السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

ومن الدلائل المذكورة في هذه الآية ، الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات ، وهو قوله : { وإنّ لكم في الأنعام لعبرة } ، أي : اعتباراً إذا تفكرتم فيها وعرفتم كمال قدرتنا . وقوله تعالى : { نسقيكم مما في بطونه } ، استئناف بيان للعبرة ، وإنما ذكر لفظ الضمير ؛ لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع ، كالرهط والقوم ، ولا من اللبس والدلالة على قوّة المعنى ؛ لكونها سورة النعم ، وأنثه في سورة المؤمنون للمعنى ؛ فإنّ الأنعام اسم جمع ، ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكياش ، بياء تحتية وشين معجمة : ضرب من الثياب يغزل مرتين . ومن قال : إنه جمع نعم ، جعل الضمير للبعض ؛ فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها . وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بفتح النون ، تقول : سقيته حتى روي . قال تعالى : { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } [ الإنسان ، 21 ] . والباقون بضمها من قولك : أسقاه : إذا جعل له شراباً ، كقوله تعالى : { وأسقيناكم ماءً فراتاً } [ المرسلات ، 27 ] . ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره ، قدم قوله تعالى : { من بين فرث } ، وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً . { ودمٍ لبناً خالصاً } ، أي : صافياً ، خلقه الله وسطاً بين الفرث والدم ، يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله ، لا يبغي عليه أحدهما بلون أو رائحة أو طعم . روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه لبناً ، وأعلاه دماً ، والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة ، تقتسمها فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث في الكرش ، فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل ، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم . { سائغاً للشاربين } ، أي : سهل المرور في الحلق . وقيل : لم يغص أحد باللبن قط .

تنبيه : قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار ، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر ، وذلك ؛ لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض ، فخالق العالم دبر تدبيراً آخر بقلب ذلك الدم لبناً ، ثم دبر تدبيراً آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن ، فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، فإذا كان كذلك ، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل ، كما كانت قبل ذلك ، فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمرممكن غير ممتنع ، وفي حدوث اللبن في الثدي ، واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الطفل ، مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر ، وبيانه من وجوه :

الأوّل : أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شراباً انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح ، فحصول الانطباق تارة ، والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة ، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم .

الثاني : عند تولد اللبن في الضرع ، يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقباً صغيرة ومسامّ ضيقة ، وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها ، ولما كانت تلك المسام ضيقة جدًّا ، كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة . وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل ، فالحكمة في إحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفاً خرج ، وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج ، فبهذا الطريق يصير اللبن خالصاً موافقاً لبدن الطفل ، سائغاً للشاربين .

الثالث : أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص ، فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل ، فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص ، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي .