الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

فيه عشر مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " وإن لكم في الأنعام لعبرة " ، قد تقدم القول في الأنعام{[9920]} ، وهي هنا الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز . " لعبرة " ، أي : دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته . والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة ، ومنه " فاعتبروا " {[9921]} [ الحشر : 2 ] . وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء . ومن أعظم العبر : بريء يحمل مذنبا .

الثانية : قوله تعالى : " نسقيكم " ، قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي . وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي ، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة . قيل : هما لغتان . وقال لبيد :

سقَى قومِي بني مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْرًا والقبائلَ من هِلاَلِ

وقيل : يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته ، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه ، قلت : أسقيته ، قاله ابن عزيز ، وقد تقدم{[9922]} . وقرأت فرقة : " تسقيكم " ، بالتاء ، وهي ضعيفة ، يعني الأنعام . وقرئ بالياء ، أي : يسقيكم الله عز وجل . والقراء على القراءتين المتقدمتين ، ففتح النون لغة قريش ، وضمها لغة حمير .

الثالثة : قوله تعالى : " مما في بطونه " ، اختلف الناس في الضمير من قوله : " مما في بطونه " على ماذا يعود ؟ فقيل : هو عائد إلى ما قبله ، وهو جمع المؤنث . قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد . قال ابن العربي : وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية ، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه . وقيل : لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث ، فيقال : هو الأنعام وهي الأنعام ، جاز عود الضمير بالتذكير ، وقال الزجاج ، وقال الكسائي : معناه مما في بطون ما ذكرناه ، فهو عائد على المذكور ، وقد قال الله تعالى : " إنها تذكرة ، فمن شاء ذكره " {[9923]} [ عبس : 11 - 12 ] وقال الشاعر :

مثل الفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُه

ومثله كثير . وقال الكسائي : " مما في بطونه " ، أي : مما في بطون بعضه ؛ إذ الذكور لا ألبان لها ، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة . وقال الفراء : الأنعام والنعم واحد ، والنعم يذكر ، ولهذا تقول العرب : هذا نعم وارد ، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام . قال ابن العربي : إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع ، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال : " نسقيكم مما في بطونها{[9924]} " [ المؤمنون : 21 ] . وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا . والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة ، والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل{[9925]} يَبْرِين وتَيْهَاء فلسطين .

الرابعة : استنبط بعض العلماء الجِلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير ، أن لبن الفحل يفيد التحريم ، وقال : إنما جيء به مذكرا ؛ لأنه راجع إلى ذكر النعم ؛ لأن اللبن للذكر محسوب ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم ، حين أنكرته عائشة في حديث : أفلح أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح ) ، فجرى الاشتراك فيه بينهما . وقد مضى القول في تحريم لبن الفحل في " النساء{[9926]} " والحمد لله . .

الخامسة : قوله تعالى : " من بين فرث ودم لبنا خالصا " ، نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم . والفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج لم يسم فرثا . يقال : أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها . والمعنى : أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم ، ثم يخلص اللبن من الدم ، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك ، وبين الدم في العروق . وقال ابن عباس : إن الدابة تأكل العلف ، فإذا استقر في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ، والكبد مسلط على هذه الأصناف ، فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق ، وتجري اللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو في الكرش ، " حكمة بالغة فما تغن النذر{[9927]} " [ القمر :5 ] . " خالصا " يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث ، وقد جمعهما وعاء واحد . وقال ابن بحر : خالصا بياضه . قال النابغة :

بخالصة الأردَانِ{[9928]} خُضْرِ المَنَاكِبِ

أي بيض الأكمام . وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة .

السادسة : قال النقاش : في هذا دليل على أن المني ليس بنجس . وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا ، كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا . قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع . اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة ، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة ، وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه .

قلت : قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم ، وقد قال تعالى : " يخرج من بين الصلب والترائب{[9929]} " [ الطارق : 7 ] ، وقال : " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة{[9930]} " [ النحل : 72 ] وهذا غاية في الامتنان . فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول ، قلنا : هو ما أردناه ، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر ، وقد قيل : إن مخرجه غير مخرج البول ، وخاصة المرأة ، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قال العلماء . فإن قيل : أصله دم فهو نجس ، قلنا ينتقض بالمسك ، فإن أصله دم وهو طاهر . وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري . قال الشافعي : فإن لم يفرك فلا بأس به . وكان سعد بن أبي وقاص يفرك المني من ثوبه . وقال ابن عباس : هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة . فإن قيل : فقد ثبت عن عائشة أنها قالت : كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه . قلنا : يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة ، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث . والله أعلم . وقال مالك وأصحابه والأوزاعي : هو نجس . قال مالك : غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا ، وهو قول الكوفيين . ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم . واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة . وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون .

السابعة : في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره ، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به ؛ لأنه مانع طاهر حصل في وعاء نجس ، وذلك أن ضرع الميتة نجس ، واللبن طاهر ، فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس . فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه ، فمن قال : إن الإنسان طاهر{[9931]} حيا وميتا ، فهو طاهر . ومن قال : ينجس بالموت ، فهو نجس . وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة ؛ لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ) . ولم يخص . وقد مضى في " النساء " {[9932]} .

الثامنة : قوله تعالى : " سائغا للشاربين " ، أي : لذيذا هينا لا يغص به من شربه . يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق ، وأساغه شاربه ، وسغته أنا أسيغه وأسوغه ، يتعدى ، والأجود أسغته إساغة . يقال : أسغ لي غصتي ، أي : أمهلني ولا تعجلني ، وقال تعالى : " يتجرعه ولا يكاد يسيغه{[9933]} " [ إبراهيم : 17 ] . والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك . يقال : الماء سواغ الغصص ، ومنه قول الكميت :

فكانتْ سِوَاغًا أن جَئَزْت بغُصّة

وروي أن اللبن لم يَشرَق به أحد قط ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

التاسعة : في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها ، ولا يقال : إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده ، لكن إذا كان من وجهه ، ومن غير سرف ولا إكثار . وقد تقدم هذا المعنى في " المائدة " {[9934]} وغيرها . وفي الصحيح عن أنس قال : لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله : العسل والنبيذ واللبن والماء . وقد كره القراء أكل الفالوذج{[9935]} واللبن من الطعام ، وأباحه عامة العلماء . وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار ، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله ، فقال له الحسن : كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا .

العاشرة : روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أكل أحدكم طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه . وإذا سقي لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن ) . قال علماؤنا : فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان ، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام ، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة ؛ فقال في الصحيح : ( فجاءني جبريل بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال لي جبريل : اخترت الفطرة ، أما إنك لو اخترت الخمر غوت{[9936]} أمتك ) . ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات ، فهو مبارك كله .


[9920]:راجع ج 7 ص 111.
[9921]:راجع ج 18 ص 5.
[9922]:راجع ج 1 ص 418.
[9923]:راجع ج 19 ص 213.
[9924]:راجع ج 12 ص 118.
[9925]:رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة. (ياقوت).
[9926]:راجع ج 5 ص 111.
[9927]:راجع ج 17 ص 128.
[9928]:الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الكم.
[9929]:راجع ج 20 ص 4.
[9930]:راج ص 142 من هذا الجزء.
[9931]:أي المسلم.
[9932]:راجع ج 5 ص 111.
[9933]:راجع ج 9 ص 349.
[9934]:راجع ج 6 ص 260 وما بعدها. و ج 7 ص 191.
[9935]:الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة).
[9936]:غوت: ضلت وفسدت.