إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

{ وَإِنَّ لَكُمْ في الأنعام لَعِبْرَةً } ، عظيمةً ، وأيَّ عبرةٍ تَحار في دركها العقولُ ، ويهيم في فهمها ألبابُ الفحول . { نُّسْقِيكُمْ } ، استئنافٌ لبيان ما أُبهم أولاً من العبرة . { مّمَّا في بُطُونِهِ } ، أي : بطون الأنعامِ ، والتذكيرُ هنا لمراعاة جانبِ اللفظِ ؛ فإنه اسم جمع ، ولذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال ، كأكباش وأخلاق ، كما أن تأنيثه في سورة المؤمنين ؛ لرعاية جانب المعنى ، ومَن جعله جمعَ " نَعَمٍ " جعل الضميرَ للبعض ، فإن اللبَن ليس لجميعها ، أو له على المعنى ، فإن المرادَ به الجنسُ ، وقرئ بفتح النون هاهنا ، وفي سورة المؤمنين . { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا } ، الفرْثُ : فُضالةُ ما يبقى من العلف في الكَرِش المنهضمةِ بعضَ الانهضام ، وكثيفُ ما يبقى في الأمعاء . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البهيمةَ إذا اعتلفت ، وانطبخ العلفُ في كرشها ، كان أسفلُه فرثاً ، وأوسطُه لبناً ، وأعلاه دماً . ولعل المرادَ به : أن أوسطَه يكون مادةَ اللبن ، وأعلاه مادةَ الدم الذي يغذو البدنَ ؛ لأن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه ، بل الكبِدُ تجذب صفاوة الطعام المنهضمِ في الكرش ، ويبقى ثفلُه ، وهو : الفرثُ ، ثم يُمسكها ريثما يهضمها ، فيُحدثُ أخلاطاً أربعة معها مائيةً ، فتُميَّز تلك المائيةُ ما زاد على قدر الحاجة من المِرَّتين الصفراءِ والسوداء ، وتدفعها إلى الكِلْية والمرارة والطّحال ، ثم توزِّع الباقي على الأعضاء بحسبها ، فتُجري على كلَ حقَّه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم ، ثم إن كان الحيوانُ أنثى ، زاد أخلاطَها على قدر غذائها ؛ لاستيلاء البردِ والرطوبةِ على مزاجها ، فيندفع الزائدُ أولا ؛ لأجل الجنينِ إلى الرحم ، فإذا انفصل ، انصب ذلك الزائدُ أو بعضُه إلى الضروع ، فيبيّض لمجاورته لحومَها الغذوية البِيضِ ، ويلَذّ طعمُه فيصيرُ لبناً ، ومن تدبر في بدائع صنعِ الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبانِ ، وإعداد مقارّها ومجاريها ، والأسبابِ الموَلّدة لها ، وتسخيرِ القُوى المتصرفة فيها ، كلَّ وقت على ما يليق به ، اضطُرّ إلى الاعتراف بكمال علمِه ، وقدرتِه ، وحكمتِه ، وتناهي رأفته ورحمتِه . ف " مِن " الأولى تبعيضيةٌ ، لما أن اللبن بعضُ ما في بطونه ؛ لأنه مخلوقٌ من بعض أجزاءِ الدم ، المتولّدِ من الأجزاء اللطيفةِ التي في الفرث ، حسبما فصل ، والثانيةُ : ابتدائية ، كقولك : سقَيت من الحوض ؛ لأن بين الفرث والدمِ مبدأَ الإسقاء ، وهي متعلقةٌ بنُسقيكم ، وتقديمه على المفعول ، لما مر مراراً من أن تقديم ما حقُّه التأخيرُ يبعث للنفس شوقاً إلى المؤخر ، موجباً لفضل تمكّنِه عند ورودِه عليها ، لاسيما إذا كان المقدمُ متضمناً لوصف منافٍ لوصف المؤخَّر ، كالذي نحن فيه ، فإن بين وصفَيْ المقدّمِ والمؤخر تنافياً وتنائياً ، بحيث لا يتراءى ناراهما ، فإن ذلك مما يزيد الشوقَ والاستشرافَ إلى المؤخر ، كما في قوله تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً } ، أو حالٌ من لبناً قُدّم عليه ؛ لتنكيره ، والتنبيه على أنه موضعُ العبرة . { خَالِصًا } ، عن شائبة ما في الدم والفرثِ من الأوصاف ، ببرزخٍ من القدرة القاهرة ، الحاجزةِ عن بغي أحدِهما عليه ، مع كونهما مكتنفين له . { سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } ، سهلَ المرور في حلقهم ، قيل : لم يغَصَّ أحدٌ باللبن ، وقرئ : " سيِّغا " ، ً بالتشديد وبالتخفيف ، مثل هيْن وهيِّن .