قوله عز وجل : { ويوم ينفخ في الصور } والصور : قرن ينفخ فيه إسرافيل ، وقال الحسن : الصور هو القرن ، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد فتحيا الأجساد . وقوله : { ففزع من في السموات ومن في الأرض } أي : فصعق ، كما قال في آية أخرى : { فصعق من في السموات ومن في الأرض } أي : ماتوا ، والمعنى أنهم يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا . وقيل : ينفخ إسرافيل في الصور . ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين . قوله { إلا من شاء الله } اختلفوا في هذا الاستثناء ، روي عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن قوله : { إلا من شاء الله } قال : هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش . وروى سعيد بن جبير ، وعطاء عن ابن عباس : هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم . وفي بعض الآثار : الشهداء ثنية الله عز وجل ، أي : الذين استثناهم الله تعالى . وقال الكلبي ، ومقاتل : يعني جبريل ، ومكائيل وإسرافيل ، وملك الموت ، فلا يبقة بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ، ثم يقبض الله روح ميكائيل ، ثم روح ملك الموت ، ثم روح جبريل فيكون آخرهم موتاً جبريل . ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت : خذ نفس إسرافيل ، ثم يقول : من بقي يا ملك الموت ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ، بقى جبريل وميكائيل وملك الموت ، فيقول : خذ نفس ميكائيل ، فيأخذ نفسه ، فيقع كالطود العظيم ، فيقول : من بقي ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت ، فيقول مت يا ملك الموت فيموت ، فيقول يا جبريل من بقي فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني ، قال : فيقول يا جبريل لا بد من موتك ، فيقع ساجداً يخفق بجناحيه " . فيروى أن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب . ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ، فيقبض روح جبريل وميكائيل ، ثم أرواح حملة العرش ، ثم روح إسرافيل ، ثم روح ملك الموت .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن علي الجوهري ، أنبأنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل ابن جعفر ، أنبأنا محمد بن عمرو حدثنا علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يرفع رأسه ، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان ممن استثنى الله عز وجل أم رفع رأسه قبلي ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " . وقال الضحاك : هم رضوان ، والحور ، ومالك ، والزبانية . وقيل : عقارب النار وحياتها . قوله عز وجل : { وكل } أي : الذين أحيوا بعد الموت ، { أتوه } قرأ أعمش ، وحمزة ، وحفص : أتوه مقصوراً بفتح التاء على الفعل ، أي : جاؤوه ، وقرأ الآخرون بالمد وضم التاء كقوله تعالى : { وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } { داخرين } صاغرين .
وقوله - سبحانه - : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله . . } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً } والصور ، القرن الذى ينفخ فيه نفخة الصَّعْق والبعث ، وذلك يكون عند النفخة الثانية . . . والنافخ : إسرافيل - عليه السلام - .
قال القرطبى ما ملخصه : والصحيح فى الصور أنه قرن من نور ، ينفخ فيه إسرافيل .
والصحيح - أيضا - فى النفخ فى الصور أنهما نفختان . وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما . . والمراد - هنا النفخة الثانية - أى : يحيون فزعين ، يقولون : " من بعثنا من مرقدنا " ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم .
والمعنى واذكر - أيها العاقل - يوم ينفخ إسرافيل فى الصور بإذن الله - تعالى - وأمره { فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } أى : خافوا وانزعجوا ، وأصابهم الرعب ، لشدة ما يسمعون ، وهول ما يشاهدون ، فى هذا اليوم الشديد .
وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } اسثناء ممن يصيبهم الفزع .
أى : ونفخ فى الصور ففزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله - تعالى - لهم عدم الفزع والخوف .
والمراد بهؤلاء الذين لا يفزعون ، قيل : الأنبياء ، وقيل : الشهداء ، وقيل : الملائكة .
ولعل الأنسب أن يكون المراد ما يعم هؤلاء السعداء وغيرهم ، ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه ، لأنه لم يرد نص صحيح يحددهم .
وقوله - سبحانه - : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } أى : وكل واحد من هؤلاء الفزعين المبعوثين عند النفخة ، أتوا إلى موقف الحشر ، للوقوف بين يدى الله - تعالى - { دَاخِرِينَ } أى : صاغرين أذلاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يُنْفَخ فِي الصورِ وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى ، وبيّنا الصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده ، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم يذكر هناك من الأخبار ، فقال بعضهم : هو قرن يُنفخ فيه . ذكر بعض من لم يُذكر فيما مضى قبل من الخبر عن ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جمِيعا ، عَن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وَيَوْمَ يُنْفَخُ في الصُورِ قال كهيئة البوق .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : الصور : البوق قال : هو البوق صاحبه آخذ به يقبض قبضتين بكفيه على طرف القرن بين طرفه ، وبين فيه قدر قبضة أو نحوها ، قد برك على ركبة إحدى رجليه ، فأشار ، فبرك على ركبة يساره مقعيا على قدمها عقبها تحت فخذه وأليته وأطراف أصابعها في التراب .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : الصور كهيئة القرن قد رفع إحدى ركبتيه إلى السماء ، وخفض الأخرى ، لم يلق جفون عينه على غمض منذ خلق الله السموات مستعدّا مستجدّا ، قد وضع الصور على فيه ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن زياد قال أبو جعفر : والصواب : يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار عن أبي هُريرة : أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ما الصّور ؟ قال : «قَرْنٌ » ، قال : وكيف هو ؟ قال : «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفخاتٍ : الأُولى : نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصّعْقِ ، والثّالِثَةُ : نَفْخَةُ القِيامِ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ ، يأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السّمَواتِ وأهْلُ الأرْضِ ، إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ، وَيَأْمُرُهُ اللّهُ فَيَمُدّ بِها ويطوّلهَا ، فَلا يَفْتُرُ ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ : ما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَيُسَيّرُ اللّهُ الجِبالَ ، فَتَكُونُ سَرَبا ، وَتُرَجّ الأرْضُ بأهْلِها رَجّا ، وهي التي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ تَتْبَعُها الرّادِفَةُ ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ فَتَكُونُ الأرْضُ كالسّفِينَةِ المُوثَقَةِ فِي البَحْرِ ، تَضْرُبها الأَمْوَاجُ ، تُكْفأُ بأْهْلِها ، أوْ كالقِنْدِيلِ المُعَلّقِ بالوَتَرِ ، تُرَجّحُهُ الأرْياحُ ، فَتَمِيدُ النّاسُ علىَ ظَهْرِها ، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ ، وَتَشِيبُ الوِلْدَانُ ، وَتَطِيرُ الشّياطِينُ هارِبَةً ، حتى تَأتِيَ الأقْطارَ ، فَتَتَلَقّاها المَلائِكَةُ ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَها ، فَترْجِعُ ، وَيُوَلّي النّاسُ مُدْبِرِينَ يُنادي بَعْضُهُمْ بَعْضا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ التّنادِ ، يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ . فَبَيْنَما هُمْ عَلى ذلكَ إذْ تَصَدّعَت الأرْضُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ ، فَرَأَوْا أمْرا عَظِيما ، فأخَذَهُمْ لِذَلَكَ مِنَ الكَرْبِ ما اللّهُ أعْلَمُ بِهِ ، ثم نَظَرُوا إلى السّماءِ ، فإذَا هِي كالمُهْلِ ، ثمّ خُسِفَ شَمْسُها وَقَمَرُها ، وانْتَثَرتْ نُجُومُها ، ثُمّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والأَمْوَاتُ لا يعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذلكَ » ، فقال أبو هريرة : يا رسول الله ، فمن استثنى الله حين يقول : فَفَزِعَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ ومَنْ في الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال : «أُولَئِكَ الشّهَدَاءُ ، وإنّمَا يَصِلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ ، أُولَئِكَ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَقاهُمُ اللّهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وآمَنَهُمْ ، وَهُوَ عَذَابُ اللّهِ يَبْعثُهُ على شِرَارِ خَلْقِهِ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ تَبارَكَ وَتَعالى لَمّا فَرَغَ مِنَ السّمَوَاتِ والأرْضِ ، خَلَقَ الصّورَ ، فأعْطَاهُ مَلَكا ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلى فِيهِ ، شاخِصٌ بِبَصَرِه العَرْشِ ، يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ » . قال : قُلْتُ : يا رسول الله ، وما الصّورُ ؟ قال : «قرنٌ » ، قلت : فكيف هو ؟ قال : «عَظِيمٌ ، وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنّ عظم دائِرَةٍ فِيهِ ، لَكَعَرْضِ السّمَوَاتِ والأرْضِ ، يَأْمُرُهُ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ » ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث أبي كُرَيب عن المحاربيّ ، غير أنه قال في حديثه «كالسّفِينَةِ المُرْفأَةِ فِي البَحْرِ » .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ونُفخ في صُور الخلق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ : أي في الخلق ، قوله : فَفَزِعَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ يقول : ففزع من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الجنّ والإنس والشياطين ، من هول ما يعاينون ذلك اليوم .
فإن قال قائل : وكيف قيل : ففزع ، فجعل فزع وهي فعل مردودة على ينفخ ، وهي يَفْعُلُ ؟ قيل : العرب تفعل ذلك في المواضع التي تصلح فيها إذا ، لأن إذا يصلح معها فعل ويفعل ، كقولك : أزورك إذا زرتني ، وأزورك إذا تزورني ، فإذا وضع مكان إذا يوم أجرى مجرى إذا . فإن قيل : فأين جواب قوله : وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصورِ فَفَزِعَ قيل : جائز أن يكون مضمرا مع الواو ، كأنه قيل : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ، وذلك يوم ينفخ في الصور . وجائز أن يكون متروكا اكتفي بدلالة الكلام عليه منه ، كما قيل : وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا فترك جوابه .
وقوله : إلا مَنْ شاءَ الله قيل : إن الذين استثناهم الله في هذا الموضع من أن ينالهم الفزع يومئذٍ الشهداء ، وذلك أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون ، وإن كانوا في عداد الموتى عند أهل الدنيا ، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرناه في الخبر الماضي .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام عمن حدثه ، عن أبي هريرة ، أنه قرأ هذه الآية : فَفَزِعَ مَنْ فِي السّمَواتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال : هم الشهداء .
وقوله : وكُلّ أتَوْهُ داخرِينَ يقول : وكلّ أتوه صاغرين . وبمثل الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وكُلّ أتَوْهُ دَاخِرِينَ يقول : صاغرين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُلّ أتَوْهُ داخِرِينَ قال : صاغرين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكلّ أتَوْهُ دَاخرِينَ قال : الداخر : الصاغر الراغم ، قال : لأن المرء الذي يفزع إذا فزع إنما همته الهرب من الأمر الذي فزع منه ، قال : فلما نُفخ في الصور فزعوا ، فلم يكن لهم من الله منجى .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وكُلّ أتَوْهُ داخِرِينَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : «وكُلّ آتَوهُ » بمدّ الألف من أتوه على مثال فاعلوه ، سوى ابن مسعود ، فإنه قرأه : «وكُلّ أَتُوهُ » على مثال فعلوه ، واتبعه على القراءة به المتأخرون الأعمش وحمزة ، واعتلّ الذين قرءوا ذلك على مثال فاعلوه بإجماع القرّاء على قوله : وكُلّهُمْ آتِيهِ قالوا : فكذلك قوله : «آتُوهُ » في الجمع . وأما الذين قرءوا على قراءة عبد الله ، فإنهم ردّوه على قوله : فَفَزِع كأنهم وجّهوا معنى الكلام إلى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض ، وأتوه كلهم داخرين ، كما يقال في الكلام : رأى وفر وعاد وهو صاغر .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، ومتقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
ثم ذكر تعالى يوم { ينفخ في الصور } ، وهو القرن في قول جمهور الأمة ، وهو مقتضى الأحاديث ، وقال مجاهد : هو كهيئة البوق ، وقالت فرقة : «الصور » جمع صورة كتمرة وتمر وجمرة وجمر والأول أشهر ، وفي الأحاديث المتداولة أن إسرافيل عليه السلام هو صاحب «الصور » وأنه قد جثا على ركبته الواحدة وأقام الأخرى وأمال خده والتقم القرن ينتظر متى يؤذن له في النفخ ، وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي نفخة الفزع ، وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور{[9085]} ، وقالت فرقة إنما هي نفختان كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون }{[9086]} [ الزمر : 68 ] وقالوا : أخرى لا يقال إلا في الثانية .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أصح ، و { أخرى } [ الزمر : 68 ] يقال في الثالثة ومنه قول ربيعة بن مكدم : [ الكامل ]
«ولقد شفعتهما بآخر ثالث »{[9087]} . . . ومنه قوله تعالى : { ومناة الثالثة الأخرى }{[9088]} [ النجم : 20 ] .
وأما قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
جعلت لها عودين من . . . نشم وآخر من ثمامه{[9089]}
فيحتمل أن يريد به ثانياً وثالثاً فلا حجة فيه . وقال تعالى : { ففزع } وهو أمر لم يقع بعد إشعاراً بصحة وقوعه وهذا معنى وضع الماضي موضع المستقبل ، وقوله تعالى : { إلا من شاء الله } استثناء فيمن قضى الله تعالى من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور ، قال أبو هريرة : هي في الشهداء ، وذكر الرماني أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال مقاتل : هي في جبريل عليه السلام وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذا{[9090]} .
قال القاضي أبو محمد : على أن هذا في وقت ترقب وذلك في وقت أمن إذ هو إطباق جهنم على أهلها ، وقرأ جمهور القراء «وكل آتوه » على وزن فاعلوه ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم «أتوه » على صيغة الفعل الماضي وهي قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة ، وقرأ قتادة «أتاه » على الإفراد إتباعاً للفظ «كل » وإلى هذه القراءة أشار الزجاج ولم يذكرها ، و «الداخر » المتذلل الخاضع ، قال ابن زيد وابن عباس : «الداخر » الصاغر ، وقرأ الحسن «دخرين » بغير ألف ، وتظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذه الآية إنما أريد به الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهم أهل للفزع لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن من ذلك اليوم .
عطف على { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } [ النمل : 83 ] ، عاد به السياق إلى الموعظة والوعيد فإنهم لما ذكروا ب« يوم يحشرون إلى النار » ذكروا أيضاً بما قبل ذلك وهو يوم النفخ في الصور ، تسجيلاً عليهم بإثبات وقوع البعث وإنذاراً بما يعقبه مما دل عليه قوله { ءاتوه داخرين } وقوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } .
والنفخ في الصور تقدم في قوله { وله الملك يوم ينفخ في الصور } في سورة الأنعام ( 73 ) وهو تقريب لكيفية صدور الأمر التكويني لإحياء الأموات وهو النفخة الثانية المذكورة في قوله تعالى { ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] ، وذلك هو يوم الحساب . وأما النفخة الأولى فهي نفخة يعنى بها الإحياء ، أي نفخ الأرواح في أجسامها وهي ساعة انقضاء الحياة الدنيا فهم يصعقون ، ولهذا فرع عليه قوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض } ، أي عقبه حصول الفزع وهو الخوف من عاقبة الحساب ومشاهدة معدات العذاب ، فكل أحد يخشى أن يكون معذباً ، فالفزع حاصل مما بعد النفخة وليس هو فزعاً من النفخة لأن الناس حين النفخة أموات .
والاستثناء مجمل يبينه قوله تعالى بعد { من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون } [ النمل : 89 ] وقوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } إلى قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 101 103 ] وذلك بأن يبادرهم الملائكة بالبشارة . قال تعالى { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] وقال { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ يونس : 64 ] .
وجيء بصيغة الماضي في قوله { ففزع } مع أن النفخ مستقبل ، للإشعار بتحقق الفزع وأنه واقع لا محالة كقوله { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] لأن المضي يستلزم التحقق فصيغة الماضي كناية عن التحقق ، وقرينة الاستقبال ظاهرة من المضارع في قوله { ينفخ } .
والداخرون : الصاغرون . أي الأذلاء ، يقال : دَخِرَ بوزن منع وفرِح والمصدر الدخر بالتحريك والدخور .
وضمير الغيبة الظاهر في { ءاتوه } عائد إلى اسم الجلالة ، والإتيان إلى الله الإحضار في مكان قضائه ويجوز أن يعود الضمير على { يوم ينفخ في الصور } على تقدير : ءاتون فيه والمضاف إليه ( كل ) المعوض عنه التنوين ، تقديره : من فزع ممن في السموات والأرض آتوه داخرين . وأما من استثنى الله بأنه شاء أن لا يفزعوا فهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة .
وقرأ الجمهور { آتوه } بصيغة اسم الفاعل من أتى . وقرأ حمزة وحفص { أتوه } بصيغة فعل الماضي فهو كقوله { ففزع } .