غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الجن مكية حروفها سبعمائة وتسعة وخمسون كلماتها مائتان وخمس وثمانون آياتها ثمان وعشرون ) .

1

التفسير : روى يونس وهارون عن أبي عمرو { وحي } بضم الواو من غير ألف . والوحي والإيحاء بمعنى وهو إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء وسرعة كالإلهام وإنزال الملك وقد مر مراراً . وقرئ { أحي } بقلب الواو همزة . والكلام في الجنِّ اسماً وحقيقته قد سلف في الاستعاذة وكذا بيان اختلاف الروايات أنه صلى الله عليه وسلم هل رأى الجن أم لا ، وذلك في آخر سورة " حم الأحقاف " . والذي أزيده هاهنا ما ذكره بعض حكماء الإسلام أنه لا يبعد أن تكون الجن أرواحاً مجردة كالنفوس الناطقة ، ثم يكون لكل واحد منهم تعلق بجزء من أجزاء الهواء كما أن أول متعلق النفس الناطقة هو الروح الحيوني في القلب ، ثم بواسطة سريان ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل التدبير والتصرف فيه كما للنفس الناطقة في البدن ، ومنهم من جوز أن يكون الجن عبارة عن النفوس الناطقة التي فارقت أبدان الإنسان فتتصرف فيما يناسبها من الأرواح البشرية التي لم تفارق بعد فتعينها بالإلهام إن كانت خيرة ، وبالوسوسة إن كانت بالضد . أما الذاهبون إلى أن الجن أجسام فمنهم الأشاعرة القائلون بأن البنية ليست شرطاً في الحياة وأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً بأمور كثيرة وقدرة على أعمال شاقة ، فعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كان أجزاؤهم صغاراً أو كباراً . ثم الأمر بالخروج إليهم وقراءة القرآن عليهم لا أنه رآهم وعرف جوابهم . والله تعالى أوحى في هذه السورة . ومنهم من قال : البنية شرط وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة . ومن الأولين من جوز أن يكون المرئي حاضراً والشرائط حاصلة والموانع مرتفعة ، ثم أنا لا نراه . وأعلم أن ما ذكرنا في تفسير الأحقاف عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ما رأى الجن . وعن ابن مسعود أنه رآهم . فالجمع بين القولين أن ما ذكره ابن عباس لعله وقع أولاً فأوحى الله إليه في هذه السورة أنهم قالوا كذا وكذا ، أو رآهم وسمع كلامهم وآمنوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم وذكروا لقومهم على سبيل الحكاية { أنا سمعنا قرآناً عجباً } إلى آخره كقوله في " الأحقاف " { فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين } [ الآية :29 ] أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما جري بينهم وبين قومهم . والفائدة فيه أن يعلم أنه مبعوث إلى الثقلين وأن الجن مكلفون كالأنس وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا ، وأن المؤمن منهم يدعو سائرهم إلى الإيمان . وأجمع القراء على فتح { أنه استمع } لأنه فاعل { أوحي } وكذا على فتح { وأن لو استقاموا } { وأن المساجد } لأنه يعلم بالوحي فهما معطوفان على { أنه استمع } وأجمعوا على كسر { إنا } في قوله { إنا سمعنا } لأنه وقع بعد القول . وفي البواقي خلاف ، فمن كسر فمحمول على مقول القول وأنه صريح من كلام الجن ، ومن فتح فعلى أنه فاعل { أوحى } ولا بد من تقدير ما في الحكاية ليكون حكاية كلام الجن كأنه قيل : وحكوا أنه تعالى جد ربنا إلى آخره إلا في قوله { وأنه لما قام عبد الله } فإنه كاللذين تقدماه يصح وقوعه فاعل { أوحي } من غير تقدير ، وجوز صاحب الكشاف فيمن قرأ بفتح الكل في قوله { وأنه تعالى جد ربنا } { وأنه كان يقول سفيهنا } وكذلك البواقي أن يكون معنا صدقنا . قلت : وفيه نظر لنبوه عن الطبع في أكثر المواضع إذ لا معنى لقول القائل مثلا : صدقنا أنا لمسنا السماء وصدقنا أنا لما سمعنا الهدى آمنا به . وبالجملة فكلامه في هذا المقام غير واضح ولا لائق بفضله . قوله سبحانه { عجباً } مصدر وضع موضع الوصف للمبالغة أي قرآناً عجباً بديعاً خارجاً عن حد أشكاله بحسن مبانيه وصحة معانيه .

/خ28