الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

قوله تعالى : { نُّسْقِيكُمْ } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة ، كأنه قيل : كيف العِبْرة ؟ فقيل : نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً . ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ ، أي : هي ، أي : العِبْرَةُ نُسْقيكم ، ويكون كقولهم : " تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه " .

وقرأ نافع ، وابنُ عامر ، وأبو بكر : " نَسْقيكم " ، بفتح النون هنا ، وفي المؤمنين . والباقون : بضمَّها فيهما . واختلف الناس : هل سَقَى وأَسْقى لغتان ، بمعنىً واحدٍ ، أم بينهما فرقٌ ؟ خلافٌ مشهور . فقيل : هما بمعنىً ، وأنشد جمعاً بين اللغتين :

سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ

دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب . و " نُمَيْراً " ، هو المفعول الثاني : أي : ماءٌ نُمَيْراً . وقال أبو عبيد : " مَنْ سَقَى الشِّفَةِ : سَقَى فقط ، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ . أَسْقَى ، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها : أَسْقَى فقط " . وقال الأزهري : " العربُ تقول : ما كان من بطونِ الأنعام ، ومن السماء ، أو نهرٍ يجري ، أَسْقَيْتُ ، أي : جَعَلْتُ شِرْباً له ، وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا ؟ ، فإذا كان للشَّفَة قالوا : سَقَى ، ولم يقولوا : أسقى " .

وقال الفارسي : " سَقَيْتُه حتى رَوِيَ ، وأَسْقَيْتُه نهراً ، أي : جَعَلْتُه له شِرْباً " . وقيل " سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه ، ولا يُقال مِنْ هذا : أَسْقاه .

وقرأ أبو رجاء : " يُسْقِيْكم " بضمِّ الياء من أسفل ، وفي فاعلِه وجهان ، أحدُهما : هو الله تعالى ، الثاني : أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ ، أي : نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا . وقُرئ : " تًسْقيكم " ، بفتح التاء من فوق . قال ابن عطية : " وهي ضعيفةٌ " . قال الشيخ : " وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في " تِسْقِيْكم " ، وذَكَّر في قوله { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين " . قلت " وضَعْفُها عنده من حيث المعنى : وهو أنَّ المقصودَ : الامتنانُ على الخَلْقِ ، فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام .

قوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، يجوز أن تكونَ " مِنْ " ، للتبعيض ، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية . وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً . قال الزمخشري : " ذكر سيبويه الأنعامَ في باب " ما لا ينصرف " في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم : ثوبٌ أَكْياش ، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً ، وأمَّا " في بطونها " ، في سورة المؤمنين : فلأنَّ معناه جمع . ويجوز أن يُقال في " الأنعام " وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير " نَعَم " ، كأَجْبال في جَبَل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [ كَنَعم ] ، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ " نَعَم " ، في قوله :

في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ *** يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ

وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان : أنه تكسير " نَعَم " ، وأنَّه في معنى الجمع " .

قال الشيخ : أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في : " هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه : " وأمَّا أَجْمال وفُلُوس : فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها ؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول : أَقْوال وأقاويل ، وأعراب وأعاريب ، وأَيْدٍ وأيادٍ ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل ، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع . وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا ؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ " . ثم قال : " وكذلك الفُعُوْل ، لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس ؛ لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل ، كما تقول : جَدُود وجَدائد ، ورَكوب وركائب ، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول : " أُتِيَّ " ، فَيَضُمُّ الألفَ . وأمَّا أفْعَال : فقد يقع للواحد ، مِنَ العرب مَنْ يقول : هو الأنعام : قال الله عز وجل { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطاب : " سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول : هذا ثوبٌ أكياش " .

قال : " والذي ذكر سيبويهِ ، هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول ، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع ، من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان ، وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل ، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا ، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع ، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد ، بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ : " أُتِيّ " بضمِّ الهمزة ، يعني : أنه قد جاءَ نادراً ، فُعول من غير المصدرِ للمفرد ، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول : " هو الأنعامُ " ، وإنما يعني : أنَّ ذلك على سبيل المجاز ؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم ، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال :

تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى *** وقلنا للنساءِ بها أَقيمي

ولذلك قال سيبويه : " وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد " فقوله : " قد يقع للواحد " ، دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ ، فقولُ الزمخشري : " أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال " تحريفٌ في اللفظ ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه . ويَدُلُّ على ما قلناه : أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ ، نَصَّ على أنَّ " أَفْعالاً " ، ليس من أبنيتها . قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة : " وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال ، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع " . قال : " فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة " .

قلتُ : الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه ، وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً ، وإن كان " أَفْعال " قد يقع موقعَ الواحد مجازاً ، فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه ، ولم يُحَرِّفْ لفظَه ، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه ، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه .

وقيل : إنما ذَكَّر الضميرَ ؛ لأنه يعودُ على البعض ، وهو : الإِناث ؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها ، فكأنَّ العِبْرَة ، هي : بعض الأنعام . وقال الكسائي : " أي : في بطونِ ما ذَكَرَ " . قال المبرد : " وهذا شائعٌ في القرآن ، قال تعالى :

{ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 1112 ] ، أي : ذَكَر هذا الشيءَ . وقال تعالى : { فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي }

[ الأنعام : 78 ] ، أي : هذا الشيءُ الطالعُ ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ ، لا يجوز : جاريتُك ذهب " . قلت : وعلى ذلك خُرِّج قوله :

فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ *** كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ

أي : كأنَّ المذكورَ . وقيل : جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع ، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة ، ومن الأولِ قولُ الشاعر :/

مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ ***

وقيل : أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ ، فإنه يَسُد مَسَدَّه " نَعَم " ، و " نَعَم " يُفْهِم الجمعَ ، ومثلُه قولُه :

وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ ***

لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن ، ومثلُه قولهم " هو أحسنُ الفتيان وأجملُه " ، أي : أحسنُ فتىً ، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه .

وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ . والسادس : أنه يعود على الفحل ؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ ، فأصلُ اللبنِ [ ماءُ ] الفحلِ ، قال : " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون ، وليس فحلُ الأنعام واحداً ، ولا للواحد بطونٌ . فإن قال : أراد الجنسَ فقد ذُكِر " . يعني : أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام ، فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على " فَحْل " ، المرادِ به الجنسُ . قلت : وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ، ولم يُعْقِبْه بنكير .

قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ } ، يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ بالسَّقْي ، على أنها لابتداءِ الغاية ، فإن جَعَلْنا ما قبلها كذلك ، تَعَيَّن أن يكونَ مجرورُها بدلاً مِنْ مجرور " مِنْ " الأولى ؛ لئلا يتعلَّقَ عاملان متحدان لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحد ، وهو ممتنعٌ . وهو مِنْ بدلِ الاشتمالِ ؛ لأن المكانَ مشتمِلٌ على ما حَلَّ فيه . وإن جعلْتَها للتبعيض هان الأمرُ .

الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " لَبَناً " ؛ إذْ لو تأخَّرَتْ لكانَتْ مع مجرورِها نعتاً له . قال الزمخشري : " وإنما تقدَّم ؛ لأنه موضعُ العِبْرة ، فهو قَمِنٌ بالتقديم " .

الثالث : أنَّها مع مجرورِها حالٌ من الموصولِ قبلها .

والفَرْث : فُضالةُ ما يَبْقى مِنَ العَلَفِ في الكِرْش ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في المَعِيّ . ويقال : فَرَثَ كّبِدَه ، أي : فتَّتها ، وأَفْرث فلانٌ فلاناً : أوقعه في بَليَّةٍ تجري مجرى الفَرْث .

قوله : " لَبَنا " ، هو : المفعولُ الثاني لنُسْقي . وقرئ : " سَيِّغاً " ، بتشديد الياء ، بزِنة " سَيِّد " ، وتصريفُه كتصريفِه . وخَفَّفه عيسى بن عمر نحو : مَيْت وهَيْن . ولا يجوز أن يكون " فَعْلاً " ؛ إذ كان يجب أن يكونَ " سَوْغاً " كقَوْل .