فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ ( 66 ) } .

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } ، الأنعام : هي الإبل والبقر والغنم ، ويدخل في الغنم : المعز ، والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ؛ ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة ، ومنه : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } . والظاهر أن " في " سببية ، أي : بسبب الأنعام ، وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام ، تسخيرها لأربابها ، وطاعتها لهم .

والظاهر أن العبرة هي قوله : { نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، فتكون الجملة مستأنفة ؛ لبيان العبرة ، قرئ : من سقى يسقي ، ومن أسقى يسقي ، قيل : هما لغتان ، وقرئ : بالتاء ، على أن الضمير راجع إلى الأنعام ، وبالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه ، وهما ضعيفان ، وجميع القراء على القراءتين الأوليين ، والفتح لغة قريش ، والضم لغة حمير .

وقيل : أن بين سقى وأسقى فرقا ؛ فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى ، فيقال : سقيته ، وإن كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له ، قيل : أسقاه . و " من " ، تبعيضية أو ابتدائية ، والضمير في : " بطونه " ، راجع إلى الأنعام ، قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد ، وقال الزجاج : لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث ، فيقال : هو الأنعام ، وهي الأنعام ، جاز عود الضمير بالتذكير .

وقال الكسائي : معناه : مما في بطون ما ذكرنا ، فهو على هذا ، عائد إلى المذكور ، قال الفراء ، وهو صواب . وقال المبرد : هذا فاش في القرآن كثيرا ، مثل قوله للشمس : { هذا ربي } ، يعني : هذا الشيء الطالع ، وكذلك : { إني مرسلة إليهم بهدية } ، ثم قال : { فلما جاء سليمان } ، ولم يقل جاءت ؛ لأن المعنى : جاء الشيء الذي ذكرنا انتهى .

ومن ذلك قوله : { إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره } ، وحكى الكسائي : أن المعنى : مما في بطون بعضه ، وهي الإناث ؛ لأن الذكور لا ألبان لها ، وبه قال أبو عبيدة ، وحكى عن الفراء أنه قال : النعم والأنعام واحد ، يذكر ويؤنث ؛ ولهذا تقول العرب : هذه نعم وارد ، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام ، وهو كقول الزجاج ، ورجحه ابن العربي فقال : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكره هنا : باعتبار لفظ الجمع ، وأنثه في سورة المؤمنين : باعتبار لفظ الجماعة . { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، الفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثا ، بل يسمى روثا ، وهو ثفل الكرش ، يقال : أفرثت الكرش ، إذا أخرجت ما فيها .

وقال البيضاوي : الفرث الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الإنهضام في الكرش ، والمعنى : أن الشيء الذي تأكله ، يكون منه ما في الكرش ، وهو : الفرث ، ويكون منه الدم ، فيكون أسفله فرثا ، وأعلاه دما وأوسطه { لَّبَنًا } ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضروع ، ويبقى الفرث في الكرش كما هو ، فسبحان من هذه بعض حكمته ، { خَالِصًا } من حمرة الدم ، وقذارة الفرث ، بعد أن جمعهما وعاء واحد ، وذلك أن الحيوان إذا أكل العلف ، طبخه الكرش ، ثم انقسم إلى أقسام ثلاثة : ثفل ، وفوقه اللبن ، وفوقه الدم ، ثم تسلط الكبد عليها : فترسل الدم إلى العروق ، واللبن إلى الضروع ، ويبقى الثفل في الكرش ، حتى ينزل إلى الخارج ، والحاصل أن الله تعالى خلق اللبن في مكان وسط بين الفرث والدم ، { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } ، أي : لذيذا ، هنيئا لا يغص به من شربه ، يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا ، أي : سهل مدخله في الحلق ، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر .