فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً } الأنعام هي : الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز . والعبرة أصلها : تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة . ومنه { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] . وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام : تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، والظاهر أن العبرة هي قوله : { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ } فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة . قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر «نسقيكم » بفتح النون ، من سقى يسقي . وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي ، قيل : هما لغتان . قال لبيد :

سقى قومي بني مجد وأسقى *** نميراً والقبائل من هلال

وقرئ بالتاء الفوقية ، على أن الضمير راجع إلى الأنعام . وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه ، وهما ضعيفتان . وجميع القراء على القراءتين الأوليين ، والفتح لغة قريش ، والضم لغة حمير ؛ وقيل : إن بين سقى وأسقى فرقاً ، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي فيقال : سقيته ، وإن كان بمجرّد عرضه عليه وتهيئته له ، قيل : أسقاه . والضمير في قوله : { مّمَّا فِي بُطُونِهِ } راجع إلى الأنعام . قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد . وقال الزجاج : لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث ، فيقال : هو الأنعام ، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير . وقال الكسائي : معناه : مما في بطون ما ذكرنا ، فهو على هذا عائد إلى المذكور . قال الفراء : وهو صواب . وقال المبرد : هذا فاش في القرآن كثير ، مثل قوله للشمس { هذا رَبّى } [ الأنعام : 78 ] يعني : هذا الشيء الطالع . وكذلك : { وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } [ النمل : 35 ] ، ثم قال : { فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ } [ النمل : 36 ] ، ولم يقل : جاءت ؛ لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا . انتهى ، ومن ذلك قوله : [ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } ] ومثله قول الشاعر :

مثل الفراخ نيفت حواصله *** ولم يقل : حواصلها ، وقول الآخر :

وطاب إلقاح اللبان وبرد *** . . .

ولم يقل : وبردت . وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث ؛ لأن الذكور لا ألبان لها ، وبه قال أبو عبيدة : وحكي عن الفراء أنه قال : النعم والأنعام واحد ، يذكر ويؤنث ، ولهذا تقول العرب : هذه نعم وارد ، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام . وهو كقول الزجاج . ورجحه ابن العربي فقال : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة . فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع ، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } الفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً . يقال : أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها . والمعنى : أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش ، وهو الفرث ، ويكون منه الدم ، فيكون أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضروع ، ويبقى الفرث كما هو { خَالِصًا } يعني : من حمرة الدم ، وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد { سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } أي : لذيذاً هنيئاً ، لا يغصّ به من شربه : يقال : ساغ الشراب ، يسوغ سوغاً ، أي : سهل مدخله في الحلق .

/خ69