معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

قوله تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } فيقال لهم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ( أأذهبتم ) ، بالاستفهام ، ويهمز ابن عامر همزتين ، والآخرون بلا استفهام على الخبر ، وكلاهما فصيحان ، لأن العرب تستفهم بالتوبيخ ، وتترك الاستفهام فتقول : أذهبت ففعلت كذا ؟ { واستمتعتم بها } يقول : أذهبتم طيباتكم يعني اللذات وتمتعتم بها . { فاليوم تجزون عذاب الهون } أي العذاب الذي فيه ذل وخزي ، { بما كنتم تستكبرون } تتكبرون ، { في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } فلما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة . وروينا عن عمر قال : { دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الرمال بجنبه ، فقلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك ، فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله ، فقال : أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا " .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت عبد الرحمن بن يزيد يحدث ، عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد بن الصفار ، حدثنا أحمد بن المنصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً وما لنا إلا الماء والتمر ، غير أن جزى الله نساءً من الأنصار خيراً ، كن ربما أهدين لنا شيئاً من اللبن " .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي ، حدثنا ثابت بن يزيد ، عن هلال بن خباب عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً ، وأهله لا يجدون عشاءً ، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير " . أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا روح بن أسلم ، حدثنا أبو حاتم البصري ، حدثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء من التمر يواريه إبط بلال " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يوسف بن عيسى ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أنه قال : " لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار وإما كساء ، قد ربطوا في أعناقهم ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته " .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشمهيني ، حدثنا أبو طاهر محمد بن الحارث ، حدثنا أبو لحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن مبارك ، عن شعبة بن الحجاج ، عن سعد ابن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم ، أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائماً ، فقال : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه " قال : وأراه قال : وقتل حمزة وهو خير مني ، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ، وقال : أعطينا من الدنيا ما أعطينا ، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام . وقال جابر بن عبد الله : رأى عمر بن الخطاب لحماً معلقاً في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر ؟ قلت : اشتهيت لحماً فاشتريته ، فقال عمر : أو كلما اشتهيت شيئاً يا جابر اشتريت ؟ أما تخاف هذه الآية : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

ثم بين - سبحانه - ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حال سيئة فقال : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا . . } .

والظرف متلعق بمحذوف تقديره : اذكر . وقوله { يُعْرَضُ } من العرض بمعنى الوقوف على الشئ ، وتلقى ما يترتب على هذا الوقوف على هذا الشئ من خير أو شر .

والمراد بالعرض على النار هنا : مباشرة عذابها ، وإلقائهم فيها ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار أَلَيْسَ هذا بالحق قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } قال الآلوسى : قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } . أى : يعذبون بها ، من قولهم : عُرِض بنو فلان على السيف ، إذا قتلوا به ، وهو مجاز شائع . .

وقوله : { أَذْهَبْتُمْ . . } إلخ مقول لقول محذوف . وهذا اللفظ قرأه ابن كثير وابن عامر { أأذهبتم } بهمزتين على الاستفهام الذى هو للتقريع والتوبيخ ، وقرأه الجمهور { أذهبتم } بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام .

أى : واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، يوم يقف الذين كفروا على النار ، فيرون سعيرها ثم يلقون فيها ، ويقال لهم - على سبيل الزجر والتأنيب - { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا } أى : ضيعتم وأتلفتم بالطيبات التى أنعم الله بها عليكم فى حياتكم الدنيا ، حيث { استمتعتم بِهَا } استمتاعا دنيويا دون أن تدخروا للآخرة منها شيئا . .

{ فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أى : تجزون عذاب الهون والخزى والذل .

{ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } أى : بسبب استكبارهم فى الأرض بغير الحق . .

{ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أى : وبسبب خروجكم فى الدنيا عن طاعة الله - تعالى - ، وعن هدى أنبيائه .

وقيد - سبحانه - استكبارهم فى الأرض بكونه بغري الحق ، ليسجل عليهم هذه الرذيلة ، وليبين أنهم قوم دينهم التكبر والغرور وإيثار اتباع الباطل على الحق .

قال الجمل : والحاصل أنه - تعالى - علل ذلك العذاب بأمرين :

أحدهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب .

والثانى : الفسق وهو ذنب الجوارح ، وقدم الأول على الثانى ، لأن أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله عَلى النّارِ يقال لهم : أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فيها . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا على النّارِ قرأ يزيد حتى بلغ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تعلمون والله إن أقواما يَسْترطون حسناتهم . استبقى رجل طيباته إن استطاع ، ولا قوّة إلا بالله . ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي . وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم ، صُنِع له طعام لم ير قبله مثله ، قال : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير ؟ قال خالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر ، وقال : لئن كان حظنا في الحُطام ، وذهبوا قال أبو جعفر : فيما أرى أنا بالجنة ، لقد باينونا بونا بعيدا .

وذُكر لنا . أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصّفة مكانا يجتمع فيه فقراء المسلمين ، وهم يَرْقعون ثيابهم بالأَدَم ، ما يجدون لها رقاعا ، قال : «أنتم اليوم خير ، أو يَوم يغدو أحدكم في حلة ، ويروح في أُخرى ، ويغدي عليه بجفنة ، ويُراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة » . قالوا : نحن يومئذٍ خير ، قال : «بل أنتم اليوم خير » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة ، قال : «إنما كان طعامنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأسودين : الماء ، والتمر ، والله ما كنا نرى سمراءكم هذه ، ولا ندري ما هي » .

قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ ، عن أبيه ، قال : أي بنيّ لو شهدتْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا السماء ، حسبت أن ريحنا ريح الضأن ، إنما كان لباسنا الصوف .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا . . . إلى آخر الاَية ، ثم قرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعمالَهُمْ فِيها ، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ، وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ . . . إلى آخر الاَية ، وقال : هؤلاء الذين أذهبوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أذْهَبْتُمْ بغير استفهام ، سوى أبي جعفر القارىء ، فإنه قرأه بالاستفهام ، والعرب تستفهم بالتوبيخ ، وتترك الاستفهام فيه ، فتقول : أذهبت ففعلت كذا وكذا ، وذهبت ففعلت وفعلت . وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، ولأنه أفصح اللغتين .

وقوله فالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ يقول تعالى ذكره : يقال لهم : فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون : أي تثابون عذاب الهون ، يعني عذاب الهوان ، وذلك عذاب النار الذي يهينهم . كما :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عَذَابَ الهُونِ قال : الهوان بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ يقول : بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم ، فتأبون أن تخلصوا له العبادة ، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ ، أي بغير ما أباح لكم ربكم ، وأذن لكم به وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ يقول : بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصُونه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } يعذبون بها . وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم : عرضت الناقة على الحوض . { أذهبتم } أي يقال لهم أذهبتم ، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين . { طيباتكم } لذاتكم . { في حياتكم الدنيا } باستيفائها . { واستمتعتم بها } فما بقي لكم منها شيء . { فاليوم تجزون عذاب الهون } الهوان وقد قرئ به . { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله ، وقرئ { تفسقون } بالكسر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

انتقال إلى وعيد الكافرين على الكفر بحذافره ، وذلك زائد على الوعيد المتقدم المتعلق بإنكارهم البعث مع عقوقهم الوالدين المسلمين . فالجملة معطوفة على جملة { والذي قال لوالديه أفّ لكما } [ الأحقاف : 17 ] الآيات .

والكلام مقول قول محذوف تقديره : ويقال للذين كفروا يومَ يعرضون على النار { أذهبتم طيباتكم } ، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى { لا يظلمون } [ الأحقاف : 19 ] ، أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا ، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا فإن نعمة الكافر في الدنيا نعمة عند المحققين من المتكلمين . وعن الأشعري : أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ، وتُؤُوِّل بأنه خلاف لفظي ، أي باعتبار أن عاقبتها سيئة . ونعمة الله في الدنيا معاملة بفضل الرّبوبية وجزاؤهم على أعمالهم في الآخرة معاملة بِعدل الإلهية والحكمة .

وانتصب { يوم يعرض } على الظرفية لفعل القول المحذوف . والعرض تقدم في قوله : { أولئك يعرضون على ربهم } في سورة هود ( 18 ) وقوله : { النار يُعرضون عليها } في سورة غافر ( 46 ) وفي قوله : { وتراهم يعرضون عليها } في سورة الشورى ( 45 ) .

وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعادٌ له عن مكان له . والذهاب : المبارحة . والمعنى : استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة ، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله : { فاليوم تجزون عذاب الهون } .

فالفاء فصيحة . والتقدير : إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيّىء أعمالكم ، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب . وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخّى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه .

وروى الحسن عن الأحنف بن قيْس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكباداً ، وصلائق وصِنَاباً وكَراكر وأسْنِمَة{[382]} ولكني رأيت الله نعى على قوم فقال : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } . وإنما أراد عمر بذلك الخشيةَ من أن يشغله ذلك عن واجبه من تدبير أمور الأمة فيقع في التفريط ويؤاخذ عليه . وذكر ابن عطية : أن عمر حين دخل الشام قدّم إليه خالد بن الوليد طعاماً طيباً . فقال عمر : هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير ؟ فقال خالد : لهم الجنة ، فبكى عمر . وقال : لئن كان حظنا في المقام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيداً .

والهُون : الهوان وهو الذلّ وإضافة { عذاب } إلى { الهون } مع إضافة الموصوف إلى الصفة . والباء في قوله : { بما كنتم تستكبرون } للسببية وهي متعلقة بفعل { تجزون } .

والمراد بالاستكبار ، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد .

والفسوق : الخروج عن الدين وعن الحق ، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون ، وذلك مبين في أحكام الدين . والفسوق : هنا الشرك .

وقرأ الجمهور { أذهبتم } بهمزة واحدة على أنه خبر مستعمل في التوبيخ . وقرأه ابن كثير { أأذهبتم } بهمزتين على الاستفهام التوبيخي .


[382]:- الصلائق بالصاد جمع صليقة وهي الشاة المصلوقة، أي المشوية، والصناب بكسر الصاد ونون مخففة وموحدة صباغ من خردل وزبيب يؤدم به اللحم والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غدة في صدر البعير تلاصق الأرض إذ برك وهي لحم طيب.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا" بالله "عَلى النّارِ"، يقال لهم: "أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها "فيها... ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي... وقوله: "فالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ" يقول تعالى ذكره: يقال لهم: فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا "تجزون": أي تثابون "عذاب الهون"، يعني عذاب الهوان، وذلك عذاب النار الذي يهينهم...

"بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ" يقول: بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم، فتأبون أن تخلصوا له العبادة، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ، أي بغير ما أباح لكم ربكم، وأذن لكم به،

"وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" يقول: بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصُونه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... يذكّرهم بهذه الآيات وأمثالها ليعرفوا ما كان منهم، وما استوجبوا من العقوبات...

{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} يخرّج على وجهين:

أحدهما: {أذهبتم طيباتكم} التي أعطيتموها في منافعكم، وأتلفتموها، ولم تؤدّوا شكرها، ولم تقوموا بوفائها، والله أعلم.

والثاني: {أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا} أي أتلفتموها، ولم تكتسبوها بالطيبات الموعودة في الآخرة والنِّعم الدائمة. فكل ما أعطى في هذه الدنيا من الأموال إنما أعطى ليستعينوا بها على عمل الآخرة، وليتزوّدوا لها، ويجعلوها زادا للآخرة، فأما إذا جعلوها في غير ذلك فهو إتلاف وجعل في غير ما جُعل؛ وذلك وبال عليهم وحسرة...

{فاليوم تُجزون عذاب الهون} أي عذابا تهانون فيه، ويُهينكم ذلك العذاب...

{بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق} يحتمل استكبارهم الذي ذكر على الرسل استكبروا على الرسل فتركوا اتباعهم، فاستكبروا على آياته. وقوله تعالى: {وبما كنتم تفسُقون} والفسق هو الخروج عن أمر الله تعالى.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} وذلك أنهم يفعلون ما يشتهون لا يتوقون حراما ولا يجتنبون مأثما...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والطيبات: الملاذ، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطيبات...

و {عذاب الهون}: العذاب الذي اقترن به هوان، وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا، يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ من الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي، فيَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ، فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ...

إِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ من الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ، فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ... وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ: عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً؛ وَقَدْ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ويوم يعرض الذين كفروا على النار} قيل يدخلون النار، وقيل تعرض عليهم النار ليروا أهوالها... هذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه، والدليل عليه قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقباض، وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي، وذلك مما يجر بعضه إلى بعض ويقع في البعد عن الله تعالى بسببه...

{فاليوم تجزون عذاب الهون} أي الهوان، وقرئ عذاب الهوان {بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} فعلل تعالى ذلك العذاب بأمرين: أولهما: الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب. الثاني: الفسق وهو ذنب الجوارح، وقدم الأول على الثاني لأن أحوال القلوب أعظم وقعا من أعمال الجوارح، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق، ويستنكفون عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأما الفسق فهو المعاصي...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ...الآية جوزوا من جنس عملهم، فكما نَعَّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله من ذلك كله...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ويوم} أي واذكر لهم يوم يعرضون...

{يعرض الذين كفروا} أي من الفريقين المذكورين {على النار} أي يصلون لهبها ويقلبون فيها كما يعرض اللحم الذي يشوى، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع...

{أذهبتم} في قراءة نافع وأبي عمرو والكوفيين بالإخبار، وقراءة الباقين بالاستفهام لزيادة الإنكار والتوبيخ {طيباتكم} أي لذاتكم باتباعكم الشهوات {في حياتكم} ونفر منها بقوله تعالى: {الدنيا} أي القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها...

{واستمتعتم} أي طلبتم وأوجدتم انتفاعكم {بها} وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم...

{فاليوم تجزون} أي على إعراضكم عنا- بجزاء من لا تقدرون التقصي من جزائه بأيسر أمر منه {عذاب الهون} أي الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذل وخزي {بما كنتم} جبلة وطبعاً {تستكبرون} أي تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار {في الأرض} التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب...

{بغير الحق} أي الأمر الذي يطابقه الواقع وهو أوامرنا ونواهينا، ودل- بأداة الكمال على أنه لا يعاقب على الاستكبار مع الشبهة {وبما كنتم} على الاستمرار {تفسقون *} أي تجددون الخروج عن محيط الطاعة الذي تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل إلى نوازع المعاصي.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} حيث اطمأننتم إلى الدنيا، واغتررتم بلذاتها...

{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: العذاب الشديد الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق، أي: تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى الله وإلى حكمه وأنتم كذبة في ذلك، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} أي: تتكبرون عن طاعته، فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على الله بنسبته إلى رضاه والقدح في الحق والاستكبار عنه فعوقبوا أشد العقوبة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها).. فقد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفدوها في الحياة الدنيا، فلم يدخروا للآخرة منها شيئا؛ ...

(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون).. وكل عبد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق. فالكبرياء لله وحده. وليست لأحد من عباده في كثير أو قليل. وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض. فجزاء الاستكبار الهوان. وجزاء الفسوق عن منهج الله وطريقه الانتهاء إلى هذا الهوان أيضا...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ويقال للذين كفروا يومَ يعرضون على النار {أذهبتم طيباتكم}، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى {لا يظلمون} [الأحقاف: 19]، أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا... وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعادٌ له عن مكان له. والذهاب: المبارحة. والمعنى: استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله: {فاليوم تجزون عذاب الهون}. فالفاء فصيحة. والتقدير: إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيئ أعمالكم، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب. وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخّى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه...

والهُون: الهوان وهو الذلّ وإضافة {عذاب} إلى {الهون} مع إضافة الموصوف إلى الصفة. والباء في قوله: {بما كنتم تستكبرون} للسببية وهي متعلقة بفعل {تجزون}. والمراد بالاستكبار، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد. والفسوق: الخروج عن الدين وعن الحق، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون، وذلك مبين في أحكام الدين. والفسوق: هنا الشرك...

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

المراد بالعرض مباشرة العذاب...

. وقال بعض العلماء: معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها، والكشف لهم عنها، حتى يروها كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ}. وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]...

التحقيق: إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم، لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم...

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها» هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفي لفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته» ا ه...

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي عذاب الهوان وهو الذل والصغار. وقوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}، الباء في قوله: بما كنتم سببية، وما مصدرية أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض، وكونكم فاسقين. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون، وهو عذاب النار...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(ويوم يعرض الذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...). نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلاّ التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل، واتباع الشهوات الأعمى، وعبادة الهوى، والاستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

بحوث:

تقول هذه الآية: إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة، وقد ورد نظير هذا في الآية (46) من سورة المؤمن حول عذاب الفراعنة في البرزخ، إذ تقول: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأُخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين: (وعرضنا جهنّم للكافرين عرضاً). لذلك قال بعض المفسّرين: إنّ في القيامة نوعين من العرض: فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع، وهذا بحدِّ ذاته عقاب وعذاب نفسي، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله...

.فيمكن القول في هذه الصورة: إنّ الكافرين يعرضون على النّار، كما تعرض عليهم، وكلا التعبيرين صحيح...

2 إنّ جملة: (أذهبتم طيّباتكم) تعني التمتع بلذائذ الدنيا، والتعبير ب «أذهبتم» لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها. ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمراً مذموماً قبيحاً، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية، ونسيان ذكر الله والقيامة، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها...

للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط، إلاّ أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقاً لا غير. 4 إنّ التعبير ب (عذاب الهون) بمثابة ردّ فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض، لأنّ العقوبة الإلهية تتناسب تماماً مع نوع الذنب والمعصية، فأُولئك الذين تكبّروا على خلق الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الاستكبار، والثّاني: الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث الأنبياء والقيامة، والثّاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين.

إنّ التعبير ب (غير الحق) لا يعني أنّ الاستكبار نوعان: حق، وغير حق، بل إنّ هذه التعابير تقال عادةً للتأكيد، ونظائرها كثير...