ومن الدلائل المذكورة في هذه الآية ، الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات ، وهو قوله : { وإنّ لكم في الأنعام لعبرة } ، أي : اعتباراً إذا تفكرتم فيها وعرفتم كمال قدرتنا . وقوله تعالى : { نسقيكم مما في بطونه } ، استئناف بيان للعبرة ، وإنما ذكر لفظ الضمير ؛ لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع ، كالرهط والقوم ، ولا من اللبس والدلالة على قوّة المعنى ؛ لكونها سورة النعم ، وأنثه في سورة المؤمنون للمعنى ؛ فإنّ الأنعام اسم جمع ، ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكياش ، بياء تحتية وشين معجمة : ضرب من الثياب يغزل مرتين . ومن قال : إنه جمع نعم ، جعل الضمير للبعض ؛ فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها . وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بفتح النون ، تقول : سقيته حتى روي . قال تعالى : { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } [ الإنسان ، 21 ] . والباقون بضمها من قولك : أسقاه : إذا جعل له شراباً ، كقوله تعالى : { وأسقيناكم ماءً فراتاً } [ المرسلات ، 27 ] . ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره ، قدم قوله تعالى : { من بين فرث } ، وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً . { ودمٍ لبناً خالصاً } ، أي : صافياً ، خلقه الله وسطاً بين الفرث والدم ، يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله ، لا يبغي عليه أحدهما بلون أو رائحة أو طعم . روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه لبناً ، وأعلاه دماً ، والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة ، تقتسمها فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث في الكرش ، فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل ، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم . { سائغاً للشاربين } ، أي : سهل المرور في الحلق . وقيل : لم يغص أحد باللبن قط .
تنبيه : قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار ، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر ، وذلك ؛ لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض ، فخالق العالم دبر تدبيراً آخر بقلب ذلك الدم لبناً ، ثم دبر تدبيراً آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن ، فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، فإذا كان كذلك ، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل ، كما كانت قبل ذلك ، فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمرممكن غير ممتنع ، وفي حدوث اللبن في الثدي ، واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الطفل ، مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر ، وبيانه من وجوه :
الأوّل : أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شراباً انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح ، فحصول الانطباق تارة ، والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة ، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم .
الثاني : عند تولد اللبن في الضرع ، يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقباً صغيرة ومسامّ ضيقة ، وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها ، ولما كانت تلك المسام ضيقة جدًّا ، كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة . وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل ، فالحكمة في إحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفاً خرج ، وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج ، فبهذا الطريق يصير اللبن خالصاً موافقاً لبدن الطفل ، سائغاً للشاربين .
الثالث : أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص ، فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل ، فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص ، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.