قوله تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرةً } ، لعظة ، { نسقيكم } ، بفتح النون هاهنا وفي المؤمنين ، قرأ ابن نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب والباقون بضمها ، وهما لغتان . { مما في بطونه } ، قال الفراء : رد الكناية إلى النعم ، والأنعام واحد . ولفظ النعم مذكر . قال أبو عبيدة ، والأخفش : النعم يذكر ويؤنث ، فمن أنث : فالمعنى الجمع ، ومن ذكر : فحكم اللفظ . قال الكسائي : رده إلى ما يعني في بطون ما ذكرنا . وقال المؤرخ : الكناية مردودة إلى البعض والجزء ، كأنه قال : نسقيكم مما في بكونه اللبن ، إذ ليس لكلها لبن ، واللبن فيه مضمر . { من بين فرث } ، وهو ما في الكرش من الثقل ، فإذا خرج منه لا يسمى فرثاً . { ودم لبناً خالصاً } ، من الدم والفرث ، ليس عليه لون دم ، ولا رائحة الرفث . { سائغاً للشاربين } ، هنيئاً ، يجري على السهولة في الحلق . وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط . قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف ، واستقر في كرشها ، وطحنته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه اللبن ، وأعلاه الدم ، والكبد مسلطة عليها ، تقسمها بتقدير الله تعالى ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو .
ثم أرشد - سبحانه - إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته ، وعظيم قدرته وعجيب صنعه ، وسعة رحمته ، حيث خلق للناس الأنعام ، وسقاهم من ألبانها ، فقال - تعالى - : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً . . . } .
والأنعام : تطلق على الإِبل والبقر والغنم من الحيوان ، ويدخل في الغنم المعز .
والعبرة : مصدر بمعنى العبور ، أي : التجاوز من محل إلى آخر ، والمراد بها هنا : العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم ، ومن الغفلة إلى اليقظة .
أي : وإن لكم - أيها الناس - في خلق الأنعام ، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ومداومة الشكر له على نعمه . فالتنكير في قوله : { لعبرة } ؛ للتفخيم والتهويل .
وقوله - تعالى - : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، استئناف بياني ، كأنه قيل : وما وجه العبرة في الأنعام ؟ فكان الجواب : نسقيكم مما في بطونه .
قال الألوسي : " والضمير في { بطونه } يعود للأنعام ، وهو اسم جمع ، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار معناه . . . " .
وقوله - سبحانه - : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } ، بيان لموطن العبرة ومحل النعمة ، ومظهر الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ورحمته .
والفرث : الطعام المتبقى في أمعاء الحيوان بعد هضمه . وأصل الفرث : التفتيت . يقال فرثت كبده . أي : فتتتها .
قال الجمل ما ملخصه : " والفرث : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش - بفتح الكاف وكسر الراء - فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا ، بل تسمى روثا . وقوله { لبنا } مفعول ثان لنسقيكم ، والأول هو الكاف " .
والخالص : النقي الصافي الخالي من الشوائب والأكدار . يقال : خلص الشيء من التلف خلوصا - من باب قعد - إذا سلم منه .
والسائغ : اللذيذ الطعم ، السهل المدخل إلى الحلق . يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا ، من باب قال - إذا سهل مدخله في الحلق .
أي : نسقيكم من بين الفرث والدم الذي اشتملت عليه بطون الأنعام ، { لبنا } ، نافعا لأبدانكم ، { خالصا } ، من رائحة الفرث ، ومن لون الدم ، مع أنه موجود بينهما . { سائغا للشاربين } ، بحيث يمر فى الحلوق بسهولة ويسر ، ويشعر شاربه بلذة وارتياح .
وقدم - سبحانه - قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، على قوله : { لبنا } ؛ لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة ، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته .
قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، أي : يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله - تعالى - ، بحيث لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله . . . فسبحان الله ما أعظم قدرته ، وألطف حكمته ، لمن تفكر وتأمل . وسئل " شقيق " عن الإِخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم .
ثم قال - رحمه الله - : فإن قلت : أي فرق بين " من " الأولى والثانية ؟ . قلت : الأولى للتبعيض ؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها . . . والثانية لابتداء الغاية ؛ لأن بين الفرث والدم مكان الإِسقاء الذي منه يبتدأ . . .
وإنما قدم قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ؛ لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم .
وقال الألوسي عند تفسيره لهذه الآية : " ومن تدبر في بدائع صنع الله - تعالى - فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ، وتسخير القوى المتصرفة فيها . . . اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه - سبحانه - وقدرته ، وحكمته ، وتناهي رأفته ورحمته : حكم حارت البرية فيها . . . وحقيق بأنها تحتار . والحق ، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته ، وعجيب صنعته ، حيث استخرج - سبحانه - من بين فرث ودم في بطون الأنعام ، لبنا خالصا سائغا للشاربين .
وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله . . كلاما يقوي إيمان المؤمنين ، ويدفع باطل الملحدين . هذا ، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله - تعالى - على خلقه .
قال القرطبي ما ملخصه : " روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب ، ثم قال : " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل ، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، وإذا سقي لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن " " .
ثم قال الإِمام القرطبي : قال علماؤنا : فكيف لا يكون كذلك ، وهو أول ما يغتذي به الإنسان ، وتنمو به الأبدان ، فهو قوت به قوام الأجسام ، وقد جعله الله - تعالى - علامة لجبريل على هداية هذه الأمة ، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن . فقال لي جبريل : اخترت الفطرة . . . " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشّارِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام ، التي نُسْقيكم مما في بطونه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " نُسْقِيكُمْ " فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة ، سوى عاصم ، ومن أهل المدينة أبو جعفر : " نُسْقِيكُمْ " بضم النون . بمعنى : أنه أسقاهم شرابا دائما . وكان الكسائي يقول : العرب تقول : أسقيناهم نَهْرا ، وأسقيناهم لبنا : إذا جعلته شِرْبا دائما ، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة ، قالوا : سقيناهم ، فنحن نَسْقِيهم ، بغير ألف . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر ، ومن أهل العراق عاصم : «نَسْقِيكم » ، بفتح النون ، من سقَاه الله ، فهو يَسْقيه . والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السقي غير دائم ، وتنزعها فيما كان دائما ، وإن كان أشهر الكلامين عندها ، ما قال الكسائي ، يدلّ على ما قلنا من ذلك ، قول لَبيد في صفة سحاب :
سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْرا والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ
فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد . فإذا كان ذلك كذلك ، فبأية القراءتين قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون ؛ لما ذكرت من أن الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف ، فهو يُسْقِي . وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم له ، غير منقطع عنهم . وأما قوله : { ممّا فِي بُطُونِهِ } وقد ذكر الأنعام قبل ذلك ، وهي جمع ، والهاء في البطون موحدة ، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالاً ، فكان بعض نحويي الكوفة يقول : النّعم والأنعام شيء واحد ؛ لأنهما جميعا جمعان ، فردّ الكلام في قوله : { مِمّا فِي بُطُونِهِ } ، إلى التذكير ، مرادا به معنى النّعم ، إذ كان يؤدي عن الأنعام ويستشهد لقوله ذلك ، برجز بعض الأعراب :
إذا رأيْتَ أنْجُما منَ الأسَدْ *** جَبْهَتهُ أوِ الخَرَاةِ والكَتَدْ
بال سُهَيْلٌ في الفَضِيخِ فَفَسَدْ *** وطابَ ألْبانُ اللّقاحِ فَبَردْ
ويقول : رجع بقوله : «فبرد » إلى معنى اللبن ؛ لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد . وفي تذكير النعم قول آخر :
أكُلّ عامٍ نَعَمٌ تَحُوونَهْ *** يُلْقحُهُ قَوْمٌ وتَنْتِجُونَهْ
فذكرّ النعم . وكان غيره منهم يقول : إنما قال : مِمّا فِي بُطُونِهِ ؛ لأنه أراد : مما في بطون ما ذكرنا ، وينشد في ذلك رَجزا لبعضهم :
*** مِثْلُ الفِراخِ نُتّفَتْ حَوَاصِلُهْ ***
إنّ المَنِيّةَ والحُتُوفَ كلاهُما *** يُوفي المخَارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي
فقال : «كلاهما » ، ولم يقل : «كلتاهما » وقول الصّلتان العَبْديّ :
إنّ السّماحَةَ والمُرُوءَة ضُمّنا *** قَبْرا بمَرْوَ على الطّرِيقِ الوَاضِحِ
وعَفْرَاءُ أدْنَى النّاس مِنّي مَوَدّةً *** وعَفْرَاءُ عَنّي المُعْرِضُ المُتَوَانِي
ولم يقل : المعرضة المتوانية وقول الاَخرة :
إذا النّاسُ ناسٌ والبِلادُ بِغبْطَةٍ *** وَإذْ أُمّ عَمّارٍ صَديقٌ مُساعِفُ
ويقول : كل ذلك على معنى هذا الشيء ، وهذا الشخص والسواد ، وما أشبه ذلك . ويقول : من ذلك قول الله تعالى ذكره : { فَلَمّا رأى الشّمْسَ بازِغَةً قالَ هذَا رَبّي } ، بمعنى : هذا الشيء الطالع ، وقوله : { إنّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ } ، ولم يقل ذكرها ؛ لأن معناه : فمن شاء ذكر هذا الشيء ، وقوله : { وَإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ فَلَمّا جاءَ سُلْيمانَ } ، ولم يقل «جاءت » .
وكان بعض البصريين يقول : قيل : مِمّا فِي بُطُونِه ؛ ِ لأن المعنى : نسقيكم من أيّ الأنعام كان في بطونه . ويقول : فيه اللبن مضمر ، يعني : أنه يسقي من أيها كان ذا لبن ، وذلك أنه ليس لكلها لبن ، وإنما يُسقى من ذوات اللبن . والقولان الأوّلان أصحّ مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث .
وقوله : { مِنْ بينِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنا خالِصا } ، يقول : نسقيكم لبنا ، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا يقول : خلص من مخالطة الدم والفرث فلم يختلطا به . { سائِغا للشّارِبِينَ } ، يقول : يسوغ لمن شربه ، فلا يَغَصّ به ، كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة . وقيل : إنه لم يَغَصّ أحد باللبن قَطّ .
هذه حُجّة أخرى ومنّة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام ، أدمج في منّتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعاً لقوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } إلى قوله : { لرؤوف رحيم } [ سورة النحل : 5 7 ] .
ومناسبة ذكر هذه النّعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماءِ السماء ، وأن لآثار ماء السماء أثراً في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى .
واختصّت هذه العبرة بما تنبّه إليه من بديع الصّنع والحكمة في خلق الألبان بقوله : { مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً } ، ثم بالتذّكير بما في ذلك من النّعمة على الناس إدماجاً للعبرة بالمنّة .
فجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } معطوفة على جملة { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] ، أي كما كان القوم يسمعون عِبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضاً ، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القومَ الذين يسمعون .
وضمير الخطاب التفات من الغيبة . وتوكيدها ب { إن } ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها .
و { الأنعام } : اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز .
والعبرة : ما يُتّعظ به ويُعتبر . وقد تقدم في نهاية سورة يوسف .
وجملة { نسقيكم مما في بطونه } واقعة موقع البيان لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .
والبطون : جمع بطن ، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد وأمْعاء .
و ( من ) في قوله تعالى : { مما في بطونه } ابتدائية ، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون . وما صْدَقُ « ما في بطونه » العلف . ويجوز جعلها تبْعيضية ويكون ما صدق « ما في بطونه » هو اللبن اعتداداً بحالة مُروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع .
و { من } في قوله تعالى : { من بين فرث } زائدة لتوكيد التوسّط ، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم .
ووقع البيان ب { نسقيكم } دون أن يقال : تشربون أو نحوه ، إدماجاً للمنّة مع العبرة .
ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة ، ثم الكَبِد ، ثم غدد الضرع ، مائعاً يسقى وهو مفرز من بين أفراز فرث ودم .
والفرث : الفضلات التي تركها الهضم المَعِدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فَرثا . والدمّ : إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يَدور كذلك بواسطة القلب . وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة والدم } في سورة العقود ( 3 ) .
ومعنى كون اللّبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدّم وإفراز الفرث . وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمرّ بجوار الفضلات البوليّة والثفلية ، فتفرزه غدد الضرع لبَناً كما تفرزه غدد الكليتين بَولاً بدون معالجة زائدة ، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثَفلاً بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمَنِيّ لتوقّفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها .
وليس المراد أن اللّبن يتميّع من بين طبقتيّ فرث ودم ، وإنما الذي أوهم ذلك مَن تَوهمه حمْله { بينَ } على حقيقتها من ظرف المكان ، وإنما هي تستعمل كثيراً في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم : الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن . فمن بلاغة القرآن هذا التعبيرُ القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم ، مع كونه موافقاً للحقيقة .
والمعنى : إفراز ليس هو بدم لأنه أليَنُ من الدم ، ولأنه غير باققٍ في عروق الضرع كبقاء الدّم في العروق ، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه ، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز طاهر نافع مغذّ ، وليس قذراً ضاراً غير صالح للتغذية كالبول والثفل .
وموقع { من بين فرث ودم } موقع الصفة ل { لبناً } ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة ، فكان لها مزيد اهتمام ، وقد صارت بالتقديم حالاً .
ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولاً ل { نَسقيكم } ، وجعل { مما في بطونه } تبييناً لمصدره لا لمَورده ، فليس اللبن مما في البطون ؛ ولذلك كان { مما في بطونه } متقدماً في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل { نسقيكم } وليس وصفاً لِْلّبن .
وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها لِلْلّبن قوله تعالى : { خالصاً سائغاً للشاربين } . فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل ، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شَربه ، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهّمه .
وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية ، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذٍ أن يعرف دقائق تكوينه ، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وَصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمعَ .
وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى : { مما في بطونه } مراعاة لكون اللفظ مفرداً لأن اسم الجمع لفظ مفرد ، إذ ليس من صيغ الجموع ، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفرداً ، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع ، كما في آية سورة المؤمنين ( 21 ) { نسقيكم مما في بطونها } والخالص : المجرّد مما يكدّر صفاءه ، فهو الصافي . والسائغ : السهل المرور في الحلق .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { نسقيكم } بفتح النون مضارع سَقى . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم النون على أنه مضارع أسْقى ، وهما لغتان ، وقرأه أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضاً عن النون على أن الضمير للأنعام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن لكم في الأنعام لعبرة}، يعني: التفكر،
{نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا}، من القذر،
{سائغا للشاربين}، يسيغ من يشربه، وهو لا يسيغ الفرث والدم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام، التي نُسْقيكم مما في بطونه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"نُسْقِيكُمْ" فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة، سوى عاصم، ومن أهل المدينة أبو جعفر: "نُسْقِيكُمْ "بضم النون. بمعنى: أنه أسقاهم شرابا دائما. وكان الكسائي يقول: العرب تقول: أسقيناهم نَهْرا، وأسقيناهم لبنا: إذا جعلته شِرْبا دائما، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة، قالوا: سقيناهم، فنحن نَسْقِيهم، بغير ألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر، ومن أهل العراق عاصم: «نَسْقِيكم»، بفتح النون، من سقَاه الله، فهو يَسْقيه. والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السقي غير دائم، وتنزعها فيما كان دائما، وإن كان أشهر الكلامين عندها، ما قال الكسائي، يدلّ على ما قلنا من ذلك... فإذا كان ذلك كذلك، فبأية القراءتين قرأ القارىء فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون؛ لما ذكرت من أن الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف، فهو يُسْقِي. وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم له، غير منقطع عنهم.
وأما قوله: {ممّا فِي بُطُونِهِ} وقد ذكر الأنعام قبل ذلك، وهي جمع، والهاء في البطون موحدة، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالاً، فكان بعض نحويي الكوفة يقول: النّعم والأنعام شيء واحد؛ لأنهما جميعا جمعان، فردّ الكلام في قوله: {مِمّا فِي بُطُونِهِ}، إلى التذكير، مرادا به معنى النّعم، إذ كان يؤدي عن الأنعام... وكان غيره منهم يقول: إنما قال: مِمّا فِي بُطُونِهِ؛ لأنه أراد: مما في بطون ما ذكرنا... وقوله: {مِنْ بينِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنا خالِصا}، يقول: نسقيكم لبنا، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا يقول: خلص من مخالطة الدم والفرث فلم يختلطا به. {سائِغا للشّارِبِينَ}، يقول: يسوغ لمن شربه، فلا يَغَصّ به، كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}، أي: يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم، يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله، لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله...
فسبحان الله، ما أعظم قدرته، وألطف حكمته، لمن تفكر وتأمّل...
وسئل شقيق عن الإخلاص، فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم...
{سَآئِغًا}، سهل المرور في الحلق...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ؛ بِخُرُوجِ اللَّبَنِ خَالِصًا من بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، بَيْنَ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ، وَجَرَى الْكُلُّ فِي سَبِيلٍ مُتَّحِدَةٍ، فَإِذَا نَظَرْت إلَى لَوْنِهِ، وَجَدْته أَبْيَضَ نَاصِعًا خَالِصًا من شَائِبَةِ الْجَارِ، وَإِذَا شَرِبْته وَجَدْته سَائِغًا عَنْ بَشَاعَةِ الْفَرْثِ، يُرِيدُ لَذِيذًا... التَّنْبِيهَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى اللَّذَّةِ وَطِيبِ الْمَطْعَمِ، مَعَ كَرَاهِيَةِ الْجَارِ الَّذِي انْفَصَلَ عَنْهُ فِي الْكَرِشِ، وَهُوَ الْفَرْثُ الْقَذِرُ...
وَهَذِهِ قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالْمَصْلَحَةِ...
قَالَ الْقَاضِي... اللَّبَنَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْقُدْرَةِ، لِيَكُونَ عِبْرَةً؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلَّهُ لَهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ وَالطَّهَارَةِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم، عملية عجيبة فائقة العجب، وهي تتم في الجسم في كل ثانية، كما تتم عمليات الاحتراق. وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد.. ولا يملك إنسان سوى الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني، الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر، ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى...
وقد بقى هذا كله سرا إلى عهد قريب. وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة. وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل. ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن. فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة. والقرآن -يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة- يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه حُجّة أخرى ومنّة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام، أدمج في منّتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعاً لقوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء} إلى قوله: {لرؤوف رحيم} [سورة النحل: 5 7].
ومناسبة ذكر هذه النّعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماءِ السماء، وأن لآثار ماء السماء أثراً في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى.
واختصّت هذه العبرة بما تنبّه إليه من بديع الصّنع والحكمة في خلق الألبان بقوله: {مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً}، ثم بالتذّكير بما في ذلك من النّعمة على الناس إدماجاً للعبرة بالمنّة.
فجملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} معطوفة على جملة {إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} [سورة النحل: 65]، أي كما كان القوم يسمعون عِبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضاً، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القومَ الذين يسمعون.
وضمير الخطاب التفات من الغيبة. وتوكيدها ب {إن} ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها.
و {الأنعام}: اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز.
والعبرة: ما يُتّعظ به ويُعتبر. وقد تقدم في نهاية سورة يوسف.
وجملة {نسقيكم مما في بطونه} واقعة موقع البيان لجملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة}.
والبطون: جمع بطن، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد وأمْعاء.
و (من) في قوله تعالى: {مما في بطونه} ابتدائية، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون. وما صْدَقُ « ما في بطونه» العلف. ويجوز جعلها تبْعيضية ويكون ما صدق « ما في بطونه» هو اللبن اعتداداً بحالة مُروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع.
و {من} في قوله تعالى: {من بين فرث} زائدة لتوكيد التوسّط، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم.
ووقع البيان ب {نسقيكم} دون أن يقال: تشربون أو نحوه، إدماجاً للمنّة مع العبرة.
ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة، ثم الكَبِد، ثم غدد الضرع، مائعاً يسقى وهو مفرز من بين أفراز فرث ودم.
والفرث: الفضلات التي تركها الهضم المَعِدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فَرثا. والدمّ: إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يَدور كذلك بواسطة القلب. وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {حرّمت عليكم الميتة والدم} في سورة العقود (3).
ومعنى كون اللّبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدّم وإفراز الفرث. وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمرّ بجوار الفضلات البوليّة والثفلية، فتفرزه غدد الضرع لبَناً كما تفرزه غدد الكليتين بَولاً بدون معالجة زائدة، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثَفلاً بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمَنِيّ لتوقّفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها.
وليس المراد أن اللّبن يتميّع من بين طبقتيّ فرث ودم، وإنما الذي أوهم ذلك مَن تَوهمه حمْله {بينَ} على حقيقتها من ظرف المكان، وإنما هي تستعمل كثيراً في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم: الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن. فمن بلاغة القرآن هذا التعبيرُ القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم، مع كونه موافقاً للحقيقة.
والمعنى: إفراز ليس هو بدم لأنه أليَنُ من الدم، ولأنه غير باققٍ في عروق الضرع كبقاء الدّم في العروق، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز طاهر نافع مغذّ، وليس قذراً ضاراً غير صالح للتغذية كالبول والثفل.
وموقع {من بين فرث ودم} موقع الصفة ل {لبناً}، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة، فكان لها مزيد اهتمام، وقد صارت بالتقديم حالاً.
ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولاً ل {نَسقيكم}، وجعل {مما في بطونه} تبييناً لمصدره لا لمَورده، فليس اللبن مما في البطون؛ ولذلك كان {مما في بطونه} متقدماً في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل {نسقيكم} وليس وصفاً لِْلّبن.
وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها لِلْلّبن قوله تعالى: {خالصاً سائغاً للشاربين}. فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شَربه، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهّمه.
وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذٍ أن يعرف دقائق تكوينه، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وَصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمعَ.
وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى: {مما في بطونه} مراعاة لكون اللفظ مفرداً لأن اسم الجمع لفظ مفرد، إذ ليس من صيغ الجموع، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفرداً، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع، كما في آية سورة المؤمنين (21) {نسقيكم مما في بطونها} والخالص: المجرّد مما يكدّر صفاءه، فهو الصافي. والسائغ: السهل المرور في الحلق.
فاللبن من نعم الله الدالة على قدرته سبحانه، وفي إخراجه من بين فرث ودم عبرة وعظة، وكأن الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسي الذي نشاهده إلى المعنى القيمي في المنهج، فالذي صنع لنا هذه العبرة لإصلاح قالبنا قادر على أن يصنع لنا من المنهج ما يصلح قلوبنا...