اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

قوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ } ، والعِبرةُ : العِظةُ .

قرأ ابن كثير ، و أبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي : " نُسْقِيكمْ " ، بضمِّ النون هنا ، وفي المؤمنين . والباقون{[19929]} : بفتح النون فيهما .

وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة ، كأنه قيل : كيف العبرة ؟ فقيل : نسقيكم من بين فرثٍ ، ودم لبناً خالصاً ، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ ، [ مضمر ]{[19930]} ، والجملة جواب لذلك السؤال ، أي : هي ، أي : العبرة نسقيكم ، ويكون كقوله : " تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ " .

واختلف النَّاس : هل سَقَى ، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ ، أم بينهما فرقٌ ؟ .

خلافٌ مشهورٌ ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال : [ الوافر ]

سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال{[19931]}

دعى للجميع بالسقي ، والخصب ، و " نُمَيْراً " ، هو : المفعول الثاني ، أي : ما نميراً ، وقال أبو عبيدة : من سقى الشفة : " سقى " فقط ، ومن سقى الشجر والأرض : " أسقى " ، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها : أسقى فقط .

وقال الأزهري{[19932]} - رحمه الله- : العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام ، ومن السَّماء ، أو نهر يجري أسقيته ، أي : جعلته شرباً له ، وجعلت له منه مسقى ، فإذا كان للمنفعة قالوا : " سَقَى " ، ولم يقولوا : " أسْقَى " .

وقال الفارسيُّ{[19933]} : " سقيْتهُ حتَّى رَوِيَ ، وأسْقَيتهُ نَهْراً ، جَعَلتهُ لَهُ شرباً " .

وقيل : سقاهُ ، إذا ناوله الإناء ؛ ليشرب منه ، ولا يقال من هذا أسقاه .

وقرأ أبو{[19934]} رجاء : " يُسْقِيكُمْ " ، بضمِّ الياء من أسفل ، وفي فاعله وجهان :

أحدهما : هو الله - تعالى- .

والثاني : أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام ، أي : نعماً يجعل لكم سقياه .

وقرئ{[19935]} : " تَسْقِيكُمْ " ، بفتح التاء من فوق . قال ابن عطيَّة : وهي ضعيفة .

قال أبو حيَّان{[19936]} : " وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في : " نُسقِيكُم " ، وذكر في قوله : " ممَّا في بطُونهِ " ، ولا ضعف من هذه الجهة ؛ لأنَّ التَّذكير ، والتَّأنيث باعتبارين " .

قال شهابُ الدِّين : وضعفها عنده من حيث المعنى ، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام .

قوله : { مِمَّا فِي بُطُونِهِ } ، يجوز أن تكون " مِنْ " ، للتبعيض ، وأن تكون لابتداء الغاية ، وعاد الضمير ها هنا على الأنعام مفرداً مذكراً .

قال الزمخشريُّ : ذكر سيبويه ، الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم " ثَوْب أسْمَال " ، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً ، وأمَّا { فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] في سورة المؤمنين ، فلأنَّ معناه الجمع ، ويجوز أن يقال في " الأنعام " وجهان :

أحدهما : أن يكون جمع تكسير : " نَعَم " ، كأجْبَال في جَبَل .

وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمعِ ، فإذا ذكر ، فكما يذكر " نَعَم " في قوله : [ الرجز ]

في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ *** يُلْقِحهُ قَومٌ ويَنتِجُونَهُ{[19937]}

وإذا أنَّث ، ففيه وجهان : أنه تكسير " نعم " ، وأنه في معنى الجمع .

قال أبو حيَّان : أمَّا ما ذكرهُ عن سيبويه ، ففي كتابه في هذا الباب ، ما كان على مثال مفاعل ، ومفاعيل ما نصُّه : " وأمَّا أجمال ، وفلوس فإنَّها تنصرف ، وما أشبهها ؛ لأنها ضارعت الواحد ، ألا ترى أنك تقول : أقْوَال ، وأقَاوِيل ، وأعْرَاب ، وأعَارِيب ، وأيْدٍ ، وأيَادٍ ، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال : مفَاعِل ، ومفَاعِيل كما يخرج إليه الواحد ، إذا كسر الجمع ، وأما مفاعل ، ومفاعيل ، فلا يكسر ؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا البناء ؛ لأنَّ هذا البناء هو الغاية ، فلما ضارعت الواحد صرفت " .

ثمَّ قال : وكذلك الفعول لو كسرت ، مثل الفلوس ؛ لأن يجمع جمعاً لأخرجته إلى فَعائِل ، كما تقول : جَدُود ، وجَدائِد ، ورَكُوب ، ورَكائِب ، وركاب .

ولو فعلت ذلك بمفاعل ، ومفاعيل ، لم يجاوز هذا البناء ، ويقوي ذلك أنَّ بعض العرب تقول : " أُتي " ، للواحد فيضم الألف ، وأمَّا أفعال ؛ فقد تقع للواحد ، من العرب من يقول : " هو الأنعامُ " ، قال - الله عزَّ وجلَّ- : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطَّاب : سمعت من العرب من يقول : هذا ثوب أكياش .

قال : والذي ذكره سيبويه{[19938]} : هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل ، وبين أفعال وفُعول وإن كان الجميع أبنية للجمع ، من حيث إنَّ مفاعل ، ومفَاعِيل لا يجمعان ، وأفعالٌ وفعولٌ قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل ، أو مفاعيل فلما كانا قد يخرجان إلى ذلك انصرفا ، ولم ينصرف " مفاعل " و " مفاعيل " ؛ لشبه ذينك بالمفرد ، من حيث إنه يمكن جمعها ، وامتناع هذين من الجمع ، ثمَّ قوي شبههما بالمفرد ، بأن بعض العرب يقول في : " أَتى " " أُتى " ، بضم الهمزة ، يعني : أنه قد جاء نادراً فعول ، من غير المصدر للمفرد ، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضمير ، فيقول : هو الأنعامُ ، وإنَّما ذلك على سبيل المجاز ؛ لأنَّ الأنعام في معنى النعم ، والنَّعَم يفرد ؛ كما قال الشاعر : [ الوافر ]

تَركْنَا الخَيْلَ والنَّعَمَ المفدَّى *** وقُلْنَا للنِّساءِ بها : أقِيمِي{[19939]}

ولذلك قال سيبويه : " وأمَّا أفعال فقد يقع للواحد " فقوله : " قد يقع للواحد " ، دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضع ، فقول الزمخشريُّ : " إنَّه ذكره في الأسماءِ المفردةِ على أفعال " ، تحريف في اللفظ ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده ، ويدلُّ على ما قلناه : أنَّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة ، نص على أنَّ " أفعالاً " ليس من أبنيتها .

قال سيبويه في باب ما لحقته الزِّيادة من بنات الثلاثة : " وليس في الكلام أفعيل ، ولا أفْعَول ، ولا أُفْعَال ، ولا أفْعِيل ، ولا أفعالُ ، إلا أن تكسِّر عليه اسماً للجمع " ، قال : " فهذا نصٌّ منه على أنَّ : أفعالاً لا يكون في الأسماء المفردة " .

قال شهاب الدِّين{[19940]} : الَّذي ذكره الزمخشريَّ ، وهو ظاهر عبارة سيبويه ، وهو كافٍ في تسويغ عودِ الضمير مفرداً ، وإن كان أفعالاً قد يقع موقع الواحد مجازاً ، فإنَّ ذلك ليس بصائرٍ فيما نحن بصدده ، ولم يحرِّف لفظه ، ولم يفهم عنه غير مراده لما ذكرناه من هذا المعنى الذي قصده .

وقيل : إنَّما ذكر الضمير ؛ لأنه يعود على البعض ، وهو الإناثُ ؛ لأنَّ الذُّكور لا ألبان لها ، والعبرة إنَّما هي في بعض الأنعام .

وقال الكسائي - رحمه الله - : " أي في بطون ما ذُكِر " .

قال المبرِّد : وهذا سائغ في القرآن ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 11 ، 12 ] ، أي : هذا الشيء الطَّالع ، ولا يكون هذا إلاَّ في التَّأنيث المجازي .

ولا يجوز : جاريتك ذهب ، وغلامك ذهبت ، وعلى هذا خرج قوله : [ الرجز ]

فِيهَا خَطوطٌ من سَوادٍ وبَلقْ *** كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوليعُ البَهَقْ{[19941]}

أي : كأن المذكور .

وقيل : جمع التكسير فيما لا يعقل ، يعامل معاملة الجماعة ، ومعاملة الجمع .

ففي هذه السورة اعتبر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين ، اعتبر معنى الجماعة ، ومن الأوَّل قول الشَّاعر : [ الرجز ]

مِثْلُ الفِراخِ نُتفَتْ حَواصِلُه{[19942]} *** ، وقيل : لأنه يسدُّ مسدَّ الواحد ، يُفهم الجمع فإنه يسد مسده " نعم " ، ونعم يفهم الجمع ؛ ومثله قول الشاعر : [ الرجز ]

وطَابَ ألبَانُ اللِّقاحِ وبَرَد{[19943]} *** ؛ لأنه يسد مسدَّها " لبن " .

ومثله قولهم : هو أحسن الفتيان ، وأجمله ، أي : أحسن فتى ، إلاَّ أنَّ هذا لا ينقاس عند سيبويه وأتباعه .

وذكر أبو البقاء{[19944]} ستَّة أوجهٍ ، تقدم منها في غضون ما ذكر خمسة ، والسادس : أنه يعود على الفحل ؛ لأنَّ اللبن يكون من طرق الفحلِ الناقة ، فأصل اللَّبن من الفحل .

قال : " وهذا ضعيف ؛ لأنَّ اللبن ، وإن نسب إلى الفحل ، فقد جمع البطون ، وليس في فحل الأنعام إلاَّ واحداً ، ولا للواحد بطون ، فإن قيل : أراد الجنس ، فقد ذكر " .

يعني : أنه قد تقدَّم أنَّ التَّذكير باعتبار جنس الأنعام ، فلا حاجة إلى تقدير عوده على فحلٍ ، المراد به الجنس ، وهذا القول نقله مكي عن إسماعيل القاضي - رحمه الله - ، ولم يعقبه بنكير .

قال القرطبي{[19945]} : واستنبط القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير : أن لبن الفحل يقبل التَّحريم .

وقال : إنَّما جيءَ به مذكَّراً ؛ لأنَّه راجع إلى ذكر النَّعم ؛ لأنَّ اللَّبن للذَّكرِ محسوب ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنَّ اللبن محرِّمٌ حين أنكرته عائشة - رضي الله عنها - في حديث : " أفْلحَ أخي أبِي القعيس ، فلِلمَرْأةِ السَّقيُ ، وللرَّجُلِ اللِّقاحُ " .

قوله : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، يجوز فيه أوجه :

أحدها : أنَّه متعلق بالسّقي ، على أنَّها لابتداء الغاية ، فإن جعلنا ما قبلها كذلك ، تعين أن يكون : مجرورها بدلاً من مجرور " من " الأولى ، لئلا يتعلَّق عاملان متَّحدان لفظاً ومعنى [ بمعمول ]{[19946]} واحد ، وهو ممتنع ، إلا في بدل الاشتمال ؛ لأنَّ المكان مشتملٌ على ما حلَّ فيه ، وإن جعلتها للتَّبعيض هان الأمر .

الثاني : أنَّها في محل نصبٍ على الحالِ من " لَبناً " ، إذ لو تأخَّرت ، لكانت مع مجرورها نعتاً . قال الزمخشريُّ : " وإنَّما قدِّم ؛ لأنه موضع العِبرة ، فهو قمنٌ بالتَّقدم " .

الثالث : أنَّها مع مجرورها حالٌ من الضمير الموصول قبلها .

والفَرْثُ : فضالة ما يبقى من العلفِ في الكرشِ ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في الأمعاء ، ويقال : فرث كبده ، أي : فتَّتها ، وأفرث فلانٌ فلاناً ؛ أوقعه في بليَّة ، يجرى مجرى الفرث .

روى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال : " إذا استقرَّ العلف في الكرش ، صار أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً ، وأوسطه لبناً ، فيجري الدَّمُ في العروقِ ، واللبن في الضَّرع ، ويبقى الفرث كما هو " {[19947]} .

قوله : " لَبَناً " هو المفعول الثاني للسَّقي .

وقرئ{[19948]} : " سَيِّغاً " ، بتشديد الياءِ ، بزنة " سَيِّد " ، وتصريفه كتصريفه . وخفف عيسى بن عمر ، نحو " مَيْتٍ " ، و " هَيْنٍ " ، ولا يجوز أن يكون فعلاً ، إذ كان يجب أن يكون سوغاً كقول .

ومعنى : " سَائغاً للشَّاربينَ " ، أي : هنيئاً يجري بسهولة في الحلق ، وقيل : إنه لم [ يشرق ]{[19949]} أحدٌ باللَّبن قطُّ .

فصل :

قال ابن الخطيب{[19950]} : اللَّبنُ والدَّم لا يتولدان البتَّة في الكرشِ ، والدَّليلُ عليه الحسُّ ، فإنَّ هذه الحيوانات تذبحُ ذبحاً متوالياً ، وما رأى أحدٌ في كرشها لا دماً ، ولا لبناً ، ولو كان تولد الدَّم ، واللَّبن في الكرش ؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال ، والشيء الذي دلَّت المشاهدة على فساده ؛ لم يجز المصير إليه ، بل الحق أنَّ الحيوان إذا تناول الغذاء ، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً ، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها ، فإذا طبخ ، وحصل الهضمُ الأول فيه ، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً ، نزل إلى الأمعاء ، ثمَّ ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ، ويصير دماً ، وذلك هو الهضم الثاني ، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصَّفراءِ ، والسَّوداء ، وزيادة المادة المائية ، أمَّا الصفراء ، فتذهب إلى المرارة ، والسَّوداءُ إلى الطحالِ ، و الماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة ، وهي العروقُ النابتة من الكبدِ ، وهناك يحصل الهضمُ الثالث ، وبين الكبد ، وبين الضَّرع عروق كثيرة ، فينصبُّ الدَّم من تلك العروق إلى الضَّرع ، والضرع : لحمٌ غدديٌّ رخو أبيض ، فيقلب الله - تعالى - الدم عند إصبابه إلى ذلك اللَّحم الغددي الرَّخو الأبيض ، من صورة الدَّم إلى صورة اللَّبن ، فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن .

فإن قيل : هذه المعاني حاصلةٌ في الحيوان الذَّكر ، فلم لم يحصل منه اللَّبنُ ؟ قلنا : الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت تدبير كلِّ شيءٍ على الوجه اللائق به ، الموافق لمصلحته ، فمزاج الذَّكر من كلِّ حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً ، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً ، والحكمة فيه أنَّ الولد إنَّما يتكوَّن في داخل بدن الأنثى ؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصاً بمزيد الرطوبات لوجهين :

الأول : أنَّ الولد إنما يتولَّد من الرطوبات ، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة ؛ لتصير مادة لتولد الولد .

والثاني : أنَّ الولد إذا كبر ، وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتَّمدد ؛ حتى يتسع لذلك الولد ، فإذا كانت الرُّطوبات غالبة على بدنِ الأم ، كان بدنها قابلاً للتَّمدد ؛ فيتسع للولد ، فثبت بما ذكرنا أنه - تعالى - خصَّ بدن الأنثى من كل حيوانٍ بمزيد الرُّطوبات لهذه الحكمة ، ثم إنَّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين ، حين كان في رحم الأم ، فعند انفصال الجنين ، تنصب إلى الثَّدي ، والضرع ، ليصير مادَّة لغذاءِ ذلك الطفل الصَّغير ، فظهر أنَّ السبب الذي لأجله يتولَّد اللَّبن من الدَّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذَّكر ، فظهر الفرقُ .

وقد تقدَّم ما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - في أنَّ الفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، و اللبن يكون في الوسطِ ، وبيَّنَّا أنَّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة .

واعلم أنَّ حدوث اللَّبن في الثدي ، واتِّصافه بالصِّفات الموافقة لتغذية الطفل ، مشتمل على حكم عجيبة ، يشهد صريح العقل بأنَّها لا تحصل إلاَّ بتدبير الفاعل الحكيمِ والمدبر الرحيم ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنه - تعالى - خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاءِ ، فإذا تناول الإنسان غذاء ، أو شربة رقيقة ؛ انطبق ذلك المنفذُ انطباقاً كليًّا ، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول ، والمشروب ، إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثقل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثقل ، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة ، انفتح فحصل الانطباق تارة ، و الانفتاح أخرى ، بحسب الحاجة ، وتقدير المنفعة ممَّا لا يتأتَّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم .

الثاني : أنه - تعالى - أودع في الكبدة قوةً ، تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول ، والمشروب ، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة ، وخلق في الأمعاءِ قوَّة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي : الثقل ، ولا تجذب الأشياء اللطيفة البتَّة ، ولو كان الأمر بالعكس ، لاختلفت مصلحة البدن ، ولفسد نظامُ هذا التركيب .

الثالث : أنه - سبحانه وتعالى - أودع في الكبد قوَّة هاضمة طابخة ، حتَّى إنَّ تلك الأجزاء اللطيفة ؛ تنطبخُ في الكبد ، وتنقلب دماً ، ثمَّ إنه - تعالى - أودع في المرارة قوَّة جاذبة للصَّفراء ، وفي الطحال قوَّة جاذبة للسَّوداء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائيَّة ، حتى يبقى الدم الصَّافي الموافق لتغذية البدن ، وتخصيص كلِّ واحد من هذه الأعضاء بتلك القوَّة الحاصلة ، لا يمكن إلا بتدبير الحكيم العليم .

الرابع : أنَّ في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ، ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه ، حتى يصير مادة تنمي أعضاء ذلك الولد ، وازدياده ، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرَّحم ، ينصب ذلك النَّصيب إلى جانب الثَّدي ؛ ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له ، فإذا كبر ذلك الولد ، لم ينصب ذلك النَّصيب لا إلى الرَّحم ، ولا إلى الثدي ، بل ينصبُّ على مجموع بدن المتغذي ، فانصبابُ ذلك الدَّم في كلِّ وقتٍ إلى عضوٍ آخر انصباباً موافقاً للمصلحة ، والحكمة لا يتأتَّى إلاَّ بتدبير الفاعل المختار الحكيم .

الخامس : أنَّ عند تولد اللَّبن في الضرع ، أحدث - تعالى - في حلمة الثَّدي ثُقوباً صغيرة ومسامًّا ضيِّقة ، وجعلها بحيث إذا اتصل المصُّ ، أو الحلب بتلك الحلمة ، انفصل اللبن عنها من تلك المسام الضيقة ، ولما كانت تلك المسامُّ ضيِّقة جدًّا ، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصَّفاء ، واللَّطافة ، وأمَّا الأجزاء الكثيفة ، فإنَّه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيِّقة ، فتبقى في الدَّاخل ، والحكمة في إحداث تلك الثُّقوب الصَّغيرة والمنافذ الضيِّقة في رأسِ الحلمة ؛ لكي تكون كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفاً خرج ، وما كان كثيفاً ؛ احتبس في الدَّاخلِ ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللَّبن خالصاً ، موافقاً لبدن الصَّبي ، " سَائِغاً للشَّاربين " .

السادس : أنه - تعالى - ألهم ذلك الصبي إلى المص ؛ فإنَّ الأم إذا ألقت حلمة الثَّدي في فم الصبي ، فذلك الصبيُّ في الحال يأخذ في المص ، ولولا أنَّ الفاعل المختار الرحيم قد ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل تخليق ذلك اللبن في الثَّدي .

السابع : أنَّا بيَّنا أنه - تعالى - إنَّما خلق اللَّبن من فضلة الدَّم ، وإنما خلق الدَّم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان ، فالشَّاة لمَّا تناولت العشب ، وتولَّد منه الدم ، وتولَّد اللبن من بعض أجزاء ذلك الدَّم ، ثمَّ إنّ اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة ، فما فيه من الدهن ، يكون حاراً رطباً ، وما فيه من المائيَّة ، يكون بارداً رطباً ، وما كان فيه من الجبنية ، يكون بارداً يابساً ، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في العشب الذي تناولته الشَّاة ، فظهر بهذين : أنَّ هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، مع أنَّه لا يناسب بعضه بعضاً ، ولا يشاكل بعضه بعضاً ، وعند ذلك ، فإنَّ هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل مختار حكيم رحيم ، يدبِّر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العبادِ .

قال المحققون - رضي الله عنهم- : اعتبار حدوث اللَّبن ، كما يدلُّ على وجود الصَّانع المختار ، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر ؛ لأنَّ العشب الذي يأكله الحيوان ، إنَّما يتولد من الماء والأرض ، فخالق العالم دبَّر تدبيراً آخر ، فقلب ذلك العشب دماً ، ثم دبَّر تدبيراً آخر ، فقلب ذلك الدَّم لبناً خالصاً ، ثمَّ أحدث من ذلك اللبن ، الدهن والجبن ، وهذا الاستقرار يدل على أنه - تعالى - قادرٌ على تقليب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، وإذا كان كذلك ، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على قلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة ، والعقل كما كانت قبل ذلك ، فبهذا الاعتبار ، يدلُّ من هذا الوجه على أنَّ : البعث والقيامة ، أمرٌ ممكنٌ غير ممتنع .


[19929]:ينظر: السبعة 374، والنشر 2/304، والحجة 391، والإتحاف 2/186، والقرطبي 10/282، والبحر 5/492، والدر المصون 4/341.
[19930]:في ب: محذوف.
[19931]:تقدم.
[19932]:ينظر: تهذيب اللغة 9/228.
[19933]:ينظر: الحجة 5/74 ـ 75.
[19934]:ينظر: البحر 5/ 492، والدر المصون 4/341.
[19935]:وهي قراءة أبي جعفر ينظر: الإتحاف 2/186، والنشر 2/304، والبحر 5/492 والقرطبي 10/82. والدر المصون 4/341.
[19936]:ينظر: البحر المحيط 5/492.
[19937]:البيت لقيس بن حصين الحارثي. ينظر: الكتاب 1/65، الخزانة 1/196، اللسان (نعم)، العيني 1/528، إعراب القرآن للنحاس 2/402، الإنصاف 1/62، مجاز القرآن 1/362، المخصص 17/19، الكشاف 2/615، الطبري 14/132، التهذيب 13/13، حاشية الشهاب 5/346 البحر المحيط 5/493، الدر المصون 4/342.
[19938]:ينظر: الكتاب 2/16.
[19939]:ينظر: شرح الجمل لابن عصفور 2/396، المقرب 1/303، روح المعاني 14/176، الدر اللقيط بهامش البحر 5/508، البحر المحيط 5/493، الألوسي 14/176، الدر المصون 4/342.
[19940]:ينظر: الدر المصون 4/342.
[19941]:تقدم.
[19942]:ينظر: معاني الفراء 1/130، 2/109، 130، رسالة الغفران 2/416، الألوسي 14/177، المحتسب 2/153، شواهد المغني للبغدادي 8/48، المسائل البصريات 1/368، مجالس ثعلب 103 البحر المحيط 5/492، القرطبي 10/82، تفسير الطبري 13/132، الدر المصون 4/343.
[19943]:تقدم.
[19944]:ينظر: الإملاء 2/83.
[19945]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 10/82.
[19946]:في ب: بعامل.
[19947]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/52 ـ 53).
[19948]:ينظر: المحتسب 2/11، والشواذ 73، والمحرر 8/457، والبحر 5/494، والدر المصون 4/343.
[19949]:في أ: يغص.
[19950]:ينظر: الفخر الرازي 20/53.