فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجن

هي ثمان وعشرون آية وهي مكية . قال القرطبي : في قول الجميع . وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الجن بمكة . وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله .

قوله : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ } قرأ الجمهور : { أُوحِيَ } رباعياً . وقرأ ابن أبي عبلة وأبو إياس والعتكي عن أبي عمرو : «وحي » ثلاثياً ، وهما لغتان . واختلف هل رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم ؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم ، لأن المعنى : قل يا محمد لأمتك : أوحي إليّ على لسان جبريل { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } ومثله قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان } [ الأحقاف : 29 ] ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ وما رآهم . قال عكرمة : والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي { اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وقد تقدّم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا . قوله : { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } هذا هو القائم مقام الفاعل ، ولهذا فتحت أنّ ، والضمير للشأن ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجارّ والمجرور ، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة . قال الضحاك : والجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين . وقال الحسن : إنهم ولد إبليس . قيل : هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية . وقيل : نوع من الأرواح المجرّدة . وقيل : هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها .

وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجنّ الجنة ، كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك : { وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } [ الملك : 5 ] وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] وغير ذلك من الآيات ، فقال الحسن : يدخلون الجنة ، وقال مجاهد : لا يدخلونها ، وإن صرفوا عن النار . والأوّل أولى لقوله في سورة الرحمن : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } [ الرحمن : 74 . 56 ] وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها ، وقد قدّمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلاً منهم ، بل الرسل جميعاً من الإنس ، وإن أشعر قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } [ الزمر : 71 ] بخلاف هذا ، فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلاّ من بني آدم ، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول ، والمراد الإشارة بأخصر عبارة . { فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً } أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم : أي سمعنا كلاماً مقروءاً عجباً في فصاحته وبلاغته . وقيل : عجباً في مواعظه . وقيل : في بركته ، وعجباً مصدر وصف به للمبالغة ، أو على حذف المضاف : أي ذا عجب ، أو المصدر بمعنى اسم الفاعل : أي معجباً .

/خ13