وما يسعدهم فى دينهم ودنياهم وآخرتهم .
وفى التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد ، مضافا إلى ضميره - تعالى - ، تعظيم وتشريف له صلى الله عليه وسلم وإشعار بأنه مهما سمت منزلته ، وعلت مكانته " فهو عبد الله - تعالى - ، وأن الذين بعدوا أو أشركوا مع الله - تعالى - بعض مخلوقاته ، قد ضلوا ضلالا بعيدا " .
والتعبير عن القرآن الكريم بالكتاب ، إشارة إلى كماله وشهرته ، أى : أنزل - سبحانه - على عبده محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الكامل فى بابه ، الغنى عن التعريف ، الحقيق باختصاص هذا الاسم به ، المعروف بهذا الاسم من بين سائر الكتب .
والمراد به إما جميع القرآن الكريم سواء منه ما نزل فعلا وما هو مترقب النزول ، وإما ما نزل منه فقط حتى نزول هذه الآية فيكون من باب التعبير عن البعض بالكل تحقيقا للنزول للجميع .
وجاء لفظ { عوجا } بصيغة التنكير ، ليشمل النهى جميع أنواع الميل والعوج ، إذ النكرة فى سياق النفى تعم ، أى : لم يجعل له - سبحانه - أى شئ من العوج . وقوله : { قيما } تأكيد فى المعنى لقوله - سبحانه - : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } لأنه قد يكون الشئ مستقيما فى الظاهر ، إلا أنه لا يخلو عن اعوجاج فى حقيقة الأمر ، ولذا جمع - سبحانه - بين نفى العوج ، وإثبات الاستقامة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة ، وفى أحدهما غنى عن الآخر ؟
قلت : فائدته التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ، ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح ، وقيل : قيما على سائر الكتب ، مصدقا لها ، شاهدا بصحتها ، وقيل : قيما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع .
وشبيه بهذه الآية فى مدح القرآن الكريم قوله - تعالى - : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وقوله - سبحانه - . { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ . . } وقوله - عز وجل : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وقوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً }
سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة
القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة . ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الجنتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس . وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح . وفي نهايتها قصة ذي القرنين . ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة ، فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية ؛ ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها . وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة ، وبعضمشاهد الحياة التي تصور فكرة أو معنى ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .
أما المحور الموضوعي للسورة والذي ترتبط به موضوعاتها ، ويدور حوله سياقها ، فهو تصحيح العقيدة وتصحيح منهج النظر والفكر . وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة .
فأما تصحيح العقيدة فيقرره بدؤها وختامها .
في البدء : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما . لينذر بأسا شديدا من لدنه ؛ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا : اتخذ الله ولدا . ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .
وفي الختام : ( قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) .
وهكذا يتساوق البدء والختام في إعلان الوحدانية وإنكار الشرك ، وإثبات الوحي ، والتمييز المطلق بين الذات الإلهية وذوات الحوادث .
ويلمس سياق السورة هذا الموضوع مرات كثيرة في صور شتى :
في قصة أصحاب الكهف يقول الفتية الذين آمنوا بربهم : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها ، لقد قلنا إذا شططا .
وفي التعقيب عليها : ( ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحدا ) . .
وفي قصة الجنتين يقول الرجل المؤمن لصاحبه وهو يحاوره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ، لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .
وفي التعقيب عليها : ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ، هنالك الولاية لله الحق ، هو خير ثوابا وخير عقبا ) .
وفي مشهد من مشاهد القيامة : ( ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم ، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ، وجعلنا بينهم موبقا ) .
وفي التعقيب على مشهد آخر : ( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ? إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ) .
أما تصحيح منهج الفكر والنظر فيتجلى في استنكار دعاوى المشركين الذين يقولون ما ليس لهم به علم ، والذين لا يأتون على ما يقولون ببرهان . وفي توجيه الإنسان إلى أن يحكم بما يعلم ولا يتعداه ، وما لا علم له به فليدع أمره إلى الله .
ففي مطلع السورة : ( وينذر الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ، ما لهم به من علم ولا لآبائهم )
والفتية أصحاب الكهف يقولون : ( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ! )وعندما يتساءلون عن فترة لبثهم في الكهف يكلون علمها لله : ( قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ) .
وفي ثنايا القصة إنكار على من يتحدثون عن عددهم رجما بالغيب : ( سيقولون : ثلاثة رابعهم كلبهم ؛ ويقولون : خمسة سادسهم كلبهم - رجما بالغيب - ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم . قل : ربي أعلم بعدتهمما يعلمهم إلا قليل ؛ فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) .
وفي قصة موسى مع العبد الصالح عندما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها عليه موسى يقول : ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري )فيكل الأمر فيها لله .
فأما تصحيح القيم بميزان العقيدة ، فيرد في مواضع متفرقة ، حيث يرد القيم الحقيقية إلى الإيمان والعمل الصالح ، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية التي تبهر الأنظار .
فكل ما على الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار ، ونهايته إلى فناء وزوال : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) .
وحمى الله أوسع وأرحب ، ولو أوى الإنسان إلى كهف خشن ضيق . والفتية المؤمنون أصحاب الكهف يقولون بعد اعتزالهم لقومهم : ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا )
والخطاب يوجه إلى الرسول [ ص ] ليصبر نفسه مع أهل الإيمان ؛ غير مبال بزينة الحياة الدنيا وأهلها الغافلين عن الله ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ؛ واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل : الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .
وقصة الجنتين تصور كيف يعتز المؤمن بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة . وكيف يجبه صاحبها المنتفش المنتفخ بالحق ، ويؤنبه على نسيان الله : ال له صاحبه وهو يحاوره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ? لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا . ولولا إذ دخلت جنتك قلت : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله . إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا . فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ، ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا ، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .
وعقب القصة يضرب مثلا للحياة الدنيا وسرعة زوالها بعد ازدهارها : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدرا ) .
ويعقب عليه ببيان للقيم الزائلة والقيم الباقية : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) .
وذو القرنين لا يذكر لأنه ملك ، ولكن يذكر لأعماله الصالحة . وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين السدين أن يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالا ، فإنه يرد عليهم ما عرضوه من المال ، لأن تمكين الله له خير من أموالهم ( قال : ما مكني فيه ربي خير ) . وحين يتم السد يرد الأمر لله لا لقوته البشرية : ( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ) .
وفي نهاية السورة يقرر أن أخسر الخلق أعمالا ، هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ؛ وهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعا : ( قل : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ? أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) .
وهكذا نجد محور السورة هو تصحيح العقيدة . وتصحيح منهج الفكر والنظر . وتصحيح القيم بميزان العقيدة
ويسير سياق السورة حول هذه الموضوعات الرئيسية في أشواط متتابعة :
تبدأ السورة بالحمد لله الذي أنزل على عباده الكتاب للإنذار والتبشير . تبشير المؤمنين وإنذار الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ؛ وتقرير أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والاختبار ، والنهاية إلى زوال وفناء . . ويتلو هذا قصة أصحاب الكهف . وهي نموذج لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها ، والالتجاء إلى رحمة الله في الكهف ، هربا بالعقيدة أن تمس .
ويبدأ الشوط الثاني بتوجيه الرسول [ ص ] أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأن يغفل الغافلين عن ذكر الله . . ثم تجيء قصة الجنتين تصور اعتزاز القلب المؤمن بالله ، واستصغاره لقيم الأرض . . وينتهي هذا الشوط بتقرير القيم الحقيقية الباقية .
والشوط الثالث يتضمن عدة مشاهد متصلة من مشاهد القيامة تتوسطها إشارة قصة آدم وإبليس . . وينتهي ببيان سنة الله في إهلاك الظالمين ، ورحمة الله وإمهاله للمذنبين إلى أجل معلوم .
وتشغل قصة موسى مع العبد الصالح الشوط الرابع . وقصة ذي القرنين الشوط الخامس .
ثم تختم السورة بمثل ما بدأت : تبشيرا للمؤمنين وإنذارا للكافرين ، وإثباتا للوحي وتنزيها لله عن الشريك . فلنأخذ في الشوط الأول بالتفصيل :
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما . لينذر بأسا شديدا من لدنه ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا ، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ، ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم . إن يقولون إلا كذبا . فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا . . إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) . . .
بدء فيه استقامة ، وفيه صرامة . وفيه حمد لله على إنزاله الكتاب ( على عبده ) بهذه الاستقامة ، لا عوج فيه ولا التواء ، ولا مداراة ولا مداورة :
ومنذ الآية الأولى تتضح المعالم ، فلا لبس في العقيدة ولا غموض : الله هو الذي أنزل الكتاب ، والحمد له على تنزيله . ومحمد هو عبد لله . فالكل إذن عبيد ، وليس لله من ولد ولا شريك .
والكتاب لا عوج له . . ( قيما ) يتكرر معنى الاستقامة مرة عن طريق نفي العوج ، ومرة عن طريق إثبات الاستقامة . توكيدا لهذا المعنى وتشديدا فيه .