السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

{ ويوم } أي : واذكر يا أفضل الخلق لهؤلاء يوم يعرضون هكذا كان الأصل . ولكنه تعالى أظهر الوصف الذي أوجب لهم الخزي بقوله تعالى : { يعرض الذين كفروا على النار } أي : يصلون لهيبها ويقلبون فيها ، كما يعرض اللحم الذي يشوى وقيل : تعرض عليهم النار ليروا أهوالها ، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع ؛ لأنهم لم يذكروه تعالى حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها عند مخالفة أمره سبحانه وتعالى { أذهبتم طيباتكم } أي : لذاتكم باتباعكم الشهوات . وقرأ ابن كثير وابن عامر قبل الدال : بهمزتين مفتوحتين الأولى : محققة بلا خلاف . والثانية : مسهلة بخلاف عن هشام وأدخل هشام بينهما ألفاً ولم يدخل ابن كثير وابن ذكوان والباقون بهمزة واحدة محققة . { في حياتكم الدنيا } أي : القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها ، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها { واستمتعتم } أي : طلبتم وأوجدتم انتفاعكم { بها } وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم . والمعنى : أن ما قدّر لكم من الطيبات والدرجات فقد استوفيتموه في الدنيا فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها وعن عمر رضي الله عنه «لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي » قال الواحدي : إنّ الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل لأنّ هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع لأنها وردت في حق الكافر وإنما وبخ الله تعالى الكافر لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤدّ شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ويدل على ذلك قوله تعالى : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } ( الأعراف : 32 ) نعم لا ينكر أنّ الاحتراز عن التنعم أولى لأنّ النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربما حمل الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي .

روى عمر قال : «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على رمال حصير ، قد أثر الرمال بجنبه فقلت : يا رسول الله ، ادع الله تعالى أن يوسع على أمتك ، فإنّ فارس والروم قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله تعالى . فقال صلى الله عليه وسلم : أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا » وعن عائشة رضي الله عنها قالت : «ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم » وعنها أنها قالت : «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً وما هو إلا الماء والتمر » «وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم الشعير » والأحاديث في هذا كثيرة .

ولما كانت الاستهانة بالأوامر والنواهي استهانة بيوم الجزاء سبب عنه قوله تعالى :

{ فاليوم تجزون } أي : على إعراضكم عنا { عذاب الهون } أي : الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلّ وخزي { بما كنتم } أي : جبلة وطبعاً { تستكبرون } أي : تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار { في الأرض } التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب أحق شيء بالتواضع والذل والهوان { بغير الحق } أي : الأمر الذي يطابقه الواقع ، وهو أوامرنا ونواهينا { وبما كنتم } أي : على الاستمرار { تفسقون } أي : بسبب الاستكبار الباطل ، والفسوق عن طاعة الله تعالى .

تنبيه : دلت الآية على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأنّ الله تعالى علل عذابهم بأمرين ؛ أولهما : الكفر . وثانيهما : الفسق وهذا الفسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر ، لأنّ العطف يوجب المغايرة فثبت أنّ فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات .