معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجن

مكية وآياتها ثمان وعشرون

{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } وكانوا تسعة من جن نصيبين . وقيل سبعة استمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ذكرنا خبرهم في سورة الأحقاف ، { فقالوا } لما رجعوا إلى قومهم : { إنا سمعنا قرآناً عجباً } قال ابن عباس : بليغاً ، أي : قرآناً ذا عجب يعجب منه لبلاغته .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الجن

مقدمة وتمهيد

1- سورة " الجن " من السور المكية الخالصة ، وتسمى بسورة [ قل أوحي . . . ] ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية بلا خلاف ، وكان نزولها بعد سورة " الأعراف " وقبل سورة " يس " وقد سبقها في ترتيب النزول ثمان وثلاثون سورة ، إذ هي السورة التاسعة والثلاثون –كما ذكر السيوطي- .

أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثانية والسبعون .

2- والمتدبر لهذه السورة الكريمة ، يراها قد أعطتنا صورة واضحة عن عالم الجن ، فهي تحكي أنهم أعجبوا بالقرآن الكريم ، وأن منهم الصالح ومنهم غير الصالح ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم أهل للثواب والعقاب ، وأنهم لا يملكون النفع لأحد ، وأنهم خاضعون لقضاء الله –تعالى- فيهم .

كما أن هذه السورة قد ساقت لنا ألوانا من سنن الله التي لا تتخلف ، والتي منها : أن الذين يستقيمون على طريقه يحيون حياة طيبة في الدنيا والآخرة . .

كما أنها لقنت النبي صلى الله عليه وسلم الإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين وأكاذيبهم ، وساقت له ما يسليه عن سفاهاتهم ، وما يشرح صدره ، ويعينه على تبليغ رسالة ربه . .

ويبدو أن نزول هذه السورة الكريمة كان في حوالي السنة العاشرة ، أو الحادية عشرة ، من البعثة –كما سنرى ذلك من الروايات- ، وأن نزولها كان دفعة واحدة . .

قد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذى ، عن ابن عباس أنه قال : " انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : مالكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلا لشئ حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربهما ، فمر النفر - من الجن - الذى أخذوا نحو تهامة ، عامدين إلى سوق عكاظ ، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا إليه وقالوا : هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء " .

فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا آحدا ، وأنزل الله - تعالى - على نبيه { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .

وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتانى داعى الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن . . "

وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها : أنه لما مات أبو طالب ، خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإِيمان . . فأغروا به سفهاءهم ، يسبونه ويستهزئون به . .

فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - هو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه ، فلما فرغ من صلاته ، ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله - تعالى - خبرهم عليه . .

وهناك روايات أخرى فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى صلى الله عليه وسلم وفيما قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم . .

ويبدو لنا من مجموع الروايات ، أن لقاء النبى صلى الله عليه وسلم بالجن قد تعدد ، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم دون أن يراهم ، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن .

قال الآلوسى : وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات فى عددهم وفى غير ذلك . وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين .

.

قال القرطبى : واختلف أهل العلم فى أصل الجن . فعن الحسن البصرى : أن الجن ولد إبليس ، والإِنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء فى الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .

وعن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس . .

وقال بعض العلماء : عالم الجن من العوالم الكونية ، كعالم الملائكة وقد أخبر الله - تعالى - أنه خلقه من مارج من نار ، أى : أن عنصر النار فيه هو الغالب ، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه ، أى : بصورته الجبلية ، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى ، كما رئى جبريل حين تشكل بشكل آدمى .

وأخبر - سبحانه - بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة . وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل . .

وأخبر بأن من الجن مؤمنين ، وأن منهم شياطين متمردين ، ومن هؤلاء إبليس اللعين .

ولم يختلف أهل الملل فى وجودهم ، بل اعترفوا به كالمسلمين ، وإن اختلفوا فى حقيقتهم ، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق ، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس ، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة ، وأسرارها محجوبة ، وكثير منها لا يرى بالحواس . ألا ترى الروح - وهى مما لا شك فى وجودها فى الإِنسان والحيوان - لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد ، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها . .

وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، كما بعث إلى الإِنس ، فدعاهم إلى التوحيد ، وأنذرهم وبلغهم القرآن ، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس ، فمؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا فى القرآن والسنة . .

وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقول الناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن . فقال : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .

وفى هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شئ هام ، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه ، والامتثال للمأمور به ، وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به .

والنفر : الجماعة من واحد إلى عشرة ، وأصله فى اللغة الجماعة من الإِنس فأطلق على الجماعة من الجن وعلى وجه التشبيه .

أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس ، إن الله - تعالى - قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل : أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن . .

فقالوا - على سبيل الفرح والإِعجاب لما سمعوا - : { إِنَّا سَمِعْنَا } من الرسول صلى الله عليه وسلم { قُرْآناً عَجَباً } أى : إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن ، بديع الأسلوب ، عظيم القدر .

هذا القرآن { يهدي إِلَى الرشد } أى : إلى الخير والصواب والهدى { فَآمَنَّا بِهِ } إيمانا حقا ، لا يخالطه شك أو ريب { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } أى : فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ولن نشرك معه فى العبادة أحدا كائنا من كان هذا الحد .

والمقصود من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، دعوة مشركى قريش إلى الإِيمان بالحق الذى جاء به صلى الله عليه وسلم كما آمن جماعة من الجن به ، وإعلامهم بأن رسالته صلى الله عليه وسلم تشمل الجن والإِنس .

وضمير " أنه " للشأن ، وخبر " أن " جملة { استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } ، وتأكيد هذا الخبر بأن ، للاهتمام به لغرابته . ومفعول " استمع " محذوف لدلالة قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } عليه .

ووصفهم للقرآن بكونه { قُرْآناً عَجَباً . يهدي إِلَى الرشد } يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا ، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن ، وأسلوبه الحكيم ، ومعانيه البديعة . . ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله : { فَآمَنَّا بِهِ . . . } .

والتعبير بقوله - تعالى - : { فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا . . } يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، أو لإِخوانهم الذين رجعوا إليهم ، كما فى قوله - تعالى - فى سورة الأحقاف : { قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ويحتمل أنهم قالوا ذلك فى أنفسهم على سبيل الإِعجاب ، كما فى قوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك ، لأن هذا هو الذى يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم ، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به .

ثم حكى - سبحانه - أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به ، أخذوا فى الثناء على الخالق - عز وجل - فقال حكاية عنهم : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } .

ولفظ " وأن " قد تكرر فى هذه السورة الكريمة أكثر من عشرمرات ، تارة بالإِضافة إلى ضمير الشأن ، وتارة بالإِضافة إلى ضمير المتكلم .

ومن القراء السبعة من قرأة بفتح الهمزة ، ومنهم من قرأه بكسرها ، فمن قرأ { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور فى قوله { فَآمَنَّا بِهِ . . . } فكأنه قيل : فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا . . ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكى بعد القول ، أى : قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، وقالوا : إنه تعالى جد ربنا . .

قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } قرأه حمزة والكسائى وأبو عامر وحفص بفتح " أنّ " وقرأه الباقون بالكسر .

وتلخيص هذا أن " أنّ " المشددة فى هذه السورة على ثلاثة أقسام : قسم ليس معه واو العطف ، فهذا لا لخلاف بين القراء فى فتحه أو كسره ، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع . . . } لا خلاف فى فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } لا خلاف فى كسره لأنه محكى بالقول .

القسم الثانى أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف فى فتحها ، وهى قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ . . . } وهذا هو القسم الثالث . والثانية وهى قوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله . . . } كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون .

والاثنتا عشرة الباقية ، فتحها بعضهم ، وكسرها بعضهم وهى قوله : - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } وقوله : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ . . . . } { وَأَنَّا ظَنَنَّآ . . . } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ . . . } { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ . . . } { وَأَنَّا لَمَسْنَا . . . } { وَأَنَّا كُنَّا . . . } { وَأَنَّا لاَ ندري . . . . } { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون . . . } { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى . . . } { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } .

وقوله : { تعالى } من التعالى وهو شدة العلو . و { جَدُّ رَبِّنَا } الجد - بفتح الجيم - العظمة والجلال .

قال القرطبى : الجد فى اللغة : العظمة والجلال ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد فى عيوننا . أى : عظم . فمعنى جد ربنا : عظمته وجلاله .

وقيل معنى " جد ربنا . . " غناه ، ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود ، أى : محظوظ . وفى الحديث : " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أى : ولا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وإنما تنفعه الطاعة . .

وجملة { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } بيان وتفسير لما قبله .

أى : آمنا به - سبحانه - إيمانا حقا ، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده ، وصدقنا - أيضا - أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا ، وتنزه فى ذاته وصفاته ، عن أن يكون له شريك فى ملكه . أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد ، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين .

وفى هذا القول من هذا النفر من الجن ، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله - تعالى - ، وأنهم - أى الملائكة - جاءوا عن طريق مصاهرته - سبحانه - للجن ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجن مكية وآيتها ثمان وعشرون

هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها . . إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين ؛ مع صبغة من الحزن في إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها . وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ : ( قل : إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا . . قل : إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا . . قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ، إلا بلاغا من الله ورسالاته ، ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا . . قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عددا ) . .

وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد . وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور ؛ والاستجابة لها تغشى الحس بحاله من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي !

وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها . .

فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس ؛ إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات .

إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل ، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة ، ويزعمون أحيانا أن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها ! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ؛ وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا . والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل ، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا ، ولا الإجمال فيما عرفوا ، ولا الاختصار فيما شعروا . فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ ، ووهلة المشدوه ، عن هذا الحادث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب . وترك آثاره ونتائجه في الكون كله ! . . وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما .

ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ؛ ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف . فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . . ثم بات آمنا ! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون . وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة !

والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية ، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا ! ! !

وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم ، وما تزال . . نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة . .

وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :

فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا : ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ) . . ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : ( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ) . . وهم قابلون للهداية من الضلال ، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان و الكفر فيهم : ( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ، فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ، وأما القاسطون ، فكانوا لجهنم حطبا ) . . وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) . . وأنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلة بالسماء : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا . . وأنهم لا صهر بينهم وبين الله - سبحانه وتعالى - ولا نسب : ( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) . . وأن الجن لا قوة لهم مع قوة الله ولا حيلة : ( وأنا ظننا أن لن نعجزالله في الأرض ولن نعجزه هربا ) . .

وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة ، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب : فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين . .

ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . . وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر ، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن .

هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله : ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ) . . يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب ، تثبت وجوده ، وتحدد الكثير من خصائصه ؛ وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير ، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق ، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك !

وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون . أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا ، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار ، بصيغة الجزم والقطع ، والسخرية من الاعتقاد بوجوده ، وتسميته خرافة !

ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها ? ! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم . وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم ، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام !

ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها ? ! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى . فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم ؛ وهي كانت مجهولة بالأمس . والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية ، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها ، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون ، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد !

ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها ، فلم يروا الجن من بينها ? ! ولا هذه . فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة . ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط . وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها !

ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن ? ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء ? ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة ? إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس ، بلا حجة ولا دليل ! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته ، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه . فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع .

والسورة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، ثم عن هذا الكون وخلائقه ، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة .

وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية الله ، ونفي الصاحبة والولد ، وإثبات الجزاء في الآخرة ؛ وأن أحدا من خلق الله لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته ، فلا يلاقي جزاءه العادل . وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من الخطاب : ( قل : إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ) . . ( قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ) . . وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة .

كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية لله وحده ، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر : ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) . . ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من خطاب : ( قل : إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ) . .

والغيب موكول لله وحده ؛ لا تعرفه الجن : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) . . ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم الله عليه منه لحكمة يعلمها : ( قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا . عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا . . . ) . .

" أما العباد والعبيد في هذا الكون ، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ ، ولو اختلف تكوينها ، كالمشاركات التي بين الجن والإنس ، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى . فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى . وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور . وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه . وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار . قد يجهلها الإنسان ، ولكنها موجودة بالفعل من حوله ، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر ! !

ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة ، وتحركات هذا الكون ونتائجها ، وقدر الله في العباد : ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه . ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ) . . وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر الله .

وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة ، وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة . .

فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة . حادث استماع نفر من الجن للقرآن . فتختلف بشأنه الروايات . قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه : " دلائل النبوة " : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بنعبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " ما قرأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، أرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ? فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض و مغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنزل الله على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) . . وإنما أوحي إليه قول الجن " [ ورواه البخاري عن مسدد بنحو هذا ، وأخرجه مسلم عن شيبان ابن فروخ عن أبي عوانة بهذا النص ] .

فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر ، قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة الجن ? قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود - رضي الله عنه - فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة الجن ? قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير ? اغتيل ? قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا إذا هو ، جاء من قبل حراء . قال : فقلنا : يا رسول الله ، فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : " أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن " . قال : " فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم " وسألوه الزاد فقال : " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .

وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق . فنضرب عن هذه وأمثالها . . ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول : إن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يعرف بحضور النفر من الجن ، وأن ابن مسعود يقول : إنهم استدعوه . ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد .

وهناك رواية ثالثة لابن اسحق قال :

" ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل ، فخرج إليهم وحده " .

" قال ابن اسحق : فحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : " ياليل بن عمرو بن عمير ، ومسعود بن عمرو بن عمير ، وحبيب بن عمرو بن عمير . . . وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح . فجلس إليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة [ أي يمزقها ] إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر : أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ? وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام . ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عندهم وقد يئس من خير ثقيف . وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : " إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني " . وكره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يبلغ قومه عنه ، فيذئرهم [ أي يحرشهم ] ذلك عليه ! "

" فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائط [ أي بستان ] لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة - وهما فيه - ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب [ أي طاقة من قضبان الكرم ] فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف . . . فلما اطمأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال - فيما ذكر لي - : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " " . .

" قال : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له : عداس . فقال له " خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه . ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم قال له : كل . فلما وضع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيه يده قال : " بسم الله " ثم أكل . فنظر عداس في وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس ? وما دينك ? " قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ? " فقال عداس : وما يدريك ما يونس ابن متى ? فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذاك أخي . كان نبيا وأنا نبي " فأكب عداس على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك ! فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ? قال : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا . لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له : ويحك يا عداس ! لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه ! "

" قال : ثم إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي . فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ صلى الله عليه وسلم ] قال الله عز وجل : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله ( ويجركم من عذاب أليم ) . وقال تبارك وتعالى : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن )إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .

وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن أسحاق هذه فقال : " هذا صحيح . ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور . وخروجه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم " .

وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من الطائف ، مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف ، وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه ، فإنه ليكون عجيبا حقا من هذا الجانب . أن يصرف الله إليه ذلك النفر من الجن ، وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم ، وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه . .

وأيا كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم . عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه . وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين . . فلنمض مع هذا كله كما يعرضه القرآن الكريم .

( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا . وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا . وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) . .

والنفر ما بين الثلاثة والتسعة كالرهط . وقيل كانوا سبعة .

وهذا الافتتاح يدل على أن معرفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأمر استماع الجن له ، وما كان منهم بعد أن سمعوا القرآن منه . . كانت بوحي من الله سبحانه إليه ، وإخبارا عن أمر وقع ولم يعلم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن الله أطلعه عليه . وقد تكون هذه هي المرة الأولى ، ثم كانت هناك مرة أو مرات أخرى قرأ النبي فيها على الجن عن علم وقصد . ويشهد بهذا ما جاء بشأن قراءته [ صلى الله عليه وسلم ] سورة الرحمن " أخرجه الترمذي بإسناده - عن جابر رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها ، فسكتوا . فقال : " لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن ردودا منكم . كنت كلما أتيت على قوله تعالى : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ? )قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد " . . وهذه الرواية تؤيد رواية ابن مسعود - رضي الله عنه التي سبقت الإشارة إليها في المقدمة .

ولا بد أن هذه المرة التي تحكيها هذه السورة هي التي تحكيها آيات الأحقاف : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ، مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين ) . .

فإن هذه الآيات - كالسورة - تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن ، مفاجأه أطارت تماسكهم ، وزلزلت قلوبهم ، وهزت مشاعرهم ، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض ، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعا ، ولا تملك عليه صبرا ، قبل أن تفيضه على الآخر ينفي هذا الأسلوب المتدفق ، النابض بالحرارة والانفعال ، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان ، وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه ، وتخلخل تماسكه ، وتدفعه دفعا إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع ، وفي جد كذلك واحتفال !

( إنا سمعنا قرآنا عجبا ) . .

فأول ما بدههم منه أنه( عجب )غير مألوف ، وأنه يثير الدهش في القلوب ، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح ، ومشاعر مرهفة ، وذوق ذواق . . عجب ! ذو سلطان متسلط ، وذو جاذبية غلابة ، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب . . عجب ! فعلا . يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون !