الآية1 : قوله تعالى : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن }اختلف في السبب الذي كان به مجيء الجن إلى رسول الله صلى الله عليه سلم .
فمنهم من ذكر أن إبليس صعد إلى السماء ، فوجدها قد ملئت حرسا شديدا وشهبا ، فتيقن أن قد حدث في الأرض حادث ، ففرق جنوده ليعلم علم ذلك .
ومنهم من يقول بأن الأصنام خرّت لوجوهها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم إبليس أنه حدث في الأرض خير حادث حتى خرّت له الأصنام ، ففرق جنوده ليصل إلى علم ذلك . ثم من الناس من يزعم أن قصة هذه السورة وقصة قوله عز وجل : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن }[ الأحقاف : 29 ]واحدة .
وقال بعضهم بأن هؤلاء النفر الذين ذكروا في هذه السورة كانوا من مشركي الجن والذين ذكروا في سورة الأحقاف كانوا من يهود الجن ؛ دليله أنه قال في هذه السورة في ما حكى عن الجن : { وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا }[ الآية : 7 ] واليهود يقرون بالبعث ، ولا ينكرون ، فثبت أنهم كانوا من جن المشركين ، وقال في سورة الأحقاف : { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه }[ الآية : 30 ]فثبت أنه{[22234]} قد كان عندهم علم بالكتاب المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وكانوا به مقرين ، واليهود هم الذين يؤمنون بكتاب موسى ، لا بغيره . {[22235]}
ثم في ما حكى الله تعالى عن الجن من تصديقهم هذا الكتاب واستماعهم ما جرى من المخاطبات فيما بينهم فوائد : أحدها ]{[22236]} : أن رسول صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس حتى صرف الجن إلى الاستماع إليه .
والثانية{[22237]} : أنهم لما أخذوا القرآن من لسانه قالوا في ما بين القوم بإنذارهم ، وأعانوه في التبليغ على ما أخبر عز وجل : { فلما قضي الأمر ولّوا إلى قومهم منذرين }[ الأحقاف : 29 ] .
والثالثة{[22238]} : أن أولئك النفر تسارعوا إلى الإجابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون فيه تسفيه قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نشأ بين أظهرهم لأنهم عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما بينهم بالصيانة والعدالة ، ولم يقفوا منه على كذب قط{[22239]} .
وحق من يعرف/601 أ/ بالصدق ، إن لم يصدق ألا يتسارع إلى تكذيبه فيما يأتي من الأنباء ، بل يوقف في حاله إلى أن يتبين منه ما يظهر كذبه .
وقومه استقبلوه بالتكذيب ، ولم يعاملوه معاملة من كان معروفا بالصدق والصيانة .
والجن الذين صدقوه لم يكونوا عارفين بأحواله في ما قبل أنه صدوق أو ممن يرتاب في خبره ، ثم تسارعوا إلى تصديقه بما لاحت لهم الحجة ، وثبتت عندهم آية الرسالة ، وتعاملوا{[22240]}معه معاملة من عرف بالصدق . فدل أنهم كانوا في غاية من السعة .
والرابعة{[22241]} : دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى : { إنا سمعنا قرآنا عجبا }{ يهدي إلى الرشد }[ الآيتان : 1و2 ]إلى آخر القصة فيما بينهم إخبار عن علم الغيب ، ثبت أنه بالله تعالى علم .
ثم يجوز أن يكون الذي حملهم على الإيمان به ما عرفوا أنه أتى بالمعجز الذي يعجز الخلق عن إتيان مثله وبما وقفوا على أحكام معانيه وحسن تأليفه ونظمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بمجيئهم حتى أوحي إليه أنه قد أتاه نفر من الجن يستمعون الى ما أوحي إليه ، فيكون فيه دلالة على [ فساد قول ]{[22242]} الباطنية حين{[22243]} يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي بالجسد الروحاني ، لأنه لو كان كما وصفوا لرأى الجن عندما حضروا إليه ؛ إذ الجسد الروحاني مما يبصر الجن ، ولم يكن يوحى إليه ، فيعرف أن قد حضره نفر من الجن .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام أن يراه على صورته ، فقال له جبريل : إنك لا تطيقها{[22244]} ، لأن الأرض لا تسعني ، ولكن انظر إلى أفق السماء . ولو كان يأخذ الوحي بالجسد الروحاني لكان قد رأى جبريل عليه السلام على صورته ، فتبطل فائدة هذا{[22245]} السؤال . فثبت أن الأمر ليس كما زعموا ، بل كان يقبله بالصورة الجسدانية وأنه كما وصفه الله تعالى بقوله : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي }الآية [ الكهف : 110 ] .
قال القتبي : النفر ما بين الثلاثة إلى التسعة .
وقوله تعالى : { إنا سمعنا قرآنا عجبا } قال بعضهم : العجب الغريب ، وإنما استغربوا ذلك منه ، لأنهم سمعوا من أمي ، لا يعرف الكتابة ، ولا يقرأ الكتب .
ومنهم من قال بأن حسن تأليفه{[22246]} ونظمه ووصفه ، هو الذي حملهم على التعجب .
ومنهم من قال : إنما تعجبوا من آياته وحججه ، لأنه جاء في تثبيت التوحيد وإثبات الرسالة وإثبات البعث ، ولم يكن لهم معرفة بالوحدانية ، بل كانوا أهل شرك ، ولم يكونوا أهل معرفة بالبعث والرسالة ، فكانت الآيات عجيبة حين{[22247]} قررت عندهم هذه الأوجه ، والله أعلم .
ثم في هذه[ الآية ]{[22248]} وفي قوله : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } [ الأحقاف : 29 ] إخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يشعر بمجيئهم .
وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما تلا على أصحابه سورة الرحمن قال لأصحابه : { إن الجن كانوا أحسن إجابة منكم ، وإني تلوت عليهم هذه السورة ، فكانوا يقولون : ما بشيء من آلائك نكذب ، ربنا ، فلك الحمد " [ الترمذي3291 ] .
ففي هذا الخبر أنه قد رآهم ، وشعر بمجيئهم ، فيكون فيه إثبات الوجهين جميعا : أن قد شعر مرة ، ولم يشعر أخرى .
ثم يجوز أن يكون رآهم بما قوى الله عز وجل بصره حتى احتمل إدراك الجن ، وضعّف أبصار غيره عن رؤيتهم .
ألا ترى أن أهل الجنة يرون الملائكة عندما تأتيهم بالتحف من ربهم ، فيقوي عز وجل بصرهم حتى يعاينوا الملائكة بجوهرهم ، وإن ضعفت أبصارهم في الدنيا ؟ ففي ذلك يجوز أن يكون الله قوى بصر نبيه صلى الله عليه سلم حتى رأى الجن على صورتهم . وجائز أن يكون الله تعالى صور الجن على صورة الإنس حتى رآهم ، وشعر بمجيئهم ، والله أعلم .
ثم ما ذكرنا من السندين في أمر مجيء الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول السورة من قول أهل التأويل ، لا يقطع القول بذلك ، وإن كان في حد الإمكان والجواز ، لأنهم تكلفوا استخراج ذلك بالتدبير والاجتهاد ، وما كان سبيل معرفته الاجتهاد لم يجز أن يقطع القول فيه بالشهادة .
وقد يجوز أن يكون الذي حملهم على المجيء غير ذينك الوجهين ؛ وهو أن يكون النفر من منذري الجن لأنه ذكر أن [ للجن نذرا ]{[22249]} وأن الرسل من الإنس دون الجن ، فتفرقوا على رجاء أن يظفروا برسول ، فيتلقفوا منه ما يقومون{[22250]} به بالنذارة في ما بين قومهم ؛ إذ كانوا يصعدون إلى السماء ، فيسمعون الأخبار ، وينذرون{[22251]} قومهم بها . ثم انقطع ذلك عنهم حتى{[22252]} لم يجدوا مسلكا إلى الصعود لأنها قد ملئت حرسا ، وعلموا أن الله تعالى لا يبقيهم حيارى ، ويقطع عنهم وجه المعرفة ، فتفرقوا في الأرض رجاء أن يظفروا بمن يزيل عنهم الشبه ، ويوضح لهم الحجج والبراهين ، فوصلوا إلى مقصودهم من جهة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون عندهم أن لا أحد في الأرض من جني أو إنسي ، يكذب على الله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا }[ الآية : 5 ] فلما تحقق عندهم الكذب خافوا على أنفسهم أن[ تبتلى به ]{[22253]} وأن يشبه عليهم الصراط السوي ، فتفرقوا في الأرض على رجاء أن يظفروا بمن يدلهم على الطريقة المثلى حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكونوا لما صعدوا إلى السماء ، فرأوها مملوءة من الحرس والشهب ، أيقنوا أن ذلك لحادث خير ، وخافوا حلول نقمته بأهل الأرض فتفرقوا في البلاد لما لعلهم يصلون إلى علم ذلك .
ثم الذي حقق كون هذا الخبر ، هو أن السماء{ ملئت حرسا شديدا وشهبا } [ الآية : 8 ] في حق الكفرة وانقطاع الكهنة بعد ذلك .
ولو كان الأمر على خلاف هذا لكانوا لا ينقطعون{[22254]} ، لأن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ، فيأتون الكهنة بما يسمعون من الأخبار ، ويلقونها إليهم ، [ فيضلون ]{[22255]} بها الخلق .
فلو لم يمنعوا عن السماء لكانوا لا ينقطعون . ومن ادعى الكهانة اليوم فلا يجد عنده خبرا حادثا سوى ما تلقفوه من ألسن الرسل عليهم السلام وكان أمر الشهاب أمرا ظاهرا عرفته الكفرة في ما بينهم ، فكانت هذه حجة سماوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقررة عند الكفرة رسالته ؛ إذ لم يدع أحد منهم بكون الشهاب قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فصار انقطاع الكهنة دليلا على صدقه في مقالته ، والله المستعان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.