ثم استدل بعجائب أحوال الحيوانات قائلاً : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه } ، وفي سورة المؤمنين : { مما في بطونها } [ الآية : 21 ] ، فذكر النحويون : أن الأنعام من جملة الكلمات التي لفظها مفرد ومعناها جمع ، كالرهط والقوم والنعم . فجاز تذكيره حملاً على اللفظ ، وتأنيثه حملاً على المعنى . قال المبرد : هذا شائع في القرآن قال تعالى : { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } [ الأنعام : 78 ] ، بمعنى ، هذا الشيء الطالع . وقال : { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره } [ عبس : 11 ] ، أي : ذكر هذا الشيء . وعند سيبويه : الأنعام من الأسماء المفردة الواردة على أفعال . وجوّز في الكشاف أن يكون تأنيثه على أنه تكسير نعم . وقيل : إن الأنعام بمعنى النعم ؛ لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع ، والجمع بالآحاد .
قلت : ما ذكره الأئمة حسن ، إلا أنه لا يقع جواباً عن التخصيص . ولعل السر فيه أن الضمير في هذه السورة يعود إلى البعض ، وهو : الإناث ؛ لأن اللبن لا يكون للكل فالتقدير : وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه ، وأما في " المؤمنين " ، فإنه لما عطف عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض ، وهو قوله :{ ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها } [ المؤمنون : 22 ] ، لم يتحمل أن يكون المراد به البعض ، فأنث ليكون نصاً على أن المراد بها الكل . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : " إذا استقر العلف في الكرش ، صار أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً ، وأوسطه لبناً خالصاً ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضروع ، ويبقى الفرث كما هو . فذاك هو قوله تعالى : { من بين فرث ودم لبناً خالصاً } ، لا يشوبه الدم ، ولا الفرث . وأنكر الأطباء هذا القول ؛ لأنه على خلاف الحس والتجربة . أما الحس : فلأن الأنعام تذبح ذبحاً متوالياً ، ولا يرى في كرشها دم ولا لبن ، وأما التجربة : فلأن الدم لو كان في أعلى المعدة والكرش ، كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم ، وليس كذلك ، بل الحق : أن الحيوان إذا تناول العلف ، حصل له في معدته أو كرشه هضم أوّل ، فما كان منه صافياً : انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً : نزل إلى الأمعاء . ثم الذي يحصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً ، وذلك هو الهضم الثاني . ويكون مخلوطاً بالصفراء ، والسوداء ، وزيادة المائية . أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة . وأما الدم : فإنه يدخل في الأوردة ، وهي : العروق النابتة من الكبد ، وهناك يحصل الهضم الثالث . وبين الكبد والضرع عروق كثيرة ، فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع ، وهو لحم غددي رخو أبيض ، فيقلب الله الدم هناك إلى صورة اللبن ، وإنما اختص هذا المعنى بالحيوان الأنثى ؛ لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به ، والذكر من كل حيوان أسخن وأجف ، والأنثى أبرد وأرطب ؛ لأن بدن الأنثى يحتاج إلى مزيد رطوبة ؛ لتصير مادة لتولد الولد ويتسع بدنها له . ثم إن تلك الرطوبات ، التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في الرحم ، تنصب بعد انفصال الجنين إلى الثدي ؛ لتصير مادة لغذاء الطفل . واعلم أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة ، انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثفل ، فهذا الانطباق والانفتاح بحسب الحاجة ، وبقدر المنفعة ، مما لا يتأتى إلى بتقدير الفاعل الحكيم . وأيضاً إنه أودع في الكبد قوّة جاذبة للأجزاء اللطيفة التي في ذلك المأكول والمشروب ، طابخة لها حتى تنقلب دماً ، دون الأجزاء الكثيفة ، وفي المعدة بالعكس ، وأودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بفعله الخاص به ، لا يمكن إلا بتدبير العليم الخبير . وكذا الكلام في انصباب مادة اللبن إلى الثدي في وقت يحتاج الطفل إلى الغذاء ، وتوزعها على جميع البدن في غير ذلك الوقت . ثم إنه تعالى أحدث في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة ، يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب ، فهي : بمنزلة المصفاة للبن ، يخرج اللطيف منها ، ويبقى الكثيف ، فبهذا الطريق يصير خالصاً سائغاً للشاربين ، أي : سهل المرور في الحلق ، حتى قيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط . ومن عجائب حال اللبن ، اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس . فمنها الدهن ، وهو حار رطب ، ومنها الأجزاء المائية ، وهي : باردة رطبة ، ومنها الجبن ، وهو ، بارد يابس ، وكلها حاصلة من عشب واحد . ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم ، وكل ذلك دليل على عناية كاملة ، ورحمة شاملة ، وعلم تام وقدرة باهرة . قال المحققون : في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبناً خالصاً سائغاً ، دليل على أنه تعال قادر على تقليب الإنسان في أطواره ، إلى أن يصير مستعداً للبقاء الأبدي ، واللقاء السرمدي . قال جار الله : و " من " في { مما في بطونه } ، للتبعيض ، و " من " في قوله : { من بين فرث } ، لابتداء الغاية ، فهو : صلة { لنسقيكم } ، كقولك : " سقيته من الحوض " . وجوز أن يكون حالاً من قوله : { لبناً } ، مقدماً عليه ، فيتعلق بمحذوف . أي : كائناً من بين كذا وكذا . وإنما قدم لأنه موضع العبرة ، فهو : جدير بالتقديم . قالت الشافعية : ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر ، كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهراً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.