نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

ولما ذكر سبحانه هذا الأمر العام ، ونبه على ما فيه من غريب الصنع الذي غفل عنه لشدة الألف به ، أتبعه بعض ما ينشأ عنه من تفاصيل الأمور ، المحتوية على عجائب المقدور ، وبدأ بأعمها وأشدها ملابسة لهم ، وأكثرها في نفسه وأعظمها منفعة ودخلاً في قوام عيشهم ، فقال : { وإن لكم } ، أي : أيها المخاطبون المغمورون في النعم ! { في الأنعام } ، ولما كانت الأدلة يعبر بها من الجهل إلى العلم قال : { لعبرة } ، فكأنه قيل : ما هي ؟ فقيل : { نسقيكم } ، بضم النون في قراءة الجماعة من أسقاه - إذا أعد له ما يشربه دائماً ، من نهر أو لبن وغيرهما ، وبالفتح في قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية شعبة : من سقاه - إذا ناوله شيئاً فشربه .

ولما كان الأنعام اسم جمع ، فكان مفرداً كما نقل ذلك عن سيبويه ، وذكر المسقي وهو اللبن ، لما اقتضاه سياق السورة من تعداد النعم ، فتعينت إرادة الإناث لذلك ، فانتفى الالتباس مع تذكير الضمير ، قال تعالى : { مما } ، أي : من بعض الذي { في بطونه } ، فذكر الضمير ؛ لأمن اللبس والدلالة على قوة المعنى ؛ لكونها سورة النعم بخلاف ما في المؤمنون .

ولما كان موضع العبرة تخليص اللبن من غيره ، قدم قوله تعالى : { من بين فرث } ، وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً . { ودم لبناً خالصاً } ، من مخالط منهما أو من غيرهما ، يبغي عليه بلون أو رائحة ؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أكلت البهيمة العلف واستقر في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه لبناً ، وأعلاه دماً . والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث في الكرش . { سائغاً } ، أي : سهل المرور في الحلق { للشاربين * } .