غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

61

ثم استدل بعجائب أحوال الحيوانات قائلاً : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه } ، وفي سورة المؤمنين : { مما في بطونها } [ الآية : 21 ] ، فذكر النحويون : أن الأنعام من جملة الكلمات التي لفظها مفرد ومعناها جمع ، كالرهط والقوم والنعم . فجاز تذكيره حملاً على اللفظ ، وتأنيثه حملاً على المعنى . قال المبرد : هذا شائع في القرآن قال تعالى : { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } [ الأنعام : 78 ] ، بمعنى ، هذا الشيء الطالع . وقال : { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره } [ عبس : 11 ] ، أي : ذكر هذا الشيء . وعند سيبويه : الأنعام من الأسماء المفردة الواردة على أفعال . وجوّز في الكشاف أن يكون تأنيثه على أنه تكسير نعم . وقيل : إن الأنعام بمعنى النعم ؛ لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع ، والجمع بالآحاد .

قلت : ما ذكره الأئمة حسن ، إلا أنه لا يقع جواباً عن التخصيص . ولعل السر فيه أن الضمير في هذه السورة يعود إلى البعض ، وهو : الإناث ؛ لأن اللبن لا يكون للكل فالتقدير : وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه ، وأما في " المؤمنين " ، فإنه لما عطف عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض ، وهو قوله :{ ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها } [ المؤمنون : 22 ] ، لم يتحمل أن يكون المراد به البعض ، فأنث ليكون نصاً على أن المراد بها الكل . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : " إذا استقر العلف في الكرش ، صار أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً ، وأوسطه لبناً خالصاً ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضروع ، ويبقى الفرث كما هو . فذاك هو قوله تعالى : { من بين فرث ودم لبناً خالصاً } ، لا يشوبه الدم ، ولا الفرث . وأنكر الأطباء هذا القول ؛ لأنه على خلاف الحس والتجربة . أما الحس : فلأن الأنعام تذبح ذبحاً متوالياً ، ولا يرى في كرشها دم ولا لبن ، وأما التجربة : فلأن الدم لو كان في أعلى المعدة والكرش ، كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم ، وليس كذلك ، بل الحق : أن الحيوان إذا تناول العلف ، حصل له في معدته أو كرشه هضم أوّل ، فما كان منه صافياً : انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً : نزل إلى الأمعاء . ثم الذي يحصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً ، وذلك هو الهضم الثاني . ويكون مخلوطاً بالصفراء ، والسوداء ، وزيادة المائية . أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة . وأما الدم : فإنه يدخل في الأوردة ، وهي : العروق النابتة من الكبد ، وهناك يحصل الهضم الثالث . وبين الكبد والضرع عروق كثيرة ، فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع ، وهو لحم غددي رخو أبيض ، فيقلب الله الدم هناك إلى صورة اللبن ، وإنما اختص هذا المعنى بالحيوان الأنثى ؛ لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به ، والذكر من كل حيوان أسخن وأجف ، والأنثى أبرد وأرطب ؛ لأن بدن الأنثى يحتاج إلى مزيد رطوبة ؛ لتصير مادة لتولد الولد ويتسع بدنها له . ثم إن تلك الرطوبات ، التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في الرحم ، تنصب بعد انفصال الجنين إلى الثدي ؛ لتصير مادة لغذاء الطفل . واعلم أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة ، انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثفل ، فهذا الانطباق والانفتاح بحسب الحاجة ، وبقدر المنفعة ، مما لا يتأتى إلى بتقدير الفاعل الحكيم . وأيضاً إنه أودع في الكبد قوّة جاذبة للأجزاء اللطيفة التي في ذلك المأكول والمشروب ، طابخة لها حتى تنقلب دماً ، دون الأجزاء الكثيفة ، وفي المعدة بالعكس ، وأودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بفعله الخاص به ، لا يمكن إلا بتدبير العليم الخبير . وكذا الكلام في انصباب مادة اللبن إلى الثدي في وقت يحتاج الطفل إلى الغذاء ، وتوزعها على جميع البدن في غير ذلك الوقت . ثم إنه تعالى أحدث في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة ، يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب ، فهي : بمنزلة المصفاة للبن ، يخرج اللطيف منها ، ويبقى الكثيف ، فبهذا الطريق يصير خالصاً سائغاً للشاربين ، أي : سهل المرور في الحلق ، حتى قيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط . ومن عجائب حال اللبن ، اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس . فمنها الدهن ، وهو حار رطب ، ومنها الأجزاء المائية ، وهي : باردة رطبة ، ومنها الجبن ، وهو ، بارد يابس ، وكلها حاصلة من عشب واحد . ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم ، وكل ذلك دليل على عناية كاملة ، ورحمة شاملة ، وعلم تام وقدرة باهرة . قال المحققون : في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبناً خالصاً سائغاً ، دليل على أنه تعال قادر على تقليب الإنسان في أطواره ، إلى أن يصير مستعداً للبقاء الأبدي ، واللقاء السرمدي . قال جار الله : و " من " في { مما في بطونه } ، للتبعيض ، و " من " في قوله : { من بين فرث } ، لابتداء الغاية ، فهو : صلة { لنسقيكم } ، كقولك : " سقيته من الحوض " . وجوز أن يكون حالاً من قوله : { لبناً } ، مقدماً عليه ، فيتعلق بمحذوف . أي : كائناً من بين كذا وكذا . وإنما قدم لأنه موضع العبرة ، فهو : جدير بالتقديم . قالت الشافعية : ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر ، كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهراً .

/خ70